حقيقة السبي البابلي

• سؤال: ما مدى صحة النفي التاريخي للسبي البابلي؟ وما الذي تقوله الاركيولوجيا في هذا الشأن؟

• د. بشار خليف: بشأن السبي البابلي 586ق.م، أنه لا يمكن فهم معالم السبي الآشوري أو البابلي في الألف الأول قبل الميلاد، إن لم تتم الإضاءة على العالم السياسي آنذاك.

فإلى جانب الفاعلية المصرية والتي ترتبط بفلسطين ارتباطاً مصلحياً كون أن الثانية هي بوابة مصر إلى العمق المشرقي، ما يعني أن استقرار فلسطين عامل حاسم في توازن الفاعلية المصرية لجهة مصالحها. وفي المقابل كانت الفاعلية الآشورية في المشرق يعنيها ألا تكون فلسطين ثغرة أمنية ووجودية لها ولا سيما مع تواجد العبرانيين فيها والذين استطاعوا أن يلعبوا على هذا الصراع الخفي المصلحي بين مصر والمشرق العربي.

لهذا فإن معالم السبي المتكرر للعبرانيين والذي حصل في/ 722 – 721 /ق.م ثم في/ 597 ق.م 586 /ق.م وهو ما يعتبر السبي المركزي والأساسي، كان يستند ليس إلى بعد عنصري كون أن المسبيين عبرانيين، بل لقد عانت أرومات عديدة من السبي الآشوري والبابلي ومنها الآراميون والمصريون وغيرهم.

وتخبرنا الوثائق الكتابية لشاروكين الآشوري /722 /ق. م أن الممالك السورية لم تدفع الجزية لآشور ومنها السامرة وهذا ما دفع بشاروكين إلى مهاجمتها وسبي قسم كبير من سكانها كما حصل في مملكة حماة وكذلك السامرة عام/ 721 /ق.م.

وقد جاء في حوليات هذا الملك:

«لقد حاصرت السامرة وفتحتها وسبيت/ 27290/فرداً من سكانها. وجهزت من بينهم فصيلة من خمسين عربة ألحقتها بفيلقي الملك. أما المدينة فقد أعدت بناءها، فصارت أفضل مما كانت عليه وأسكنت فيها شعوباً من المناطق الأخرى التي قهرتها» (11).

وهكذا نلحظ أن السبي للعبرانيين من السامرة لم يكن لدواع عنصرية، بل كان يشمل كل من يقف في وجه الفاعلية الآشورية ولا يعترف بها. فالسبي البابلي للعبرانيين لم يكن يتقصدهم كما يحاول التوراة الإيحاء به لا بل والإشارة إليه عبر الفخر من قناة الاضطهاد والنبذ وبالتالي صب اللعنات على بابل / الزانية /! .

وبالعودة أيضاً إلى آشور حين كان يحكمها أسر حدون/ 680-   669 /ق. م فقد وصل هذا الملك بفتوحاته إلى مصر حيث ألحقها بآشور بعد أن شمل بلاد الشام كافة حيث ورد في حولياته:

«دعوت إليّ ملوك حاتي / مناطق غرب الفرات / وهم: بعلو ملك صور – منسي ملك يهوذا – قوش جبري ملك أدوم، موسوري ملك موآب، سلبيل ملك غزة، ميتيني ملك أشقلون، إيكو ملك عقرون، ملكيا شبا ملك بيت عمون، آبي ملكي ملك أشدود../ ويضيف أسماء ملوك من جزر وشواطئ قرطاج وكريت وقبرص../ ويضيف.. كل هؤلاء أرسلتهم إلى نينوى مقر ملكي وجعلتهم ينقلون تحت أقسى الظروف مواداً لبناء قصري» (12).

الجدير ذكره أن هذه الفتوحات الآشورية لم توفر أحداً من السبي بما يتعدى خمسين أرومة ديمغرافية واجتماعية وهذا ينفي كون أن السبي البابلي ذي أبعاد عنصرية كما يوحي التوراة أو اليهود الحاليون. أما بالنسبة للسبي الأخير الذي قام به«نبوخذ نصر» عام/ 586/ ق.م فكان السبب المباشر له هو أن زعيم عشيرة العبرانيين صدقيا رفض دفع الجزية لبابل حسب العهد أو الوعد الذي بين بابل وبينه، ونحن بتنا نعلم أن دفع الجزية تعني اعتراف العبرانيين بالولاء لفاعلية بابل وعدم المساس بأمنها وفاعليتها مقابل الحماية التي تؤمنها بابل لهم.

ولكن وكما يبدو فإن محاولات العبرانيين ليلعبوا في الخفاء على صراع المصالح بين المصريين والبابليين، هو الذي دفع بابل للحسم بحيث أن نبوخذ نصر استدعى شيخ العبرانيين صدقيا إلى ربلة قرب حمص حيث مقر الجيش البابلي وقال له نبوخذ نصر: أيها الوغد الشرير لماذا نكثت بالوعد؟   / الامتناع عن دفع الجزية لبابل ولعدة سنوات / وبذا تم سبيهم إلى بابل حيث أقاموا في معسكرات خاصة بهم، وسيقوا إلى العمل فيها واستُخدموا في أعمال البناء في أملاك الملك وفي بناء شبكات الري.

وبعد وفاة نبوخذ نصر أعيدت إليهم حريتهم الشخصية بالتدرج فسكنوا في أطراف بابل وشرعوا يمارسون البستنة وزراعة الخضار.

وتعطي الوثائق معلومات عن ممارستهم للأعمال التجارية بحيث جنوا أرباحاً طائلة وثروات هائلة حيث كانت بابل آنئذ مركزاً للتجارة العالمية وهذا ما ساعد بعضهم في أن يصبح من كبار رجال المال ومالكي العبيد.

كما أن بعضهم شغل مناصب مهمة في جهاز الدولة والقصر الملكي.

الجدير ذكره هنا هو أن مدينة بابل في ذلك الحين كان تعداد سكانها ينوف على المليون نسمة. وأن المدقق في أوضاع بابل آنذاك سيصل إلى استنتاجات أن الروحية المجتمعية الإنسانية المتبدية في بابل لا يمكن لها أن تدفع العبرانيين إلى العنصرية والعدوانية ولكن الذي يبدو هو أن المؤسسة الكهنوتية التوراتية في بابل سعت إلى ذلك ولعل زينون كاسيدوفسسكي يلامس هذا الأمر بقوله:

«إن السعي للعزلة التامة عن الشعوب المجاورة أثّر بشكل كبير على الديانة اليهودية حيث غدت أداة تعصب شوفيني وجداراً منع اليهود أن يتلقوا تأثيرات الشعوب المحيطة بهم» (13) .

ويبدو أن هذه التأثيرات استأثرها الأحبار لهم بحيث بدأوا بكتابة التوراة في أسفاره الخمسة الأولى مستمدين كل المنجز الحضاري المشرقي في الرافدين حالياً وسابقاً في كنعان بحيث اختلقوا مرويات الأصول والآباء والخروج الهوامي من مصر وعبورهم لصحراء سيناء ثم دخولهم دخول الفاتحين المنتصرين إلى أرض الميعاد التي انطلقت فكرتها أثناء السبي بحيث تم خلق إله يناسب كل الروائز النفسية السلبية لدى الأحبار بما يُدخل المشرق في صراع بين ذاته المنفتحة والذات المريضة الطارئة.

وعطفاً على كل هذا فلا بد لنا أن نناقش ونوّصف العالم البابلي خلال فترة السبي لنظهر أن كل ما ظهر من المؤسسة الكهنوتية التوراتية كان يقصد به تدمير معالم الانفتاح وأهم خاصية من خصائص المشرق العربي، عنيتُ خاصية الانفتاح، والتفاعل والتمازج الاجتماعي.

إن إحدى الوثائق البابلية /الآشورية التي تعود للملك الآشوري آشور بانيبال/ 668-626 /ق.م تذكر قول هذا الملك لمجموعة من مواطني بابل    / حيث كانت بابل تتبع الفاعلية الآشورية /:

«إن بابل قلب المعمورة، وكل من يدخل إليها يحصل على امتيازات معينة. حتى الكلب الداخل إلى بابل يمنع (قتله» 14).

وتشير المعطيات التاريخية والوثائقية إلى أن مجتمع بابل في الألف الأول قبل الميلاد كان مجتمعاً فسيفسائياً حيث نجد الآراميين والكلدانيين بشكل رئيس بالإضافة إلى أرومات المشرق العربي المختلفة كالكنعانيين والعموريين بالإضافة إلى أرومات لا تنتمي إلى النسيج الديمغرافي الاجتماعي للمشرق.

وتشير إحدى الوثائق من موقع نيبور وتؤرخ في حوالي/450/ق.م وتخص وثائق لدار العمل العائدة لأسرة العبراني ماروشو إلى أن حوالي ثلث أسماء الأشخاص المتعاقدين والشهود غير بابلية، كما لوحظ وجود مصريين إيرانيين وهنود وعيلاميين وأرمن وعرب…الخ.

لا بل أن إحدى الوثائق تدل على طبيعة التمازج الاجتماعي الذي شمل جميع الإثنيات / ما عدا العبرانيين/! حيث تشير هذه الوثيقة إلى أن أحد العيلاميين في بابل قام بتزويج ابنته إلى مصري وفقاً لقواعد الزواج المعمول بها في بابل وذلك عام /511/ ق.م وكان ضمن الشهود فرس وبابليون وآراميون وغيرهم (5) .

إن هذه الوثائق تضعنا أمام وضع أكثر مقاربة لما كان عليه مجتمع بابل في الألف الأول قبل الميلاد والذي يختصر ويمثل مجتمع المشرق العربي بكافة عصوره وصولاً إلى مجتمع تدمر في القرون الثلاثة الميلادية الأولى. أيضاً يمكننا الإضاءة على التنظيم الاجتماعي في بابل آنئذ حيث تمدنا الوثائق بأنه كان يسمح للغرباء في بابل بتشكيل مجالس شعبية تخص كل مجموعة إثنية. فكان للمصريين مجلساً شعبياً يُعنى بأمورهم ويرتبط بالقصر الملكي وكذلك للعبرانيين الذين كان لممثليهم في القصر حظوة عن سواهم.

وتذكر وثائق نيبور أن مدينة نيبور مثلاً كانت تخصص رقعة أرض لكل مجموعة إثنية.

أما بالنسبة للمجالس الشعبية الآنفة فإنها اُعتبرت منجزاً حضارياً بابلياً ومشرقياً تطلبته الظروف التاريخية الموضوعية لجهة تحقيق التفاعل والتمازج الاجتماعي.

ويشير بونفارد – ليفين إلى أن هذه المجالس تُذكر بما كان قائماً في العصر الهلسنتي/ 333-69/ق.م. واعتبره آنذاك كل من بحث في هذا المجال أنه منجز هلسنتي بينما في الحقيقة فإنه يعود للمشرق العربي في ابتكاره.

وعلى ذلك يقول«بونفارد – ليفين»:

«إن المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية والتصورات الإيديولجية التي اتصفت بها المرحلة الهلنستية كانت تستمد جذورها من بابل قبل قيام الامبراطورية الهلنستية» (16).

أما في الشأن الاعتقادي فقد اتصف الوضع في بابل بالتسامح واحترام عبادات الآخر ورموزه. وكما في تدمر، كان الاعتقاد يمتلك حريته المطلقة لدى أفراد المجتمع والمجموعات الإثنية تحت سقف الولاء للدولة وهذا دفع الباحث الروسي«داندا ماييف» للقول:

«إن السمة الرئيسية للوضع الديني في بابل كانت تكمن في عدم غرس روح التعصب تجاه معتقدات الشعوب الأخرى» (17).

وعليه بتنا نفهم مقولة «بونفارد – ليفين»:

«إن المشرق القديم لم يعرف الموقف العدائي من عادات وتقاليد وثقافات الشعوب المجاورة والبعيدة. ولم يعرف الخلافات والصراعات القائمة على أساس إثني أو الحقد العنصري والشعور بتفوق شعب على شعوب أخرى» (18). 

وعلى هذا بتنا أمام حقيقة أن المؤسسة الكهنوتية العبرانية في بابل لم يوآتها المناخ الإنساني الذي عهدته فسعت إلى الانتقام منه في مساق تاريخي طويل، بالإضافة إلى انتحال المنجز المشرقي وتدوينه في التوراة على أنه منجز عبراني ولكن بإضاءة بسيطة تبدو لنا الأمور واضحة حيث أن المشرق العربي وضع الأسس الأولى للشرائع والحياة الحقوقية في التاريخ وذلك ما توثقه قوانين لبت عشتار وأور – نمو وقوانين حمورابي ومراسيم إميصادوقا وقوانين إشنونا.

والملاحظ في كل هذا هو أن هذه القوانين كانت ذات صفة مجتمعية وإنسانية ولا تختص فقط بالمجتمعات المشرقية.

وفي المقابل وحين انتحلها الأحبار إلى توراتهم حرفوها بما يلائم نوازعهم النفسية السلبية بحيث أضحت شرائع تختص بالعبرانيين فقط عبر إله خاص لهم وعبر أنهم شعب هذا الإله.. الشعب المختار من بين جميع شعوب الأرض!.

ولكي نوضح أكثر عن أوضاع العبرانيين في بابل والتي يمكننا أن نضيء من خلالها على ما كان يحظى به هؤلاء من رعاية في بابل، فقد ورد في وثيقة مسمارية تعود للقصر الملكي البابلي شرح للمؤن التي كانت تصرف يومياً إلى مختلف القطاعات التي كان يحولها الملك. ومن هذه القطاعات ورد اسم زعيم العبرانيين المسببين يهوياكين حيث ورد في الوثيقة أسماء أبناءه الخمسة وثمانية من الخدم وهذا يؤكد بشكل لا لبس فيه أن زعماء اليهود كانوا يعيشون في بابل باحترام وعلى حساب القصر الملكي البابلي.

أيضاً تشير وثيقة ماروشو الآنفة الذكر والتي تشي بوجود مؤسسة مصرفية عبرانية تحمل اسم «ماروشو وأولاده» إلى أننا أمام نسق من العمل عبر علاقات دولية واسعة أنشأتها هذه العائلة ما يدل على مبلغ الحرية المعطاة لهم.

وقد أمدتنا هذه الوثيقة بمعلومات عن الفائدة التي كانت تتقاضاها هذه المؤسسة حيث تصل إلى 20٪ لقاء أعمال السمسرة التجارية علماً أن هذه النسبة تعتبر عالية جداً نسبة لذلك العصر.

والشيء الآخر الذي تضيء عليه هذه الوثيقة هو ورود أسماء لعدد كبير من اليهود ما يشير بأنهم كانوا يعيشون في بحبوحة كبيرة.

الجدير ذكره هنا هو أنه بعد خمسين عاماً من السبي وبعد سماح الملك الفارسي قورش للعبرانيين بالعودة إلى فلسطين، تؤكد المعطيات التاريخية على أن أصحاب الأموال والعقارات والتجار وكبار الموظفين لم يكونوا متحمسين للعودة وفضلوا البقاء في بابل ولم يعد سوى الفقراء والذين بلغ عديدهم حوالي 5000 شخص بما فيهم النساء والأطفال.

إذن نصل من كل ذلك إلى عدة استنتاجات تختص بعوالم السبي البابلي للعبرانيين:

أولها: أن ظاهرة السبي الآشورية والبابلية كانت تقليداً آشورياً يجري على كل الأرومات البشرية والاجتماعية ولا يختص بإثنية أو دين عن سواه.

ثانيها: أن العبرانيين المسبيين تمتعوا بحقوق المواطنة في بابل ومارسوا حياتهم بكل طمأنينة وبحبوحة ودليل ذلك عدم عودة إلا قسم ضئيل منهم بعد السماح لهم بالذهاب إلى فلسطين.

ثالثها: أن كتابة التوراة في أسفاره الخمسة الأولى حصل في فترة السبي وجاء بما يعاكس ذهنية تلك الفترة، وخصائصها الحضارية الإنسانية في بابل، ما يشي بدور المؤسسات الكهنوتية العبرانية في محاولة تكريس ثقافة الغيتو والانعزال والاستعلاء على الشعوب الأخرى لدى المجموع العبراني ويبدو أن هذا لم يكن إلا انعكاساً لما يجول في خافية المؤسسة الكهنوتية من نوازع الدونية وأحاسيس النبذ والتي عبّرت عن نفسها بكل المعاني السلبية التي احتواها كتاب التوراة في أسفاره الخمسة الأولى وتالياً في أسفاره التاريخية وغيرها.

ولتبيان مدى «إنسانية!» الموقف العبراني / ولا سيما مؤسساته الدينية وبالتحالف مع مؤسساته الزمنية/ نتيجة لاحتضان بابل لهم أثناء السبي، يمكن للقارئ المهتم بالمزيد أن ندعوه إلى قراءة سفر «استير» في التوراة والذي يعبّر بعمق عن الخصائص النفسية للأحبار وشيوخ العبرانيين.

( حاوره إبراهيم مهنا)