هنا تكمن جل المشكلة، وهي في علاقة العلم بالمعرفة، تلك العلاقة التي تتحكم بمزاولة الحياة، في مستوياتها واختصاصاتها المختلفة، ولا سبيلاً آخر (تاريخياً على الأقل) من التملص من تفعيل هذه العلاقة، إلا بدفع أثمان باهظة، من إمكانيات البشر لتسديد هذه الأثمان، وبالتالي الوقوع في الويل والهوان أثناء مزاولة هذه الحياة، وذلك بالنظر إلى الإمكانيات الواسعة التي يقدمها العلم للمعرفة لدفعها إلى التقدم في السياقات الإنسانية الحضارية، وعليه تبدو العلاقة بالتكنولوجيات المتجددة، قائمة بشكل أساسي وبما لا يقبل بقلّة الدقة على القبول بالعلم مهما كانت مخرجاته، وهو منتوج عقلي يحتاج إلى جهد عظيم لإنتاجه، يتمثل بإمكانيات البشر في التفكير والتجريب والاستشراف المستقبلي، فزمن العلم هو المستقبل، بينما زمن المعرفة هو الحاضر، وذلك أثناء ممارسة مخرجات العلم في المنفعة أو الضرر البشريين، ومن هنا لا يمكن لأي كائن أن ينكر العلم أو يغفل عنه أو يتملص منه، دون أن يدفع ثمن عدم تحويله إلى معرفة، وهنا أيضاً تكمن قيمة العقل، فالعقل التافه وحده هو من يحاصر العلم ويمنع تحويله إلى معرفة منتجة للمنفعة وتقليل الضرر.
للأسف، تبدو العلاقة اللغوية بين المفردتين (العلم والمعرفة) علاقة لفظية، دون أي ملمح لاختصاصيتهما، أو لمجالهما في الحياة الأرضية، ففي الممارسة اليومية للغة في التعبير عن الأفكار والنوايا والخطط، تفقد هاتان الكلمتان الصلة، مما يؤدي إلى تحوير معنيهما عن مقاصدهما، وفي ذلك ازدواجية مخلة، «فالجميع» يعترف بالعلم ومكانته، وبالمعرفة ودورها، ولكن «الجميع» أيضاً يحاصرهما ولا يخضع لمخرجاتهما، بذرائع هوامية تفيد في زيادة الانحدار، وتراكم الحمل العبثي على كاهل هؤلاء غير الخاضعين إلى تلك المخرجات، وبمحاصرة العلم ( هناك أمثلة كثيرة ومخجلة ومؤذية) يتم قطع العلاقة مع المعرفة كونها الحالة التطبيقية الممارساتية للعلم، ومع ازدياد هذه المحاصرة يظهر الفقر(كمثال) كواحد من الظواهر الناتجة عن هذا الحصار، فيعرضون عن العلم لان، لا إمكانيات فكرية أو مادية تستطيع تطبيقه والاستفادة منه، ولا حتى شرائه، وهنا يسد العنف والقسر الفراغ الفجائعي، الذي ينضح بكل الصفات الانحطاطية للكائن البشري، وهذا ما تمر به بعض الاجتماعات البشرية، أما بعضها الآخر فترسخ به، موقفة العلم من التقدم صوبها، بسبب عدم قدرتها الذهنية والحضارية تحويله إلى معرفة.
ليست الطائرة، وأجهزة التصوير الشعاعي، والصاروخ القاتل، العلم بل تجليات العلم ونتائجه بتحولها إلى معرفة، وبالتالي نحن ننظر إلى سلسلة طويلة ومتراكبة ومتشعبة جداً لجهود العقل البشري ككل، ولا انفصال بين هذه الجهود إلا بما تفرضه فرضاً البيئة الجغرافية، حيث على العلم أن يتوائم معها ويجد لها حلولاً تصب في المعرفة البشرية، كي تكون مفهومة، ويمكن التفاهم معها، وهنا يبدو العنف أعجفاً وكليلاً يستقوي على الضعفاء فقط، صانعاً تراتبية غير مستقرة تقتات على الدماء، بغض النظر ع مصدر هذه التراتبية، داخلية كانت أم خارجية، فمحاصرة العلم ليست مجانية، وغالباً ما يكون الثمن باهظاً.
تبدو«معرفتنا» بتشغيل الطائرة والصاروخ وخلاط الفواكه، معرفة هزيلة وهزلية، ليس لأننا لا«نؤمن» بفعاليات العلم الذي درسها واختبرها، بل لان الرؤية المشروطة إليه تجعله جزراً منعزلة ومتباعدة، فنحن لا نمارس أي نوع من أنواع النظر إلى الروابط التي تحدث العلم وتتثبت منه ومن ثم تحققه في الواقع، ولا نرى أي رابط يجمع بين كانط الفيلسوف (مثالاً) و وأحمد زويل (مثالاً أيضاً)، ولا نرى رابطاً بين القيم والعلم ومن ثم المعرفة، بل ننظر إليهما كخلائق أنوجدت دون جهد، من ممارسي الحياة، لتصل إلينا كمعلومات نحن أحرار بالأخذ منها أو تركها، وهو أمر في منتهى السذاجة الحضارية، وحتى الغفلة، عن تأثيرات الفهم والتفاهم التي يجب أن يتحلى بهما الاجتماع البشري بالضرورة أو بالإجبار، حيث يتساوى التقدم والتخلف بحق الاختيار ويختلفان بالنتائج، ومنه يمكننا وصف الذي يختار التخلف ليس بفقدان الرشد فقط، بل بالمستعد أن يدفع التكاليف الباهظة لهذا الاختيار، ومن هنا تبدو الدنيوية كمبدأ، ليست ناتجة رؤية شخصية أو حزبية، بل تراكماً علمياً نضج فأحيل إلى التطبيق المعرفي في الواقع، ونجح من خلال التفعيل والتطبيق في إنتاج الأنموذج المعرفي للعلم ومن لا يختار هذا الأنموذج هو حر، ولكنه سوف يتحول إلى الأضعف، في معادلة تنافسية شرسة في هذا العالم، وعلى ظهر هذه الكرة الأرضية الغراء، التي لا مكان للبشرية مكان وزمان غيرها، ولذلك مبدئياً لا تبدو العالمانية كمنتج حضاري مفروضة على أحد، ولكنها شرط تصنيعي، أو المادة الأولية، لحدوث المجتمع والدولة المعاصرة، فالشرط المعاصر الأقل لتحقيق ذلك هو الوجود في الزمان، بمعنى أن لا علمانية إذن لا دولة في الزمان الواقعي، فالعلوم الحقوقية وصلت إلى مرحلة تثبيت هذا الاكتشاف بسبب التجريب المعرفي له، وصار حقيقة تكنولوجية قابلة للبناء عليها ارتقائياً، لذلك من الهزل تماماً الادعاء أن هناك دولة بغير هذا المبدأ، فهو نقطة الارتكاز في تحويل العلوم الكونية الى معرفة ممارسة على أرض الواقع، حقوقياً وأخلاقياً، طالما تم الادعاء في خيرية المبادئ الإنسانية التي ندعي اعتناقها.
إن إعاقة العلم بالعالمانية بل ومنعها من التداول العلمي والمعرفي، جعل العديد من البلدان تعاني من الويل، فالعبور إلى العالمانية، يشكل أحد تمظهرات التقدم نحو التحضر، الذي يعني مقاومة عوامل «الويل» الذي ترسف فيه هذه البلدان بغض النظر عن مظهرها الإعلاني وبغض النظر أيضاً عن مصدر رزقها وكمياته، وعامل الويل الأكبر هو التخلف، الذي يعني تحديداً الضعف، الذي يحقق الهزيمة، لتعود الدائرة من أولها ومن جديد، في أداء سيزيفي يبعث على اليأس وانعدام الأفق.
محاصرة العلم تكون تماماً في امتداحه بزيف جزافي أجوف، فالعلوم الدنيوية متكاملة، ولا يمكن فصلها عن بعضها بإبداء الموافقة أو الرفض، بل بتجريبها والتعديل عليها بما يناسب مصلحة الاجتماع البشري الجمعية، وطالما هناك حظر لهذا التكامل، فالعلم موجود ومعلن ومعروض لمن استطاع إليه سبيلا، لذلك الذي لا يعلم لا يستطيع أن يعرف، وهما جهدان حضاريان مضنيان لا تتحمله إلا النفوس الكبيرة من المؤثرين من صناع الثقافة الاجتماعية من حكام ومبدعين وحالمين ببلاد قوية وقادرة على تحمل المساواة بكل أشكالها وألوانها.
نجيب نصير