«الآشوريون» يجمعهم ترابط اجتماعي – جغرافي واحد مكنّهم من تأسيس أول دولة في التاريخ كنظام سياسي – اجتماعي تحت حكم الملك سرجون الاكادي، وعلى مر آلاف السنين برزوا كقوة منافسة في الشرق القديم في مراحل متعددة حين أخضعوا الأقاليم المجاورة، وبذلك أسسوا صرح أعظم إمبراطورية في التاريخ، ومنها قدموا أعظم الإنجازات للبشرية. فقد وضعوا أسس الهندسة والرياضيات والزراعة والعلوم العسكرية، كما برزوا في فن النحت والبناء.
ولكن لحكاية الآشوريين في سورية تفاصيل أخرى مختلفة وقلقة ومتأرجحة بين استقرار وعبثية اللحظة في التاريخ السوري.
سياق تاريخي
في آب /أغسطس عام 1933 قامت بها الحكومة العراقية بحق الآشوريين في شمال العراق في عمليات تصفية منظمة بعهد الملك فيصل الأول وحكومة رشيد عالي الكيلاني في آب 1933.حيث شملت 63 قرية آشورية في لواء الموصل، والتي أدت إلى استشهاد أكثر من 5,000 آشوري.
ففي 5 آب الصحافة العراقية نشرت أخباراً عن قيام الآشوريين بثورة مسلحة بدعم من بريطانيا من أجل تفكيك العراق وإعادته تحت السيطرة البريطانية مرة أخرى. في السادس من آب دخل الجنود العراقيون ومن معهم من مرتزقة بقمصانهم الزرقاء الفاقعة إلى بلدة سيميل، فخيم الرعب على السكان وتم تطويق مركز الشرطة حيث تواجد عدد كبير من الآشوريين حوله، وفتح النار على الاشوريين العُزّل، في البداية كان الإعدام من نصيب الرجال البالغين، ثم ذُبِحَ كل الذكور من سن العاشرة فما فوق، وتم تفتيش البيوت بهمجية ووحشية وسِيق الرجال المتبقين إلى ساحة الإعدام لتصفيتهم جسدياً. بعد المذبحة اقتنع الآلاف من الآشوريين باستحالة العيش في العراق بعد تدمير قراهم فنزحوا إلى سوريا حيث لم تمانع السلطات الفرنسية توطينهم بها، فاستوطن عدة عشرات آلاف ضفاف نهر الخابور في محافظة الحسكة ملتحقين بذلك بأقرانهم من السريان الذين استوطنوا هناك عقب مذابح سيفو، وأسسوا في تلك الأنحاء أكثر من 30 قرية أهمها تل تمر. يذكر أن الآشوريون الذين وفدوا إلى سوريا حينذاك كانوا يمرون برحلة لجوءٍ ثانية، إذ سبق لهم اللجوء عقب مذابح سيفو إلى العراق وبعدها جاءوا إلى سوريا هرباً ممّا تعرضوا له من مذابح في العراق.
تل تمر
تعتبر مدينة تل تمر الموطن الرئيسي والتجمع الأكبر للآشوريين في سوريا، ولا سيما في حوض نهر الخابور المار بأطرافها. ويتبعها عدّة قرى آشورية تتموضع جميعها على ضفاف نهر الخابور. ويبلغ عدد هذه القرى 33 قرية، ولطالما شكّلت تلك القرى ذات الأراضي العالية الخصوبة، والشهيرة بزراعة القمح والعنب والتفاح، وإنتاج الألبان الفاخرة علامات فارقةً في الجزيرة السوريّة. وفرض أبناؤها حضورهم في المجتمع السوري عبر ما قدموه من إسهاماتٍ اقتصادية واجتماعية على امتداد عقود من الزمن.
تجفيف الخابور
في التسعينيات، بدأت الينابيع الجوفية الواقعة حول مدينة رأس العين على الحدود بين تركيا وسوريا، التي تغذي نهر الخابور، في الجفاف نتيجة الإفراط في الضخ على جانبي الحدود، وبناء السدود الثلاثة التي أقامتها تركيا على نهر الخابور في الأراضي التركية، إضافة لحفر 87 بئراً على ضفتي نهر الخابور بشكل مخالف للقانون وعبر دفع رشاوي، ونتيجة ذلك عانت أكثر من 40 قرية في الخابور تبعات التصحّر وهجرها أهلها. وقد بدأت دينامية القحط وسنوات الجفاف منذ 1958، وما بين عامَي 1990 – 2005، فتحولت الأراضي من منطقة بعلية الى منطقة زراعة مروية.
ذكرى مأساوية
كان يوم 23 شباط /فبراير 2015 يوماً مأساوياً على آشوريي سوريا، لاسيما الذين كانوا يقطنون القرى الجنوبية والغربية لتل تمر. سيطر داعش على 14 قرية. وقام التنظيم بخطف 220 آشورياً حينذاك. بتسهيل وغض النظر من قبل القوى المسلحة المسيطرة على محافظة الحسكة، ودمّر التنظيم حوالي ثمانية كنائس في حوض الخابور من ضمنهم كنيسة السيدة العذراء، التي يبلغ عمرها أكثر من ثمانين عاماً، بقرية تل نصري. كما تم استهداف كنيسة القديس مار توما في قرية أم الكيف. وأطلق سراح الآشوريين المختطفين على دفعات لمدة عام بعد دفع فدية.
ورغم طرد داعش من المنطقة في عام 2016 إلا أن المنطقة لم تستقر، وبدأت تركيا والفصائل التابعة لها بشن ضربات منتظمة على قوات «قسد»، وباتت القرى الآشورية على خط جبهة مشتعل ما جعل المنطقة كأنها بلا حياة، وأمام قلة عدد الآشوريين العائدين إلى ضفاف الخابور، وجد وافدون جدد ملجأ لهم في القرى والمنازل الخالية. وبدأت هذه العائلات بالتوافد إلى تل نصري، في عام 2018، بعد عملية «غصن الزيتون» التركية، التي استولت خلالها الفصائل المدعومة من تركيا على منطقة عفرين، فتوجهت آلاف العائلات الكردية إلى مناطق نفوذ «قسد» في محافظة الحسكة، وبحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وصل عدد النازحين المقيمين في ناحية تل تمر كلها إلى أكثر من 16,000 نازح، مشكلِّين بذلك نحو ثلث إجمالي عدد السكان.
قلق مشروع
مع احتدام التوترات بين المهجّرين والمجتمعات المستضيفة في قرى الخابور، تنامى شعور القلق عند أفراد المجتمع الآشوري حول مصير الأراضي والممتلكات التي تركوها في عام 2015. قلقهم ينتاب كثير من السوريين، ففي كل أنحاء البلاد يواجه الناس صعوبات متزايدة حيال حماية حقوق الملكية الخاصة بهم منذ اندلاع الحرب، وهذا لا يعود إلى الفوضى القانونية الناجمة عن الحرب وانهيار المؤسسات فحسب؛ وإنما أيضاً إلى أطراف الصراع الذين استولوا بشكل غير قانوني على المنازل والأراضي والملكيات التي تركها النازحون واللاجئون.
والأخطر أن الممتلكات التي لم تدمرها داعش، تقع الآن تحت الخطر جراء العمليات العسكرية، ووجود عشرات الأنفاق التي حفرتها قسد بالقرب من خطوط المواجهة، وتقرّ «قسد» بوجود هذه الأنفاق والنقاط العسكرية، لكنها تدعّي أن الاحتياجات العسكرية تبررها.
أرقام مرعبة
في الثلث الأول من القرن العشرين فتح العالم الغربي باب الهجرة ولم يغلقه، وكان المرء يرى في ساحة المرجة في دمشق ملصقات باللغة الإنكليزية والفرنسية مكتوب عليها «مطلوب مهاجرين سريان ـ آشوريين». واستمرت هجراتهم في القرن العشرين، وتنامت منذ قيام دولة الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، عندما فرضت قيود كبيرة على ثقافتهم. حينها لجأ عدد كبير منهم إلى لبنان، ومنها إلى أوروبا وغيرها، جراء اشتداد الحرب الأهلية اللبنانية، وتعمقت أكثر منذ 2011 ففي دراسة ميدانية لوزارة الخارجية الألمانية يثبت أن هناك 18 قرية آشورية باتت خالية تماماً من السكان في عام 2023 بعد أن كانت في عام 2010 يسكن فيها 7402 شخص. وهي قرى (تل شامية-تل هرمز-تل سكره-تل دمشيج-تل بالوعة-تل باز-ابو تينة جيلو- تل كيفجي-تل عربوش-تل طويل-تل جمعة-الخريطة-كزلية-تل غوران-ام غرقان-قبر شامية-تل الجزيرة-تل مخاضة)، ولم يتبق في باقي القرى الآشورية سوى 404 أشخاص.
ما تزال البيوت الآشورية شبه مهجورة بالكامل. ويظل السؤال الأهم، ما أن ينقشع غبار الصراعات، هل ستكون هناك أي مجتمعات مسيحية – من آشوريين، أو كلدان أو سريان أو أرمن – ما زالت تعيش في مدن وقرى شرق المتوسط؟
ملكون ملكون – السويد






