تعتبر القضية الفلسطينية من أكثر الأزمات الدولية تعقيداً، وأطولها زمناً، وأعظمها مأساة. وقد يلحظ المراقب لمنطقة الشرق الأوسط مدى تشعّب التدخّلات، وتقاطع وتضارب المصالح. ففي كل يوم تصدر بيانات عديدة من عواصم القرار الدولي، فيبدو للوهلة الأولى وكأن المسألة الفلسطينية تعني دول العالم قاطبة لارتباطها العضوي بقضايا النفط والتجارة وسباق التسلّح.
القضية الفلسطينية، وإن كانت مسألة سياسية، لكنها ليست مسألة عقارية، وبالتالي، لا يمكن تجريدها من بعدها الإنساني. فالتخطيط الصهيوني هو مخطط جهنمي، دمّر وقتل وهجّر سكان الأرض الأصليين حتى حقّق أهدافه في جمع اليهود، على أرض فلسطين. وعليه، فمن الصعب على الكاتب الملتزم بقضايا أمته أن يكون محايداً، أو أن يقف على مساحة متوازية بين القاهر والمقهور، والمغتصِب والمغتصَب والجلّاد والضحية والمجرم والبريء.
وبناء على ما تقدّم، فإنني سوف أناقش العلاقة الجدلية بين العدالة والنظام الدولي.
العدالة الدولية
إنّ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني اللذين ينظّمان العلاقات بين الدول في سياستها الخارجية ومصالحها الحيوية في حالتي السلم والحرب، ظلّا خاضعين لطبيعة وهيكلية النظام العالمي، أو أنهما رهينة لها، ولا تزال إشكالية العلاقة بين القانون والسياسة، ماثلة في التطورات الدولية وما تحمله من متغيّرات.
أما مصادر العدالة الدولية فهي:
ـ القانون الدولي
ـ القانون الدولي الإنساني
ـ ميثاق الأمم المتحدة
ـ اتفاقيتا جنيف الثالثة والرابعة
ـ بروتوكول 1977 (I وII) والبروتوكول III
ـ محكمة العدل الدولية
ـ المحكمة الجنائية الدولية
ـ مجلس حقوق الإنسان
إن أيّ دراسة لمسار الـ UN وعمل وكالاتها ومجالسها المتخصصة، تلحظ كيف ينحى القانون الدولي جانباً أمام الضغوط السياسية والمصالح الدولية القائمة على الاستئثار والهيمنة، لا على العدالة ولا على الحقّ. فميثاق الـ UN هو القانون الأعلى أو الأسمى في القانون الدولي.
إنه أساس هذا القانون، وكثيراً ما جرى تهميشه أو خرقه في تكوين مجلس الأمن وعمله، وفي ممارسة صلاحيات الجمعية العامة، وفي احترام حقوق الإنسان، وفي القضاء على الفقر والأمية، وفي حق كل شعب في تقرير مصيره بنفسه، بلا تدخّل وضغوط خارجية. إضافة إلى كل ذلك، بدت المساواة في السيادة بين الدول مجرد شعار مرفوع، أو هي نصّ لفظي بني عليه الميثاق الأممي وفكرة التنظيم الدولي من أساسها.
صحيح أنّ منطق الغزو قائم منذ فجر التاريخ، أما أن يحصل ذلك في الزمن الحديث عن القانون الدولي، فإنه أمر مؤسف:
1 ـ ما معنى أن تسقط عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى لأنها فشلت في نزع السلاح للحيلولة دون تجدّد الحروب؟
2 ـ ما معنى أن تفشل الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في الحد من سباق التسلّح التقليدي والنووي؟
3 ـ وعلى أي أساس قانوني يمكن اعتبار الدول الخمس الكبرى صاحبة حقّ النقض (VETO) في مجلس الأمن، دون غيرها من الدول، صاحبة هذا الحق؟
ويمكن القول، إن حق النقض، ليس حقاً قانونياً بل هو مجرد جائزة حصلت عليها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. إنه مستند إلى القوة لا إلى الحق، وهو يكرّس الهيمنة السياسية الدولية. لذلك قلنا إن السياسة الدولية طوّعت لصالحها قواعد القانون الدولي. فعند التصويت في مجلس الأمن والجمعية العامة، نجد تأثير الدول الكبرى ماثلاً على غيرها من الدول الصغيرة، أو الدول الأقل قوة.
النظام الدولي
إن طبيعة النظام الدولي، أكان متعدّد القطبية (1648 ـ 1945)، أو ثنائي القطبية (1945 – 1991)، أو أحادي القطبية (1991 – 2008)، هي فوضوية بامتياز بالنسبة إلى المدرسة الواقعية فإن:
1 ـ الدولة ـ الأمة هي أساس العلاقات الدولية؛
2 ـ القوة، القوة العسكرية، وسيلة فاعلة وقابلة للاستخدام في السياسة الخارجية؛
3 ـ ويكون أمن الدولة ومسألة بقائها ونجاتها (السياسة العليا)، مهيمنة على السياسات الدنيا المتعلقة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية.
إن أكثر النتائج أهمية لمثل هذه الحال هي الفوضى السائدة في النظام الدولي. أما السبب في ذلك فيعود إلى:
1 ـ غياب أي سلطة مركزية فوق الوطنية تكون مقبولة بشكل عام على أنّ لها الحق في سن تشريعات تجب إطاعتها؛
2 ـ استعداد الدول لاستخدام القوة العسكرية حينما تسمح أو تتطلّب الظروف.
في هذا السياق، فإن القوة هي وسيلة لتحقيق الأهداف الخارجية للدول. ولقد دلّت التطورات الدولية على أن الدول، وعلى امتداد التاريخ، قد واجهت بعضها بعضاً في صراعات على القوة بالنسبة إلى H. Morgenthau: تظهر جميع مراحل التاريخ أن الدول الناشطة في السياسة الدولية تعد نفسها باستمرار لعنف منظّم على شكل حروب، أو تنخرط فيه بشكل فعّال، أو تتعافى منه.
القوة تعني القدرة على التأثير في سلوك الآخرين مما يجعلهم يحقّقون النتائج التي تريدها، مهما كان نوع هذا التأثير، ترهيباً أو ترغيباً. هذا يعني أن القوة هي قدرة الفاعل (ألف) على أن يجبر الفاعل (باء) على أن يفعل شيئاً أو يمتنع عن فعل شيء، ما كان ليفعله لولا قدرة (ألف).
هنا لا بدّ من مقاربة مفهوم الهيمنة (Hegemony) والتي تشير إلى قدرة الفاعل التي يتمتع بقدرة ساحقة على تشكيل النظام الدولي من خلال الوسائل القسرية وغير القسرية. بتعبير آخر، إن الهيمنة هي قدرة الدولة على ممارسة الفنون والتأثير على الدول الأخرى من دون احتلال الأرض.
القضية الفلسطينية: إشكالية العدالة والنظام الدولي
إنّ محاولة USA الهيمنة على السياسة الدولية بعد انهيار USSR لا يعطيها الحقّ في تفسير القانون الدولي، وممارسة سيطرتها على المنظمات الدولية، وعلى لعبة المصالح الدولية باسم الحرية والديمقراطية. كما أن انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية جاء على خلفية حماية قادتها من جرائمهم في حروب أفغانستان والعراق وغيرها. أو ليس من المعيب أن تتنصّل USA من التزاماتها السابقة وتعترف من دون وجه حقّ بأن القدس عاصمة الكيان الصهيوني؟
1 ـ باستعمالها حقّ الفيتو في مجلس الأمن أسقطت USA كلّ مشاريع القرارات التي تتضمّن أيّ إدانة لـ «إسرائيل» على جرائمها في الاحتلال والعدوان والإرهاب. فأين هيبة القانون الدولي والحال هذه؟
2 ـ أين قاعدة عمومية القانون بلا تمييز بين الدول عندما تصدر القرارات الخاصة بفلسطين بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة (أي أنها صدرت مخفّفة)، بينما صدرت قرارات الأزمة العراقية بموجب الفصل السابع ذي الطبيعة الإلزامية؟
في المحصّلة، سوف يذكر التاريخ أنّ من أبرز أسباب ضعف الـ UN هو تجاهل تنفيذ قرارات قضية فلسطين، والصراع العربي ـ الإسرائيلي. والسؤال هنا، ماذا يبقى من الشرعية الدولية عندما تطغى فكرة ازدواجية المعايير الدولية؟
بإيجاز، إن قضية فلسطين تبقى الدليل الأوضح على إهمال القرارات الدولية ذات الصلة. حسبنا الإشارة إلى قرارَي الجمعية العامة رقم 181/1847، ورقم 194/1948، وماذا أيضاً عن قرارات الجمعية العامة: 2628/1970، 2648/1970، 2649/1970، 2672/1970، و3736/1974، التي تؤكّد:
1 ـ حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره من دون أيّ تدخّل خارجيّ.
2 ـ حقّ عودة اللاجئين إلى الديار التي هُجّروا منها.
3 ـ حقّ الشعوب التي ترزح تحت نير الاستعمار بالنضال لتحقيق استقلالها.
وماذا عن وضع القدس؟ فقرار التقسيم 181 اعتبر القدس كياناً منفصلاً يخضع لنظام دولي تديره الـ UN. وفي عام 1967 صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سلسلة من القرارات، ولا سيما القراران 2253 و2254 اللذان أقرّا عدم شرعية أنشطة «إسرائيل» المدنية. من جهته، أصدر مجلس الأمن عدّة قرارات أبرزها: 250، 252، 267، و271/1969 والتي أجمعت على مطالبة «تل أبيب» بوقف أنشطتها التي تعمل على تغيير معالم المدينة. في عام 1971 أصدر مجلس الأمن القرار 298 الذي اعتبر كلّ الإجراءات الإدارية والتشريعية التي قامت بها «إسرائيل»، مثل التحويلات العقارية ومصادرة الأراضي، غير شرعيّة.
أخيراً، في عام 1980، وبعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد بين القاهرة و«تل أبيب»، سارعت الأخيرة إلى ضمّ القدس رسميّاً. إلّا أنّ مجلس الأمن اعتمد مجدّداً مجموعة من القرارات: 476، 478/1980 اللذين أدانا قرار الضم واعتبراه انتهاكاً للقانون الدولي.
في 9 تموز/يوليو 2004 صوّت 14 قاضياً من أصل 15 (أي باستثناء القاضي الأميركي) لصالح الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول «لا شرعية» بناء الجدار الفاصل الذي يقطع أوصال الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية ويضم القدس الشرقية.
وبشكل لافت اعتبر الرأي الاستشاري أن «الأرض التي استولت عليها إسرائيل خلال حرب 1967 بما في ذلك القدس الشرقية هي أراضٍ محتلة». وكانت منظّمة «اليونيسكو» التي تناولت القدس بشكل من التفصيل وكشفت زيف الدولة الصهيونية حول جبل الهيكل وحائط المبكى… وهي مصطلحات لم ترد في أي قرار من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
على صعيد آخر، نجد أن القانون الدولي الإنساني الذي هو مجموع القواعد الدولية التي تشكّل حدوداً لضبط استعمال السلاح المفرط ضد المدنيين (Jus in bello) يخضع في تطبيقاته لازدواجية المعايير. فالقرار الأممي بالتدخّل لإنقاذ الناس من الإبادة أو الجرائم أو العدوان أو الإرهاب خاضع في أساسه لإرادة القوى الدولية الكبرى. وتبقى غزّة المثل الصارخ على ازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين دوليين من خارج أحكام القانون الدولي عندما:
1 ـ يهجّر ويسجن مئات الآلاف من الفلسطينيين.
2 ـ الاعتقال الإداري
3 ـ بناء المستوطنات (المستعمرات)
4 ـ استعمال الأسلحة المحرّمة دوليّاً (الفوسفور الأبيض) لممارسة الأرض المحروقة، وقصف المستشفيات والمساجد والكنائس والمجمّعات السكنية عمداً، وسط صمت دولي مريب.
وتصوّروا معي معارضة واشنطن لاتفاق وقف إطلاق النار، والمماطلة في اعتماد هدنة إنسانية للتخفيف من معاناة الناس في غزّة، وهي الدولة العظمى المسؤولة عن حفظ الأمن والسلم الدوليين؟
وهكذا، ماذا يبقى من ـ القواعد الدولية الخاصة بحقوق الإنسان؟ وما معنى التدخّل الإنساني عندما يترك قرار التدّخل للقوى الدولية الكبرى، بحيث إنها تقرّر متى تتدخّل، وأين؟ وكيف؟
إن قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي تمثّل دليلاً على وجود حقوق عربية مشروعة، لكنها منتهكة، لأنّ قواعد القانون الدولي مغيّبة. والنتيجة هي تأكّل ما يسمّى بالشرعية الدولية أخلاقيّاً وقانونيّاً، بل وتهديد منظمة الـ UN في وجودها بالأصل والأساس طالما هي غير قادرة على تطبيق ميثاقها وقراراتها تحت وطأة سياسة القوة التي تعتمدها الدول الكبرى الداعمة للكيان الصهيوني.
وعليه، فإنني أردّد مجدداً اعتذاري من طلابي في أنني كنت متشدّداً في تدريس مقررات القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، ومنظّمة الـ UN. فبعد الجرائم الصهيونية في غزّة لم تعد هناك حاجة لتدريس هذه المقرّرات. القوة هي الكلمة الفصل في إثبات الحق القومي في فلسطين.
فعلى أرض فلسطين ما يستحقّ الحياة، وأيضاً على أرض فلسطين ما يستحقّ الاستشهاد. وحتى تخرج فلسطين من جديد إلى الشمس، نردّد ما كتبه الأستاذ طلال سلمان (رحمه الله): «القوة فلسطين، المنعة فلسطين، الوحدة فلسطين، الحرية فلسطين، العروبة فلسطين، الوطنية فلسطين، الدين فلسطين، القضية فلسطين، والأمة فلسطين».
الدكتور كميل حبيب