ترامب وتكتيكات علم التفاوض

رفع «الإسرائيلي» شعارات كبيرة لحربه في غزة ولبنان، ولم يستطع تحقيقها لا بالحرب العسكرية، ولا بالتهويل الاعلامي الذي استخدم فيه جميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الاطراف السياسية ووسائل الاعلام المتعاطفة مع اهدافه.

أهداف العدو

في غزة، كان الهدف المعلن من الحرب استعادة الاسرى وتدمير حماس. لم يستطع استعادة الاسرى الا عن طريق التفاوض. وخلال تسليم الاسرى، أسبوع خلف أسبوع، كانت حماس تستعرض قوتها وسيطرتها ووجودها. مما يعني أن أهداف الحرب المعلنة لم تتحقق، برغم الدمار والإبادة الجماعية التي ارتكبها، وتسببت له بمشاكل على المستوى الدولي والمحلي، وخسائر اقتصادية فادحة.

في لبنان، كان الهدف المعلن إعادة المستوطنين الى الشمال، وتدمير حزب الله، وإقامة حكم في لبنان لا وجود لحزب الله فيه. وهو ما كررته السفيرة الأميركية، ومشت به الكثير من القوى السياسية والقنوات الاعلامية الموالية للغرب، في لبنان والعالم العربي. وبعد اتفاق وقف إطلاق النار، وبرغم الخسائر الكبيرة، وبعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتكليف رئيس جديد للحكومة، وجدت هذه الاطراف، واسرائيل وأميركا من خلفها، أن الحكومة التي يجري التفاوض عليها سيكون حزب الله مشاركاً فيها، ولا تمر دون مشاركة الثنائي فيها. والمستوطنون عودتهم النهائية مرهونة بانتهاء الفترة الانتقالية وخروج حزب الله من جنوب الليطاني، مع التهويل المستمر بأن القرار 1701 يعني تسليم سلاح الحزب في كل لبنان وليس فقط في جنوب الليطاني.

إذا، أهداف العدو لم تتحقق كما أراد في الحالتين. وحله الوحيد لذلك هو استمرار الحرب بعد تبادل الاسرى في غزة، وبعد تشكيل حكومة معادية لحزب الله في لبنان، مع ما يتضمنه ذلك من مخاطر وعدم استقرار وغموض ووقت، وهو حل غير مضمون النتائج.

  تدخل ترامب:

الرئيس الأميركي العائد، ترامب، والذي يريد انهاء الحروب وتحقيق السلام في العالم كما يصرّح، اضطر أن يتدخل هو، ويستخدم تكتيكات علم التفاوض الحديث، المتخصص بتمرير الأفكار الصعبة  (Extreme Anchoring)، لعله يستطيع أن يحقق من خلال الضغط والتهويل وتسويق الأفكار الصعبة والضغط الأقصى، ما لم يستطع العدو تحقيقه في الحرب.

فطرح فكرتين واحدة لغرة والاخرى للبنان، ليبدأ التفاوض منها:

1 ـ تهجير الفلسطينيين من غزة وتحويلها الى أكبر مشروع تطوير عقاري في العالم، بإدارة أميركية. وهذا يؤدي النتيجة الى اخراج حماس وجمهورها من غزة نهائيا.

2 ـ إنشاء حكم جديد في لبنان لا وجود لحزب الله فيه، وتكون مهمته الأساسية الضغط لتسليم سلاح حزب الله أو نزعه. وبالتالي يؤدي ذلك الى عزل الحزب وإقصائه، وإحباط جمهوره. وهذا يؤدي الى هدنة طويلة وطمأنينة من جهة العدو والمستوطنين في شمال فلسطين، مما يشجعهم على العودة واعادة دورة الاقتصاد الى هذه المنطقة الغنية. وهذا ما كررته المبعوثة الأميركية البارحة في القصر الجمهوري.

ومن الطبيعي أن يكون هذين المتقرحين مرفوضين جملة وتفصيلا من قبل حماس والحزب. ولكنه يحاول، ثم يقرر كيف يتراجع خطوة خطوة، للوصول الى اقصى ما يمكنه تحقيقه، ويتجاوز ما حققه الاسرائيلي بالحرب. ولكي نفهم الخطوات التي يمكن أن يقوم بها الاميركي، للتفاوض حول افكاره المرفوضة، لا بد من النظر الى علم التفاوض، وفهم آلية الخطوات التي يقوم بها المفاوض الذي يعتمد هذه التكتيكات

 تكتيكات رفع السقف (Extreme Anchoring) والتراجع بذكاء في التفاوض

تشير مراجع علم التفاوض، أن المفاوض الذي يعتمد هذه التكتيكات، يجب أن يتبع المسار التالي:

1ـ يبدأ برفع السقف (Highballing) لاختبار مدى التقبل: يضع مطلبًا مرتفعًا أو موقفًا متشددًا يتجاوز الحدود المقبولة، مع تقديم مبررات (Justifications) قد تبدو منطقية للحفاظ على المصداقية (Credibility). مثل القول بتحويل غزة الى مدينة ذكية ومركز اعمال عالمي ومنتجعات معاصرة. او القول بتحرير لبنان من سيطرة حزب الله على الحكم والقضاء على الفساد والتبعية والعبث بأمن الشرق الاوسط واجتثاث النفوذ الايراني.

 2 ـ يراقب رد الفعل المقابل (Counter-Reaction): إذا بدأ الطرف الآخر بالمساومة، فهذا مؤشر على وجود مساحة للتفاوض (Room for Negotiation)، أما إذا كان الرفض قاطعًا، فقد يكون السقف المطلوب مبالغًا فيه. وبالتالي عليه الركون الى احدى الخيارات التالية:

3 ـ يستخدم التنازل المشروط (Conditional Concessions): لا يقدم أي تنازل (Concession)  دون الحصول على مقابل (Trade-off) واضح. مثلا مطالبة إخراج قيادة حماس من غزة بدل تهجير أهلها. أو ضمان سحب سلاح حزب الله وتحوله الى حزب سياسي في لبنان مقابل قبول مشاركته في الحكومة.

4 ـ إذا لم يتم التجاوب مع هذه العروض للتنازل المشروط، يعتمد التنازل التدريجي (Incremental Concessions): لا يتراجع دفعة واحدة، بل بخطوات تدريجية (Gradual) لإعطاء انطباع (Impression) بأن كل تنازل (Concession) له قيمة مقابلة.

5 ـ يمكن أن يقوم بإعادة توجيه النقاش (Reframing) بدل التراجع المباشر: بدلًا من التنازل عن المطالب الأساسية، يقترح مزايا بديلة (Alternative Benefits) مثل عروض إعادة الإعمار أو رفع تدريجي للعقوبات أو إنشاء إدارة جديدة في غزة لا يكون لحماس دور أساسي فيها، أو اشتراط توقيع سلام دائم مع اسرائيل من قبل الحكومة اللبنانية التي يشارك فيها حزب الله.

 6 ـ من المفيد أن يستخدم استراتيجيات التأجيل والمماطلة (Delaying and Stalling Tactics): بحيث لا يتنازل فورًا، بل يطلب فترة تهدئة (Cooling-off Period) أو يقدم تعديلات طفيفة (Minor Adjustments) لإبقاء باب التفاوض مفتوحًا (Negotiation Open) لأطول فترة ممكنة. وهذا يؤدي مع الوقت الى استنزاف الخصم، وتمديد مرحلة الدمار والحصار والظروف الانسانية والاقتصادية الصعبة، بحيث ينتفض الناس ويثوروا على حماس وحزب الله مطالبيهم بالتنازل. وهذا ما اعتمدته الادارات الاميركية سابقا في العراق والشام، حيث ترك نظام البعث في كل من الدولتين لسنوات تحت الحصار والظروف العصيبة، الى أن جاء وقت فقد فيها حاضنته الشعبية، وسقط بلمحة بصر إما بتدخل عسكري أميركي مباشر كما في العراق في 2003، أو بدعم فصائل عسكرية تسقط النظام كما حصل في الشام في آخر 2024.

ويستنتج علم التفاوض، بأنك باستخدام هذه التكتيكات، يمكنك اختبار تمرير الأفكار الصعبة (Extreme Anchoring) دون خسائر، والتراجع بذكاء إذا لم تؤتِ استراتيجيتك ثمارها. لذلك لا بد من فهم عقلية ترامب التفاوضية، لتوقع السيناريوهات المستقبلية التي يهيئها لمنطقتنا، تعويضاً لإسرائيل عن فشلها في تحقيق أهداف حروبها المعلنة. ✅