تتناول هذه الحلقة تصورا لبعض الحلول المناسبة لازالة العوائق(1) التي تعترض دور المجتمع المدني في توثيق الروابط بين أبناء المجتمع الواحد.
لا يستقيم اصلا، أداء العمل في مؤسسات المجتمع الأهلي المدني، الا بتصحيح «موضوع الشعور بالانتماء» عند الافراد والجماعة، واحداث ثورة في مفاهيم القيم والعلاقات الموحدة للهيئة الاجتماعية، في حقوقها، وشخصيتها، وارادتها وسيادتها.
وإذا كان الشعور بالانتماء (بما هو)، يشكل العنصر الثابت من عناصر الوجود الانساني والذي يجد جذوره في حالات الاجتماع الأولى للانسان، فان موضوع هذا الشعور بالانتماء ليس ثابتا، بل يختلف من وضع لآخر، فبينما العشيرة تشكل هذا الموضوع في المجتمعات البدائية، فإننا نجد الأمة – المجتمع يشكل هذا الموضوع في المجتمعات الحديثة، بتعبير آخر يصبح موضوع الشعور بالانتماء هو الى المجتمع ككل، وليس الى فئة مهما كبر حجمها او صغر.
من هنا، فإن موضوع الشعور بالانتماء – في مجتمعات العالم العربي، وما يشابهها من المجتمعات الأخرى، والأمر ينطبق، طبعا، على مجتمعنا ينحصر موضوع الشعور بالانتماء، بالضرورة، في نطاق أقل شمولا من نطاق الأمة- المجتمع، وفي هذه الحالة تصير العائلة او العشيرة او الطائفة.. هي الموضوع الأخير للشعور بالانتماء والولاء، وهكذا تصبح الولاءات الفئوية، هي الموضوع الأخير لتحديد نوع العلاقات والروابط بين الأفراد والمؤسسات المدنية، ليس فقط على الصعيد الاجتماعي، بل على الصعيد السياسي ايضا، حيث تتميز هذه العلاقات والروابط بالسلبية والتنافر، نظرا لتعدد الانتماءات والولاءات وتناقضها وتضاربها وفقا لمصالحها وحقوقها وقيمها الفئوية، فتنشب الخلافات، التي لا مجال لحسمها الا باللجوء الى «القوة» ، التي غالبا، ما يكون طابعها عنفيا دمويا تدميريا لبنية المجتمع. وفي هذا الوضع لا نتوقع ان نجد لدى هذا المجتمع شعورا بوجود مصالح وحقوق مشتركة بين جميع فئاته(1).
وإذا كان «مجتمعنا» ما زال يتخبط في موضوع الشعور بالانتماء والولاء الفئويين، فهذا يعني ان هذا المجتمع ما برح يعيش في حالات الاجتماع الأولى للانسان، بالرغم من مظاهر الثقافة، المصطنعة التي نشهدها، واذا كان الأمر كذلك، فما هو الحل لانهاض هذا المجتمع واصلاحه وتحويله الى مجتمع مدني حديث راق؟.
تبدأ معالجة هذا الواقع في انشاء فهم جديد لموضوع الشعور بالانتماء، وما يترتب عليه من دلالات ثقافية راقية في معاني الولاء والروابط والحقوق والسيادة الخ.. التي تكوّن مجتمعة جوهر عقيدة المجتمع المدني، على قاعدة محبة الوطن والارتباط الاجتماعي وفاقا للوجدان القومي، أي الشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير، هذه القاعدة التي تسقط كل العوائق وتصلح بالتالي لتشييد مجتمع جديد بنظام جديد، نسبة الرابطة القومية فيه مؤسسة على فكرة الوطن الواحد والحياة الواحدة والمصلحة الواحدة والمصير الواحد للجماعة الواحدة، وليس للفئات المفككة المهلكة لوحدة المجتمع.
وهنا يبرز دور النخب او القيادات او الطبقة المتنورة في تثبيت استقلالية مؤسسات المجتمع المدني وتطويرها وتحديثها وتثويرها في تشكلاتها الانتمائية والقيمية والاقتصادية والثقافية، التي تتجلى في بناء الهوية المجتمعية والانسانية، والالتزام بتكوين خلقي داخلي، الى تملك الرأسمال والتوظيف في الانتاج والقدرة على اتخاذ القرار المالي المستقل، فالى تملك القدرة على السيطرة على التكنولوجيا في أبعادها المعرفية والتواصلية والانتاجية. وكل ذلك بهدف خلق القيادات الديمقراطية القادرة على قيادة المجتمع نحو الأفضل والأمثل والأجمل والأكمل، ومع ما يتعرض له المسار القانوني لممارسة السلطة، من الملاحظ أن هناك تحركات داخلية في غالبية المجتمعات المعاصرة لتأمين الشروط الملائمة لبروز القيادات الديمقراطية، وتتحقق هذه الحركة حاليا، عبر اتجاهات ثلاثة:
ـ تطوير الشخصية القيادية وأساليب القيادة والحكم لتتلاءم مع مستلزمات الديمقراطية في السلطة.
تطوير المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات العامة، وفي تنفيذها.
ـ تطوير المراقبة والمساءلة وسبل معالجة النزاعات والمعارضة بتنظيم المواجهات النقدية(1) .
ـ تطوير مفهوم النظر الى النظام الحزبي ودوره الديمقراطي في صيانة مسؤولية الحكومة تجاه الشعب، وهذه خاصة تحرص الديمقراطية عليها، الى حد يحمل الحكومة على أن تقبل بالمعارضة.
فالأحزاب العقائدية هي التي تحدّد القضايا الكبرى العامة، وتشجّع التحاور بين المختلفين عليها، عبر صيانة الحرية، وتشجيع الصراع العقائدي والفكري بين التيارات المتنازعة. وسبيل كل حزب في نشاطه هذا ان يضع برنامجه، ويصطفي مرشحيه، ويوضح للجمهور مختلف احتمالات خياراته السياسية. ويحرره من جموده، ويحرك الرأي العام على نطاق واسع، لينال تأييده… ويبقى في حركته قوام النظام الديمقراطي، والاداة التي تغذي شعور الرأي العام بالسياسة العامة.
ومن المفترض ان تكون الاحزاب هي اداة الرأي في الديمقراطية الحديثة، وأن تكون المعبر الالزامي من التمثيل الحكومي المحدود للمجتمع إلى التمثيل التعبيري للديمقراطية في مفهومها السيادي المطلق للدولة القومية.
(1) – راجع فقرة « العوائق»
(1) – عادل ضاهر: المجتمع والانسان دراسة في فلسفة انطون سعاده الاجتماعية، منشورات مواقف، الطبعة الاولى، 1980،ص 273-274.
(1) – المجتمع، بنية وحركة: المركز التربوي للبحوث والانماء، ص 56