النظام المدني العلماني: الدولة والعلمنة – الجزء السادس

دور العلمنة في المجتمعات المتعددة الثقافات والحضارات

    المجتمع المتعدد الثقافات والحضارات.

منذ بدء التاريخ، حتى يومنا هذا، ونحن نجد العالم الإنساني يتوزع بين أمم ومجتمعات وشعوب ودول، تتعاون فيما بينها أحيانا، وتتقاتل أحيانا أخرى، والقاسم المشترك في تقاربها وتصادمها هو العمل على تأمين مصالحها. وقد شهد العالم الإنساني، في تطوره، نشؤ الثقافات والحضارات، التي هي متجانسة من حيث طبيعتها الإنسانية الواحدة، وهي متنوعة بتمايز البيئات الطبيعية من حيث موقعها وحدودها ومناخها وأشكال تضاريسها، فالبيئة كانت وما تزال تطبع الثقافات والحضارات بطابعها الخاص، بما يتناسب وإمكانياتها، ان البيئة الطبيعية تقدم الإمكانيات لا الحتميات، فالأرض هي الجانب الإيجابي من الحياة، أما الجانب السلبي الذاتي الفاعل فهو الأنسان الذي يستخدم ما تقدمه الطبيعة من إمكانيات ليبدع وينتج ويبني، ويولد الثقافات والحضارات.

    انطلاقاً، مما تقدم، ما هو مفهوم المجتمع المتعدد الثقافات والحضارات؟

    بداية، نتساءل: هل يوجد في العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين، مجتمعاً واحداً أحادي الثقافة والحضارة؟

    نبادر إلى القول استحالة وجود مثل هذا المجتمع، حتى في الشعوب العنصرية المغلقة على ذاتها، فكيف، إذا، في الشعوب المتمدنة التي بلغت بالمعرفة عصرها الذهبي! ونضيف أنّ كلّ المجتمعات اليوم هي مجتمعات مركبة من حضارات وثقافات متراكمة متداخلة متفاعلة، ستزداد تركيبا وتداخلا وتفاعلا في المستقبل إذ أحسن إدارتها، وستعاني من الحروب والويلات والصدامات والتخلف إذ اعتمدت مبدأ القوة الغاشمة لتأمين مصالحها. واذا كان التاريخ يفيدنا بأن انتصار ثقافة على ثقافة وحضارة على حضارة، هو نتيجة تفوق سلاح على سلاح، وأنه لا يمكن التفكير، وجدانيا بإيقاف اختراع الأسلحة الممتازة بقوة فتكها، إلا يوم يمكن التفكير بانعدام الحروب. فكيف السبيل، اذا، إلى منع الصدامات بين الثقافات والحضارات ومنع الحروب المدمرة، ونشر السلام العادل بين الشعوب؟ هذا السؤال يطرح دور العلمنة الإيجابي على المستويين الاجتماعي والوطني في منع الصدامات بين الثقافات والحضارات.

–  دور العلمنة في المجتمعات المتعددة ومنع الصدامات.

لا يقتصر دور العلمنة على إقامة نظام سياسي اجتماعي يميز فقط بين الشؤون الدينية والأخرى الدنيوية، على قاعدة «إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر»، بل يتعدى ذلك إلى الاستعانة بالعقل الإنساني المعرفي ـ العلمي لتنشيط الحوار بين الوحدات والمجتمعات المتعددة الحضارات والثقافات للتواصل والتفاعل بينها، من أجل الوصول إلى حضارة إنسانية واحدة، يسود فيها مبدأ الخير العام، والسلام العالمي الدائم حيث تحترم فيها حقوق ومصالح الشعوب الغنية والفقيرة، القوية والضعيفة على السواء، وهذا يقودنا إلى السؤال الآتي: كيف يحدث هذا التفاعل الحضاري، في ظل الواقع العالمي المأزوم، وما هي طرق هذا التفاعل ومسالكه؟.

    ينقسم العالم اليوم بين حضارتين رئيسيتين حضارة الصناعة وما بعدها في المجتمعات الغربية، وحضارة الزراعة وما قبلها في المجتمعات النامية (المتخلفة)، أضف إليه أن تسارع عملية التحول من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة فإلى عصر المعرفة، جعل من الصعب انتقال كل فئات المجتمع الواحد من الحضارة الأولى إلى الثانية ثم إلى الثالثة، وتسبب، بالتالي، في تعايش أكثر من حضارة واحدة ضمن مجتمع الدولة الواحدة كما ساهم في التقدم العلمي ـ المعرفي الكبير والمتسارع في وسائل الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا، في تخطي الحدود السياسية والثقافية للمجتمعات والدول، وهذا جعل بالإمكان إحياء عدد من الثقافات المحلية التي كانت نائمة، وقيام بعض الأقليات بتطوير ثقافات خاصة بها، وشجع أكثر فئات المجتمع ثقافة وثراء على الانتماء إلى الثقافة العالمية الناشئة[1]، وهكذا بدت أمامنا لوحة فسيفسائية تمثل العالم موزعا بين حضارتين رئيسيتين، وكل مجتمع فيه مقسما إلى حضارات متعددة، وبعض هذه الحضارات والثقافات يرتبط بشكل أو بآخر بحضارة أوسع وأشمل مما جعل المجتمع يدخل مرحلة التفكك والانقسام إلى مجموعات حضارية وثقافية متباينة وأحيانا غير متوافقة تسود علاقاتها حالة من الشك المتبادل والخوف المتبادل، مما أيقظ شبح الصراع والتصادم والحرب بين الحضارات الرئيسية في العالم، وبين المجموعات الحضارية – الثقافية داخل المجتمع الواحد.

    من الواضح، والمعروف، أن العالم شهد في عصوره التاريخية كلها صدامات وحروبا بين شعوبه، وفسرت على أنها صدامات وصراعات وحروب بين الحضارات والثقافات، ووصلت إلى ذروتها في الصدام الحربي الحضاري بين «الشرق المحمدي» و «الغرب المسيحي». وما استتبع ذلك من صدامات داخلية بين اتباع الحضارتين، ووصلت في بعض الحالات إلى صدامات ثقافية دموية بين فرق الدين الواحد (الطائفية)، وبين الطائفة الواحدة (المذهبية)، وكان لمصالح الدول الكبرى والإرادات الأجنبية وحالات الجهل بالآخر والشك به ومحاولة إلغائه الدور الرئيسي في هذه الصدامات التي كانت في معظم الأحيان دموية تدميرية. وقد أطلق أستاذ جامعة هارفرد اليهودي «صامويل هنتنجتون» في صيف 1993 تحذيره من الخطر المحدق بالحضارة الغربية، ويعني بهذا الخطر «الحضارة الإسلامية» ، وذلك في اطار مقولة غير علمية على افتراض غير واقعي ينطلق من خلفية ثقافية معادية للمسلمين والعرب، أو من سوء فهم مبتور لحركة التاريخ، ولنظرية أن التاريخ يعيد نفسه، وان من الحكمة اعتبار أحداثه وعبره الماضية إطارا مرجعيا لتحليل الحاضر والتنبؤ بأحداث المستقبل، وهي نظرية بلا أساس علمي أو منطقي على الإطلاق.

    إن التهديد بصدام الحضارات والثقافات، بدل تقاربها وتفاعلها، ينطلق في عصرنا الحاضر، من نظريات أصولية سلفية تكفيرية عنصرية، وهذه النظريات لا تقتصر على دين واحد، أو مذهب واحد، أو مفكر عربي أو أجنبي واحد، وإنما تتجمع في منظومة واحدة، تروج وتحرض على صدام الحضارات والثقافات على قاعدة «الفوضى الخلاقة» أو «الفوضى البناءة»، التي تؤدي إلى قيام نظام دولي، أحادي «الحضارة» و «الثقافة» وقد اصطلح على تسميته بالعولمة، التي ظاهرها «عملية التحول المجتمعي من حضارة عصر الصناعة إلى حضارة عصر المعرفة»، وباطنها وجوهرها تأمين مصالح القوى المتغلبة بالمال والسلاح والهيمنة على حساب استغلال موارد الأمم الضعيفة، والتحكم بمصائر شعوبها، خلافا لكل المبادئ والقواعد والقيم والقوانين الإنسانية من دينية ووضعية. وهذا ما نبه إليه مؤتمر سالزبورغ، الذي حضرته 32 دولة في العام 1996، حيث أجمع المؤتمرون فيه على أن أبرز التحديات التي تواجه الأمة – الدولة في ظل «العولمة» تتمحور حول عدم الاعتراف بحدود الدول وزعزعة استقرارها، والسيطرة على مواردها الطبيعية، ومصادرة كفاءاتها، والتحكم بمعدلات صرف عملاتها، والاتجاه بها نحو مراتع العزلة والفقر، والأهم من كل ذلك، تركها فريسة للتآكل والتفكك من الداخل على يد المجموعات العرقية والعنصرية والدينية، وهكذا تساهم فلسفة «العولمة» في عملية تصادم الحضارات والثقافات التي تؤدي في النتيجة إلى قيام دكتاتورية دولية أحادية الجانب، تتحكم فيها شركات الدول الغنية القوية، بالدول الصغرى الفقيرة الضعيفة وتحولها إلى سوق استهلاكية لمنتوجاتها، ويمنع عليها التقدم والتطور.

إزاء هذا الواقع، فما هو الدور الإيجابي الذي يمكن للعلمنة أن تلعبه على المستويين الاجتماعي والوطني لمنع الصدامات في المجتمعات المتعددة الحضارات والثقافات؟           نؤكد، من جديد، أن دور العلمنة الإيجابي لا يقتصر فقط على التمييز بين الشؤون الدينية والأخرى الدنيوية، بل يتجاوز ذلك إلى أحداث نهضة شاملة في بنية المجتمع وإصلاحه وتحديثه وتطويره في اتجاه تعميق حضارته وثقافته الذاتية في إطار تفاعل هذه الحضارة وهذه الثقافة مع الحضارات والثقافات العالمية الأخرى تمهيدا لقيام حضارة وثقافة عالمية موحدة لا تكتفي بالمظاهر منهما بل بالنظام المدني الجديد الذي تقيمه وبالقيم الإنسانية الجامعة التي ترسخها. ومن هنا انطلقت العقول تتقاطع من خلال مقررات وتوصيات مختلف المؤتمرات والندوات العالمية وغيرها، على ضرورة الحوار والتفاهم والتفاعل بين الثقافات والحضارات على مبادئ وأهداف


[1] (1) – عادل فقيه: حوار الشعوب والثقافات، مرجع سابق ص46.