هذا ليس استشراف متعجل لمآلات العلاقة الأمريكية الروسية ما بعد حرب بايدن الباردة عليها، لكن حين يهاجم دونالد ترامب الدولة العميقة الأمريكية و من ثم يصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، فهنا يجب أن نتوقف لا عند نسج ابيات الشعر الغزلي بمدى ديمقراطية هذا النظام الأقوى في العالم و إنما يصح التفكير بأن دولة عميقة أكثر عمقاً بكثير هي التي تشكلت او أنها تتشكل لتنتج هذا الرئيس و تلك التفاهمات الجذرية التي اقتلعت بشار الأسد بعشرة أيام كواحدة من أولى تعبيرات التغيرات في هذا العالم المقبلة و مقدار الانقلابات المتوقعة فيها.
لا شك أن الدولة العميقة المتشكلة غير معنية كثيرا بتسيير شؤون حلفاء الولايات المتحدة الأميركية التقليديين ولا الاهتمام بهياكل عالمية او محلية تعتبرها من الماضي (الناتو) مهما كانت وثيقة الصلة ومهما قدمت لها من خدمات مزمنة والأكيد ان هذا الأمر بائن بوضوح في وضع الولايات المتحدة الأوروبية التي باتت حلما ممنوع من التشكل عدا عن استقلال كندا والمكسيك الذي بات لزوما لمالا يلزم في الفضاء الجيوسياسي الأمريكي الجديد.
ما يحدث هو إعادة تشكيل شاملة لخرائط العالم وقد بدأت عند الدول الكبيرة فما بالك بالدول الصغيرة والهشة جدا جدا مثل دولنا التي لا تتطلب بالا طويلا لنقاش مستقبلها طالما بقينا في حال التلهي بتوافه الأمور ولا ندرك إلى اين يسير العالم.
من أهم العوامل المؤثرة في تشكيل الخرائط الجديدة هي ليست أبدا الصراعات التقليدية التي نحفظها عن ظهر قلب و سياسات الشرق و الغرب، و إنما تطور العلوم التكنولوجية و التقنيات الحديثة في استيطان المناطق الثلجية التي تتمتع بثروات باطنية هائلة و هي لا تزال اراض بكرا و خاصة في سيبيريا و ألاسكا و بحر البلطيق و من هنا فإن الولايات المتحدة الأميركية تصبح بهذا المعنى الدولة الأقرب حدودا إلى روسيا طبعآ حين تعتبر مع كندا فضاءا جغرافيا واحدا كما قال ترامب و يصبح تفجير خطوط نقل الغاز الروسي الألماني نورد ستريم واحد و اثنين، تفصيلا بديهيا من أجل حرف البوصلة عن العلاقة الروسية الأوروبية باتجاه شيء أهم بأضعاف و هو تشكيل أكبر فضاء جغرافي سياسي هو الولايات المتحدة الأميركية و كندا و روسيا باتصال جغرافي يشكل أكبر حجم يابسة في العالم ، و للعلم فإن كاسحات الجليد العاملة بالطاقة النووية الروسية خاصة و غيرها من التقنيات التي ستفتح السبيل لتأمين العيش و التنمية و الرفاهية في المناطق الجليدية، كما تم تأمين وسائل الرفاهية في دبي و الرياض أي المناطق الساخنة جدآ، ستخلق بينات عيش جديدة أكثر أهمية و تصبح باهتمام هذه القوى الكبرى، و أما الجنوب الذي بات امتداده او تغول الصحراء فيه حتى أوروبا بالمعنى الحضاري للكلمة و كما عبر عن ذلك المفكر انطون سعادة عن تمدد قوس الصحراء إلى سوريا و هو كان أيضآ يعني بالأمر حضاريا و ضمنيا بيئيا ومناخيا فهي حتى الآن و بظل التخبط الكبير ستبقى عالقة في ازماتها ما لم تجد هداية مغايرة.
الخطير في الأمر سياسيا هو أن إسرائيل تلعب دورا كبيرا في إعداد هذا المشروع والأكيد أن الحرب الأخيرة بين غزة ولبنان و سوريا و كل ما نتج عنها كان من العوامل الهامة في مسار تلك التحولات و خاصة لجهة هندسة العلاقة الأمريكية الروسية.
الخرائط:
أكثر ما يهمنا لإعمال التفكير فيه هو مآلات الخرائط في منطقتنا إذا ما كانت ذاهبة نحو التقسيم التفتيتي لسوريا و المنطقة بعد تشكل سلطة في سوريا لا تملك جيشاَ يكفي للأمن الداخلي عدا عن حماية وحدة البلاد، و تصاعد التهديدات الإسرائيلية بعد تدمير كل اسلحة الجيش و تسريح كل ضباطه و عناصره، و بالتالي يبرز السؤال مدويا و ليس له جواب يقيني خارج إطار العواطف و المواقف المسبقة: ما هي رؤية هذا الغول الجيوسياسي المتشكل في الولايات المتحدة الأمروسية لمنطقتنا، و هل يمكن حكم العالم بفضاء اتحادي مساحته تقترب من اربعين مليون كيلومتر مربع، اي أكثر من ربع مساحة اليابسة في الوقت الذي تذهب دول العالم الأخرى إلى التشظي نحو دول و كيانات ميكرونية على أسس مذهبية و عرقية لا تلبث أن تنتهي من التقسيم إلا و تكرر فعلها بتقسيم آخر سائرة نحو لا استقرار مستدام؟
ان الجواب الممكن حاليا على أخطر سؤال يتعلق بمنطقتنا وأمتنا، يتحقق فقط في حال تمكننا من تشكيل خلية تفكير عميقة و قادرة على دراسة التحولات الكبرى جيوسياسيا و عالميا في ضوء مصالح أمتنا و إمكانية رفع الوعي لدى النخب الوطنية و القومية، لمنعها من استمرار الانزلاق الشعبوي نتيجة الهزائم المتتابعة في المعارك التقليدية، و هذه مهمة أولى قبل وضع رؤى جدية لمستقبل المنطقة في ظل الولوج إلى عصر الحداثة بأقل قدر من التبعية لقوى العالم الكبرى و هي مهمة لا يقوى عليها إلا المستبصرون.
طارق الأحمد