في ذكرى ميلاده أعتقوه

تشكل الأعياد الوطنية للشعوب مناسبة ليس فقط لاستحضار الأحداث والشخصيات التي شكلت انعطافه مهمة في تاريخها، بل هي تهدف الى إبقاء جذوة النضال وروح المقاومة حاضرة في حياتها، ومحفزة على الثورة وعلى التوثب لمواجهة التحديات في عالم لطالما تحكمت في ثناياه شريعة القوة، واليوم أكثر من أي وقت مضى.

  يشكل تطور التقنيات العسكرية والذكاء الاصطناعي ووسائل المراقبة والتتبع، تحدياً كبيراً لأمم الجنوب في مواجهة أمم الغرب التي زادها التطور التقني توحشاً، حتى باتت تحتفي جهاراً بفقء أعين ليس المقاتلين فحسب، بل وكل الطواقم المرافقة لهم، من مسعفين طبيين واجتماعيين وغيرهم. وتجاهر بتدمير المستشفيات على رؤوس أطبائها ومرضاها.

يحتفل القوميون بميلاد المؤسس، وهم يتساءلون عن دورهم ومدى تأثيرهم في الأحداث التي وضعت مصير الأمة بكل كياناتها في مهب رياح التفتيت والتهجير وصولاً الى الإلغاء لعشرات الألاف من أبناء شعبنا عبر الصراعات المتفجرة، والمشاريع اليهوهية والطورانية والتكفيرية والأميركية، في تحالف مصلحي غير مسبوق.

في خضم هذه المواجهة لم تعد أساليب العمل التقليدية مجدية.

يتساءل القوميون عن دور حزبهم في الصراع، وقد قدموا دماء زكية على خطوط المواجهة على مختلف الجبهات.

لقد أطلق سعادة خطة تتعدى بطموحها كل ما عرفه الفكر السياسي والاجتماعي في القرن العشرين، ولكن مسيرة حزبه ورغم عظمة التضحيات التي قدمها تلامذة النهضة لم تمنع تراجع دوره في صناعة الحدث، وتحولت النهضة العظيمة بأفكارها الى مؤسسة تعنى بالبحث عن دور ثانوي ضمن التركيبة السياسية في لبنان والشام، وارتضينا بهذا الدور بديلا عن نهضة تنطحت لتغيير واقع الأمة برمته.

تكاد أعيادنا أن تتحول الى تكرار ممل، يحاول أن يذكرنا بما يجب أن يكون عليه حزينا.

العقل هو الشرع الأعلى، ونحن حولنا فكر النهضة الى تكرار ممل لما كتبه سعادة، حين كان علينا التنطح لمناقشته ومساءلته وتطويره بشكل دائم،

ربط سعادة الكتب السماوية بالبيئة الزمنية والمكانية التي ظهرت فيها، وأخضعها تاليا لسنة التطور والتحديث،

ونحن حولنا كتاباته الى آيات منزلة ممنوع مناقشتها وتطويرها، بل وتغييرها، فكل ما كتبه سعادة استند فيه الى علوم التاريخ والفلسفة والاجتماع، وهذه كلها في تطور مستمر، فكيف لا يتطور فكر النهضة،

حتى النظم الإدارية يتم تقديسها، ومفهوم الديمقراطية التعبيرية تحول الى مبرر غير منطقي لمنع مشاركة القاعدة الحزبية في رسم الخطة الحزبية، أو حتى نقاشها، في اجتهاد لا علاقة له بأساس الفكرة، وأبشع صور التشويه الذي لحق بالفكرة هو انبثاق السلطة من جسم الأمناء، وهذا عدا كونه مخالفا لأبسط قواعد المنطق، لم يرد مرة عند سعادة، وهو خلط عجيب بين النخبوية وديكتاتورية السلطة، ولا يمت بصلة الى مفهوم الديمقراطية التعبيرية عند سعادة.

كل نقاش في فكر النهضة يجعل صاحبه عرضة للتخوين، والأمثلة عديدة، وتوالدت لدينا مجموعات نصبت نفسها حارسا ووصيا على فكر النهضة، فهي تقرر ما هو مطابقٌ للنص وما هو مخالف له، فتهيب الباحثون والمفكرون القوميون أي نقاش أو نقد لفكر النهضة، خشية التخوين، فتغلب النص الجامد على الفكر الحي، وابتعدت المؤسسة عن مشاكل الناس وهمومهم وكأن مملكتها ليست من هذا العالم، في مشهد يشبهه الأمين انعام رعد بحلقات الدراويش.

إن العملية الإدارية المعتمدة والتي ترهلت وشاخت قد باعدت المسافة بين القاعدة الحزبية والإدارات المركزية المتعاقبة، حتى أصبحت القاعدة في واد والمركز في واد آخر، فخرج من خرج وطرد من طرد.

لقد عرف تاريخ الحزب محاولات من القاعدة لإعادة الإمساك بزمام الأمور بعد كل انتكاسة للعمل الحزبي، وشكل مؤتمر ملكارت المحطة الأبرز في هذا المسار، مهما اختلفنا في تقييم نتائجه، ولكن كان يتم إجهاضها فورا، والانقلاب على مندرجاتها.

حتى الإدارة المنبثقة من الانتخابات الأخيرة والتي شكلت إنقلابأ على مرحلة من التبلد والخمول، نات بنفسها عن كل طروحات التغيير في البنية الإدارية الحزبية، ما أدى الى صراعات داخلية والى انكفاء الكثيرين.

التحدي الحقيقي أمام ابناء النهضة اليوم هو التنطح لعملية بناء جديدة، تفحص وتدرس وتمحص في أساس فكر النهضة وفي البنية الإدارية والتنظيمية، وفي الدور الذي يجب أن يلعبه الحزب في كل كيانات الأمة،

علينا المبادرة الى رسم مشروع قومي بحجم الوطن، وبحجم فكر النهضة وباعثها، والا فنحن الى اضمحلال.

لقد وضع سعادة الأسس لفكر نهضوي متوثب وحر، فلا تسجنوه في مشاريع صغيرة وفي قراءات متحجرة وبليدة.

اخرجوا سعادة وفكره من الصوامع التي حاولنا سجنه فيها وفي ذكرى ميلاده أعتقوه!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *