بلدة «بنيبيل».. صدى الحضارة الآرامية في قلب ماردين

تقع بنيبيل (Benibil) في محافظة ماردين جنوب شرق تركيا ضمن منطقة طور عبدين الجبلية، وهي منطقة ذات تاريخ عريق وثقافة غنية، هي ليست مجرد مكان، بل رمز لصمود اللغة الآرامية والثقافة السريانية والهوية الشرقية الأصيلة، في كل زاوية من بيوتها، وكل جدار من كنائسها، وكل قطرة من نبعها، تروي قصة حكاية حضارة لم تنكسر حافظت على تراثها عبر القرون.

على ارتفاع يناهز 1000 متر عن سطح البحر، تتربع قرية بنيبيل شرق مدينة ماردين بنحو 12 كيلومتر وعلى بعد ساعتين مشيا على الأقدام.

تقع في واد عميق وواسع، تحيط بها معابد آلهة الشمس السورية وكنائسها السريانية، مساحتها مع أراضيها الزراعية حوالي (15×10كم)، وتحيط بالقرية جبال طور عبدين، تعتبر هذه المنطقة مركزا تاريخيا آراميا هاما.

 هذه القرية الصغيرة، التي تكاد تضيع وسط الصخور والوديان، تخبئ في جنباتها إرثا حضاريا ضاربا في عمق التاريخ، وتجسد لوحة حية من الثقافة الآرامية التي لا تزال تنبض حتى يومنا هذا.

يعود تأسيس قرية بنيبيل وبالآرامية (قريثو بنيبيل)  إلى حقبة ما قبل المسيحية، وعلى الأرجح أنها أسست في العصر الآرامي، أي في الفترة الممتدة ما بين القرن 12 والقرن 10 قبل الميلاد، ضمن نطاق الممالك الآرامية المنتشرة في وسط وجنوب وشمال سوريا والجزيرة وبلاد الرافدين، أسست كقرية آرامية ذات طابع ديني، واستمرت مأهولة حتى العصر المسيحي، لتتحول لاحقا إلى قرية سريانية أرثوذكسية.

– جذور الاسم الآرامية.

يحمل اسم بنيبيل دلالة آرامية واضحة اذ يتكون من مقطعين (بني) بالآرامية بمعنى  (أبناء) و (بيل ) أو ( بعل ) او (إيل ) حسب تغيير الأحرف، وهو اسم الإله الكنعاني السوري، وهذين المقطعين معا ، هما تركيب لغوي آرامي ديني قديم كان سائدا في التاريخ السوري ، ما يعكس ارتباطا دينيا عميقا بالثقافة الروحية السائدة في سوريا قبل المسيحية،

– الموقع التاريخي ضمن طور عبدين.

المنطقة التي تقع فيها بنيبيل معروفة بأنها أحد أقدم مواطن الآراميين (السريان) في سوريا، وكانت تعج بالقرى والمعابد والأديرة قبل وبعد انتشار المسيحية.

– السكان والتاريخ الدموي للمجازر العثمانية.

في الفترة ما بين 1850 وحتى 1895 أي قبل المجازر العثمانية قدر عدد سكان بنيبيل بنحو 1500 – 2000 نسمة، جميعهم من السريان الأرثوذكس، وكانت القرية مزدهرة بالزراعة ويتميز مجتمعها بتماسكه وصلابته وارتباطه بأرضه.

(أثناء مجازر سيفو) في الفترة ما بين

عام 1895 وحتى 1918.

لم تكن بنيبيل بمنأى عن المجازر التي طالت بعض المكونات التاريخية في المجتمع وذلك أواخر العهد العثماني، خاصة مجازر عام 1895، حيث هاجمت ميليشيات كردية بتواطؤ مع الدولة العثمانية قرى طور عبدين، وقتلت الآلاف من السريان والكلدان، كانت بنيبيل واحدة من هذه القرى التي صمدت أمام الموت، لكنها دفعت ثمنا باهظا من أرواح سكانها ومقدساتها.

وقد هاجر العديد من السكان بعد المجازر الى فلسطين ولبنان (بيروت وزحلة) والجزيرة السورية (القامشلي ورأس العين والحسكة حيث ضفاف الخابور)

رغم كل ذلك، لم تنطفئ جذوة الحياة فيها.

وقد تعرضت القرية لأكثر من هجوم خلال هذه المجازر مما أدى الى انخفاض عدد سكانها إلى أقل من 250 نسمة

لكن في الفترة ما بين عام 1950وحتى 1960(بعد الاستقرار النسبي).

عاد بعض الأهالي، واستقر عدد السكان ما بين 350–400 نسمة. كانت الحياة الزراعية ما تزال نشطة، رغم التهميش الرسمي الحكومي.

وصولا الى (فترة الهجرة الجماعية) ما بين عام 1970 وحتى عام 1990.

وبسبب تدهور الوضع الأمني والسياسي والديني للأقليات، خاصة بعد النزاع مع حزب العمال الكردستاني والقمع الحكومي، هاجر معظم السكان إلى أوروبا، خصوصا إلى السويد وألمانيا. لم يبق في القرية سوى 50–100 نسمة.

وحاليا يقدر عدد سكان بنيبيل بأقل من 30 شخصا معظمهم من كبار السن.

وتعتبر هذه القرية الوحيدة وعبر مئات السنين، ومنذ بنائها لم يسكنها سوى الآراميين الأصليين.

-الطبيعة والمناخ.

من أبرز مظاهر الطبيعة في بنيبيل ينابيعها العديدة في السهول ويعتبرنبع نهراسة من أغزرها وأهمها ، الذي يشق طريقه بين الصخور ويمنح القرية حياة دائمة ، حتى في أشد فصول الجفاف ، هذا النبع لا يغذي الحقول فحسب ، بل يعد رمزا للخصب والاستمرار والحياة ، وقد ارتبط في الموروث الشعبي بالديمومة الروحية للقرية واستمرار الحياة ، وحول النبع تنتشر بساتين الزيتون والكروم والتين والرمان ، فضلا عن زراعات القمح والشعير والسمسم ، وهذه المزروعات عرفها سكان المنطقة منذ العصور الآرامية ، واحتفظوا بها جيلا بعد جيل ، وتعد هذه الزراعات امتدادا حيا لطبيعة الحياة الآرامية التي مزجت الدين بالطبيعة ، والعبادة بالعمل في الأرض ،  وجذرت ارتباط سكانها بأرضها ، ومن القصص المروية ، أن العديد من سكانها ممن هاجر مازال يحتفظ بحفنة من ترابها ، انه مثال حي على الاثم الكنعان والذي مازال مغروسا في روح ووجدان ابناء سوريا ، وأذكر جيدا كيف كان جدي (داؤود بحي حنا وأخيه موسى ) الذين احتفظا بحفنة من تراب بنيبيل بين صفحات انجيلهم المقدس كلما تصفحوا كتابهم المقدس  شموا تراب أرضهم ، ياله من اثم عظيم

– الأديرة والكنائس.

تعرضت العديد من الكنائس والآثار القديمة للنهب والتدمير ففي شتاء العام 1937، تم تدمير كنيسة الكبوشيين في ماردين.

– كنائس وأديرة بارزة في منطقة ماردين.

دير مار كبرئيل يعتبر من أقدم الأديرة السريانية الأرثوذكسية في العالم، تأسس عام 397.

دير مار أوكين تأسس في القرن الرابع الميلادي،

كنيسة مور كوريا كوس، تعود للقرن الثامن الميلادي.. 

دير مار حنانيا اشتهر باسم دير الزعفران، يعد من أقدم الأديرة السريانية حيث تأسس (حوالي عام 493 م).

كان مقرا للبطريركية السريانية حتى عام 1932.

– الكنائس والأديرة في قرية بنيبيل.

تعرض العديد منها للتدمير أو الإهمال.

من هذه المعابد والأديرة.

كنيسة مار قرياقس، وهي من أقدم كنائس بنيبيل.

كنيسة مار إسطفانوس، الواقعة بالقرب من دير بيزنطي قديم.

كنيسة العذراء، التي بقيت مركزا روحيا لأهل القرية حتى اليوم.

هيكل محفور في الصخر ينسب للقديس بهنام.

صومعة مار برصوم، التي كانت مقصدا للمتعبدين والنساك

في هذه البلدة قصص كثيرة تحكي عن طبيعة المواجهة في أهلها لكل محاولات تبديل الواقع التي جرت منذ زمن السلطنة العثمانية ثم محاولات الاكراد وتم افشالها.

انها قرية من قرى أمتنا، هذه الأمة التي تختزن حضارة البشرية وانسانيتها في كل ركن وزاوية ومكان ، أرضها المقدسة تنير مشاعل النور للبشرية.