لا نَهضةَ بلا وَحدةٍ ونِضالٍ مُستمرّ

الأوَّلُ مِن آذارَ ليسَ مُجرَّدَ يَومٍ في تَقويمِ الحَياةِ، ولا ذِكرى مِيلادِ فَردٍ، بل هُو وِلادَةُ الأُمَّةِ السُّوريَّةِ في وِلادَةِ هادِيها: رَجُلِ الفِكرِ والمَبَادِئِ سَعاده العَظيمِ.  إنَّهُ يَومٌ مُشرِقٌ يَنبِضُ بالحَياةِ والتَّجَدُّدِ، اليَومُ الَّذي وُلِدَ فيهِ الأَمَلُ المُتَلألِئُ بِمَجِيءِ فَتى الرَّبِيعِ، هِبَةٌ مِن السَّماءِ إلى الأُمَّةِ، رَجُلٌ استِثنَائِيٌّ بِعَقلِهِ اللَّامِعِ، ورُوحِهِ الرَّحْبَةِ، ورُؤاهُ السَّامِيَةِ.

هَذا الرَّجُلُ الَّذي أَرادَ أن يُخرِجَ شَعبَهُ مِنَ النَّفَقِ المُظلِمِ إلى فَضَاءِ الحَياةِ الحُرَّةِ العَزِيزَةِ، لَم يَكُن مُجرَّدَ مُؤسِّسٍ لِحِزبٍ سِيَاسِيٍّ، بل مُفَكِّرًا قَومِيًّا حَمَلَ رُؤيَةً فَلسَفِيَّةً مُتَكَامِلَةً لِلحَياةِ والمُجتَمَعِ.

لَم تَكُنِ القَومِيَّةُ الاجتِماعِيَّةُ، كَمَا طَرَحَهَا، مُجرَّدَ إطَارٍ سِيَاسِيٍّ أو نَظَرِيَّةٍ تُطرَحُ في الخِطَابَاتِ، بل كَانَت دَعوَةً فِعلِيَّةً لِتَوحِيدِ الأُمَّةِ على أُسُسٍ تَتَجَاوَزُ الطَّوَائِفَ والكِيَانَاتِ المُصطَنَعَةِ، وَتَجعَلُ مِنَ الشَّعبِ السُّوريِّ مُجتَمَعًا مُوَحَّدًا قَادِرًا على الفِعلِ الحَضَارِيِّ.

الأوَّلُ مِن آذارَ: فِكرٌ مُتَجَدِّدٌ وَعَملٌ مُستَمِرٌّ

في هَذَا اليَومِ، يُعبِّرُ القَومِيُّونَ الاجتِماعِيُّونَ عَن فَرَحِهِم القَومِيِّ بِوَحدَتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ، وَيُجَدِّدُونَ عَهدَهُمُ على مُتَابَعَةِ المَسِيرَةِ، إِدرَاكًا مِنهُم أَنَّ الأوَّلَ مِن آذارَ لَيسَ ذِكرَى تَنتهِي بِانتِهَاءِ اليَومِ، بَل وِلادَةٌ مُستَمِرَّةٌ لِلفِكرِ والعَمَلِ المُنَظَّمِ.

في خِطَابِهِ الشَّهِيرِ في الكُورَةِ صَيفَ 1937، أَكَّدَ سَعاده على أَنَّ المَسِيرَةَ القَومِيَّةَ الاجتِماعِيَّةَ هِيَ طَرِيقُ حَيَاةٍ طَوِيلَةٍ: لَا يَثبُتُ عَلَيهَا إِلَّا الأَحيَاءُ وَطَالِبُو الحَيَاةِ، أَمَّا الأَموَاتُ وَطَالِبُو المَوتِ فَيَسقُطُونَ عَلَى جَوَانِبِهَا.[1] هَذَا التَّأكِيدُ عَلَى قِيمَةِ الحَيَاةِ وَالعَمَلِ وَالمُثَابَرَةِ يُعَدُّ دَرسًا خَالِدًا لِكُلِّ مَن يُؤمِنُ بِالنَّهضَةِ:  الحَيَاةُ لَيسَتِ انتِظَارًا، بَل فِعلٌ مُستَمِرٌّ وَإِرَادَةٌ صَلبَةٌ، والكَرَامَةُ القَومِيَّةُ لَيسَت مَنحَةً، بَل تُنتَزَعُ انتِزَاعًا.

لقد شدَّدَ سعاده على أنَّ الحياةَ ليستْ بطُولِها أو قِصَرِها، بل بِقيمَتِها ومَعنَاها، حين قال: “إنَّ الحياةَ لا تكونُ إلَّا في العِزِّ”، وكما قال أيضًأ: “الحياة ليست مقتنيات!!“الحياة عز وشرف![2]“إنَّ الحياةَ كلَّها وَقفةُ عِزٍّ فقط. “Bottom of Form

[3]

النَّهضَةُ: رُؤيَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ وَلَيسَت ذِكرَى

الأوَّلُ مِن آذارَ لَيسَ مُجرَّدَ احتِفَاءٍ بِشَخصِ أَنطُون سَعاده، بَل هُوَ احتِفَاءٌ بِالمَبَادِئِ الَّتِي أَطلَقَهَا، وَالَّتِي كَانَت وِلادَةً جَدِيدَةً لِلأُمَّةِ السُّورِيَّةِ النَّاهِضَةِ. هَذِهِ المَبَادِئُ رَفَضَتِ الذُّلَّ وَالانقِسَامَ وَالتَّخَلُّفَ، وَتَمَسَّكَت بِالحُرِّيَّةِ وَالوَحدَةِ وَالتَّقَدُّمِ. وَكَانَ سَعاده قَد عبَّرَ عن حقيقة تمثيله المبادئ القومية الاجتماعية عندما قالَ: إِنَّ أَنطُونَ سَعاده لَا يَعنِي فَقط أَنطُونَ سَعاده، بَل يَعنِي مَبَادِئَ نُهُوضِ هَذِهِ الأُمَّةِ وَتَبَوُّءَهَا مَقَامَ الشَّرَفِ وَالعِزِّ.[4]

وما من أُمَّةٍ ارتضتِ الذُّلَّ إلَّا هَوَتْ في مَهاوي الفَناء.  فالنَّهضةُ القوميَّةُ ليستْ شِعارًا، بل فِعلٌ مُستمرٌّ وحَرَكةٌ مُتواصِلةٌ، وهي تتطلَّبُ الإيمانَ بها، والعملَ على تحقيقِها، والالتزامَ بقِيَمِها الأخلاقيَّةِ ومناقِبِها الجَميلةِ. فلا يُمكِنُ بناءُ مُجتمَعٍ جديدٍ إلَّا بأخلاقٍ قوميَّةٍ مَتينةٍ، تقومُ على قِيَمِ الحُرِّيَّةِ والواجِبِ والنِّظامِ والقُوَّةِ، وهي الأُسُسُ التي وضَعَها سَعاده كعِمادٍ للأُمَّةِ القادِرةِ على الفِعلِ الحضاريِّ. إنَّ الأخلاقَ القوميَّةَ ليستْ أخلاقَ خُضوعٍ وخُنوعٍ واستِسلام، بل هي أخلاقُ صِراعٍ وبِناءٍ وارْتِقاءٍ نحوَ الأفضل.  وهي على النَّقيضِ من “الأخلاقِ الرَّجعيَّةِ” التي تَقتُلُ العزائِمَ، وتَدفعُ الأفرادَ إلى الفَرديَّةِ الضَّيِّقةِ والانقِساماتِ العَقيمَةِ.

وهذا ما تَحتاجُهُ أُمَّتُنا اليومَ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مَضى: أن يكونَ أبناؤُها على مُستوى التَّحدِّياتِ، وأن يتحوَّلوا إلى طاقةٍ فاعِلَةٍ تُترجِمُ الفِكرَ إلى عملٍ، والرُّؤيَةَ إلى واقِع.

التَّحرُّرُ الحقيقيُّ يبدأُ بالوعيِ والتَّنظيم.

إنَّ واقعَ الأُمَّةِ السُّوريَّةِ اليومَ ليسَ وليدَ صُدفةٍ أو قَدَرٍ مَحتُوم، بل هو نتيجةٌ مباشرةٌ لانعِدامِ الوعيِ القوميِّ، والانقِساماتِ المذهبيَّةِ، والتَّبعيَّةِ للقُوى الخارجيَّة.  وقد كانَ سعاده مُدرِكًا لهذهِ الحقيقةِ حين أكَّدَ أنَّ الاستقلالَ لا يكونُ بمُجرَّدِ زَوالِ الاحتلالِ العسكريِّ، بل يتحقَّقُ عندما تستعيدُ الأُمَّةُ وعيَها وتَبني نَفسَها على أُسُسٍ قوميَّةٍ جديدةٍ، تَرتكِزُ على العِلمِ، والقُوَّةِ، والتَّنظيمِ. فالحرِّيَّةُ القوميَّةُ لا تُمنَح، بل تُنتَزَعُ بالصِّراعِ والتَّخطيطِ والعمل.  والأُمَّةُ القويَّةُ لا تَستَجدي مَصيرَها، بل تَصنَعُهُ بِيَدَيْها. وكما قالَ سعاده: “ما مِن أُمَّةٍ نامَتْ واستَكانَتْ إلَّا كانَ مَصيرُها البَوار.[5]

واليومَ، مع تَزايدِ التَّحدِّياتِ الاقتصاديَّةِ والسِّياسيَّةِ، ومَعَ تَعمُّقِ العَصبيَّاتِ الطَّائفيَّةِ والمذهبيَّةِ، لا يزالُ فِكرُ سعاده مَنارةً تُرشِدُ الأجيالَ نحوَ بناءِ الدَّولةِ القوميَّةِ الحديثةِ، حيثُ يكونُ الانتماءُ للوطنِ وليسَ للطَّائفة، وحيثُ تتحقَّقُ العدالةُ الاجتماعيَّةُ والاستِقرارُ والارتِقاء.

الوِحدَةُ وَالتَّنظِيمُ: ضَمَانَةُ المُستَقبَلِ

إِنَّ احْتِفَاءَنَا بِالأوَّلِ مِن آذارَ يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ مُجرَّدَ طَقسٍ سَنَوِيٍّ، بَل فُرصَةً لِإِعَادَةِ التَّأكِيدِ عَلَى مَسؤُولِيَّاتِنَا القَومِيَّةِ. فَالأُمَّةُ اليَومَ تَمُرُّ بِمَرحَلَةٍ عَصِيبَةٍ، حَيثُ تَتَكَاثَرُ الأَخطَارُ الخَارِجِيَّةُ مِن مَشَارِيعِ التَّقسِيمِ وَالتَّفتيتِ إلى الاحتلالات وَالتَّدَخُّلَاتِ الأَجنَبِيَّةِ، وَفِي الوَقتِ نَفسِهِ، تُوَاجِهُ أَخطَارًا دَاخِلِيَّةً لا تقل خطورة، من تَّفَشِّي الطَّائِفِيِّة وَالفَسَادِ إلى غِيَابِ الرُّؤيَةِ القَومِيَّةِ الوَاضِحَةِ.

لقد أثبَتَ التَّاريخُ أنَّ الانقِساماتِ الدَّاخليَّةَ أشدُّ فتكًا بالأُمَمِ مِن أيِّ عَدوٍّ خارجيٍّ، وهو ما تُدرِكُهُ القُوى الطَّامعةُ التي تَسعى دائمًا إلى تَفتيتِ الصُّفوفِ وإضعافِ أيِّ حركةٍ نَهضويَّةٍ. وهنا، لا يُمكِنُ للقَوميِّينَ الاجتماعيِّينَ أن يَبقَوا مُتفرِّجينَ أو مُشتَّتين، بل عليهم أن يكونوا جَبهةً واحدةً، صُلبةً وقادِرةً على المُواجهةِ.

لذلك، فإنَّ القَوميِّينَ الاجتماعيِّينَ مَدعوُّونَ اليومَ إلى الانخِراطِ الفاعلِ في مُؤسَّساتِ حِزبِهم، والعملِ جميعًا وَفقَ رُؤيةٍ واضِحةٍ وخُطَّةِ عملٍ مُنضَبطةٍ، تَعكِسُ التِزامَهم بِعقيدتِهم ونَهضتِهم.  الفِكرُ والتَّنظيرُ وَحدَهُما لا يَكفيانِ إن لم يَقتَرِنا بالمُمارَسَةِ العَمليَّةِ، والتَّنظيمِ، والانضِباطِ القَوميِّ. فالنَّهضةُ القوميَّةُ الاجتماعيَّةُ ليستْ مُجرَّدَ فِكرةٍ، بل حَرَكةٌ تَجديديَّةٌ، نِضاليَّةٌ، تَتطلَّبُ الفِعلَ الجَماعيَّ المُوحَّدَ.

لقد بنى سعادهُ نَهضَتَهُ على الحِزبِ النِّظاميِّ، لا على الأفرادِ المُتفرِّقين.  وهذا ما يَجِبُ أن نكونَ عليهِ اليومَ. لا مَجالَ للرِّهاناتِ الفَرديَّةِ، ولا للانقِساماتِ المُدمِّرَةِ. لا يُمكِنُ مُواجهةُ الأخطارِ إلَّا بوَحدةِ الصَّفِّ القَوميِّ الاجتماعيِّ، ووَضعِ مَصلحةِ النَّهضةِ فَوقَ أيِّ اعتِبارٍ شَخصيٍّ أو فِئويٍّ. وكما أوصى سعاده: ” إنكم ارتبطتم بعضكم ببعض وربطتم أرواحكم بعضها ببعض لأنكم تعملون في سبيل المبادئ التي جمعتكم بعضكم إلى بعض. فابقوا منضمين متضامين وكونوا عصبة واحدة أينما سرتم وكيفما توجهتم.”[6]

وهذا هو جَوهَرُ الأوَّلِ مِن آذار: إنَّهُ يَومُ تَجديدِ العَهد، والتَّأكيدِ على أنَّ النَّهضةَ القوميَّةَ الاجتماعيَّةَ ليستْ مُجرَّدَ حُلمٍ، بل حَقيقةٌ يُمكِنُ تَحقيقُها بإرادَتِنا الواعِيَةِ وبِعَملِنا المُنظَّم. فَتَعالَوا يا رُفقائي، لِنُؤكِّدَ بِوَحدَتِنا الرُّوحيَّةِ والعَمَليَّةِ على استِمرارِ رِسالةِ زَعيمِنا ونَهجِهِ في بناءِ أُمَّةٍ حُرَّةٍ، قَوِيَّةٍ، ومُتقدِّمَةٍ.  يقولُ سعاده: “نحنُ لا غاياتَ عندَنا مُتفرِّقَة، بل غايةٌ واحدة”، هي “خيرُ الشَّعبِ وعِزُّه.”[7]

الأوَّلُ مِن آذارَ: نِدَاءُ المُستَقبَلِ

الأوَّلُ مِن آذارَ لَيسَ مُجرَّدَ ذِكرَى، بَل هُوَ نِدَاءٌ مُتَجَدِّدٌ لِلأَجِيَالِ القَادِمَةِ: أَنتُم أَبْنَاءُ الحَيَاةِ الجَدِيدَةِ، أَنتُم بُنَاةُ الأُمَّةِ وَأَورِدَةُ حَيَاتِهَا، وَأَنتُم مَن سَيَسِيرُ بِهَا نَحوَ المَجدِ وَالتَّقَدُّمِ.

إنَّ النَّهضَةَ القَومِيَّةَ الاجتِماعِيَّةَ لَيسَت فِكرَةً تَارِيخِيَّةً جَامِدَةً، بَل مَشرُوعٌ مُستَقبَلِيٌّ يَحمِلُ الحُلُولَ لِأَزمَاتِ الأُمَّةِ. واليومَ، أكثرَ من أيِّ وقتٍ مَضى، نحنُ مَدعوُّونَ إلى أنْ نكونَ على مُستوى هذهِ الرِّسالة، لأنَّ النَّهضةَ ليستْ بَياناتٍ نُطلِقُها في المُناسبات، بل فِعلٌ مُستمرٌّ حتَّى تَتحقَّقَ سيادةُ أُمَّتِنا وعِزُّها.Bottom of Form


[1] خطاب الزعيم في الكورة صيف 1937.

[2] ملحق رقم 9 – خطاب الزعيم في اللاذقية، 26/11/1948.

[3] خطاب الزعيم في الأول من آذار 1949.

[4] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد السابع 1944-1947، “حديث الزعيم إلى مجلة الكوكب”، 20/08/1947.

[5] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثاني 1935-1937، خطاب الزعيم في قصر آل ثابت 01/06/1937.

[6] أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثاني 1935-1937، خطاب الزعيم في الشوف، 19/01/1937.

[7] ملحق رقم 9 – خطاب الزعيم في اللاذقية، 26/11/1948.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *