ينتاب كل متابع لما يجري على الساحة الدولية من قرارات وتوجهات نوع من التعطيل الذهني عند محاولته التفكير في أسباب وأسس ودوافع هذه القرارات والتوجهات. فبالرغم من وضوح الغرائز التي تحث جهة أو حكومة ما على اتخاذ قرارات منافية للأخلاق والقيم والمعايير، لا تنفك الدهشة تعلو وجوهنا والاستغراب يعصف في أذهاننا ونحن نعمل على الإدراك والفهم.
اكثر ما لفت الانتباه مؤخرا هو القرار الأميركي، القاضي بوقف المساهمة الأمريكية لصندوق المساعدات المالية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE والمخصصة للتنمية الدولية والتي عادة ما تحول إلى المنظمات الإنسانية وغير الحكومية وحتى إلى وكالات الأمم المتحدة المتعددة والمعنية بالشأن الإنساني.
وقد نشط الإعلام الغربي بالالتفات إلى هذه المشكلة ودراسة الوضع بشكل عميق لتحديد تداعيات التوجه الأمريكي أولاً وأسباب فشل نظام الإعانات ثانياً. فقد تبين للدارسين أن التداعيات كثيرة وسببها فشل النظام المالي نفسه. تعقيد ذهني حقيقي.
من ناحية أولى، إن المساعدات المالية تأتي من مساهمات حكومات ودول، وهي ليست كثيرة، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أموال خاصة، وقد أصبحت ضئيلة بالنسبة لحجم الكوارث العالمية. وتؤكد الإحصائيات أن الكوارث العالمية الكبرى ازدادت خلال السنوات العشر الأخيرة وانتقلت من نسبة 30% إلى نسبة 90% على سلم الكوارث مجتمعة. كما ويحدد الدارسون أن فشل نظام المساعدات يعود إلى تبؤ كارثة ما المرتبة الأولى على سلم أولويات الدول الأساسية المانحة فيتم تحويل الأموال المتاحة في صندوق المساعدات لهذه الكارثة على حساب كوارث أخرى.
إننا نعني بالكوارث الكبرى تلك التي تتطلب احتياجات طارئة وطويلة الأمد. من بينها نجد اثنتان تحتلان المرتبة الأولى وتعيقان وصول المساعدات الإنسانية إلى باق الكوارث وهي أوكرانيا وغزة.
من بين تداعيات الأزمة الأوكرانية أنها استحوذت على أكبر قدر من الأموال المتاحة في صندوق التنمية الدولية على حساب أزمات أخرى مثل أفغانستان والسودان وهايتي أو أزمة البواخر المحطمة في البحر المتوسط. ولم يبق أي شيء حتى لأزمة غزة التي تحتاج إلى أكبر قدر من المساعدات دون الدخول في تفاصيلها لأنها واضحة أمام أعين العالم وأعين أبناء أمتنا.
ما يقف أمامه العقل البشري ويعجز عن فهمه عند الدخول في عمق المسألة، هو اللوم المبطن الذي يُصفَع به أبناء أزمة ما وهم الذين لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما حدث. فكيف نوقف مساعدة إنسانية عن أهالي غزة مثلا وهم ضحية تسلط واعتداء واحتلال وتفرقة وبغض وكراهية وعدم مبالاة وقد مُنع عنهم حق الوجود. ومن ناحية ثانية كيف يمكن لهذه الدول المانحة والتي هي نفسها المتضامنة مع إسرائيل، الكيان المعتدي، ألا تستمر في تضامنها فتسدد عن المعتدي ثمن إجرامه أو تجبره على التسديد كعقاب لما أنتجه من دمار وزهق للأرواح بدلا من أن تشير إلى أهالي غزة بأصابع الاتهام وكأنهم هم الذين دمروا ديارهم وقتلوا أبناءهم ونسفوا البنى التحتية بأكملها وجوعوا أطفالهم كل هذا من باب رغبتهم باللعب بمصيرهم الخاص ووجودهم. وهكذا يعتبون على غزة حرمان كوارث أخرى من إعانات مالية وإنسانية.
وفي الوقت الذي يزداد فيه التخوف من عملية تقليص في المساهمات المالية (قلصت فرنسا مساهمتها إلى نسبة 34%) أو حتى من انسحاب البعض الآخر (من المتوقع انسحاب ألمانيا في حال استمرار النظام الحالي) يقترح المحللون كحل لتوزيع المساعدات المالية بشكل عادل إصلاح النظام المالي نفسه وتوسيع رقعة الدول المانحة إلى أقصى حد ومنح إعفاءات ضريبية لكبرى الشركات المالية والربحية إذا ساهمت ماليا في صندوق التنمية الدولية والمساعدات الإنسانية. وبهذا يستطيع الصندوق توزيع الأموال المتاحة بشكل عادل ويساهم في مساعدة حوالي 300 مليون نسمة في العالم تعاني من أزمة ما. لكن هؤلاء المحللين لم يتطرقوا أبدا، كما وأعتقد أن الفكرة لم تخطر ببال أحدهم بسبب قصر مجال الرؤية وانخفاض مستوى الذكاء الذي يتصف به من يمرح في المجال الدولي ويدَّعي فهمه له، لم يتطرقوا إلى تحديد أسباب الأزمة لمعرفة ما إذا كانت كارثة طبيعية أو كارثة سببتها أياد مجرمة. ألم تنص القوانين على معاقبة المذنبين؟ وهل من مذنب أخطر من الكيان الإسرائيلي؟ ففي علم القوانين الجنائية يمكن بكل سهولة اعتبار الكيان الإسرائيلي قاتلاً مستلسلا.
جميل أن تُحال المساعدات المالية والإنسانية المتاحة في الصندوق الدولي للتنمية لكوارث سببتها عوامل طبيعية أو سياسية اقتصادية وسياسية اجتماعية، ولكن ماذا عن تخصيص صندوق مساعدات لكوارث إجرامية ترسل كلفتها إلى المعتدي فيتحمل تبعيات إجرامه؟
هيا بنا نسلم جدلا أن الدول المانحة والمتعاطفة مع إسرائيل لا ترغب بأي شكل من الأشكال اتهام إسرائيل ومعاقبتها على الدمار الذي سببته وارتكابها لإبادة جماعية بحق أهالي غزة، ولنسلم جدلا أنها لا تود في أي شكل من الأشكال إرسال فاتورة الإصلاحات لكي يشارك الكيان المحتل ولو بقليل في المساهمات المالية فيخفف عنها عناء الإعانات وإعادة البناء ونجدة الأطفال وإطعام الجياع، لكن ما نرفضه تماما هو إلقاء اللوم على الشعوب التي تعاني والتي لم ترج إلا العيش الرغد والتي لم تكن يوما سببا في دمار أرضها. أن نلقي اللوم على أهالي غزة فنوقف عنهم المساعدات الإنسانية ونمنع بالتالي عمل المنظمات لنجدتهم هو استبدال مد اليد بقطع الرقاب.
إذا لم ترغب الولايات المتحدة تطبيق المثل الشعبي «تقتل القتيل وتمشي بجنازته» فلتطبق على الأقل المقولة “إن ابتليتم بمعصية فاستتروا!” والمعاصي الأمريكية كثيرة بعدد معاصي الكيان المحتل. لكنها فاجرة ولا تستتر.
بدر الغساني