المجتمع وتطوّره: التطور الثقافي السابق التاريخ

    لا شك أن الثقافات المتوالية على الإنسان التي تولدت بالتفاعل المستمر بينه وبين بيئته، أدت إلى ظهور المجتمع الإنساني المتمدن، فالإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي تمكن من إيجاد علاقة تفاعلية مع بيئته، وذلك بسبب وجود دماغ لديه، والذي هو الشرط الأساسي ليصبح التفاعل ممكناً، والذي بسببه توثقت الصلات التفاعلية بين الإنسان والطبيعة عن طريق البيئة.

    إن عصر الاحتكاك ابتدأ من درجة عقل الأشياء المحيطة واستخدامها، ومن ثم ارتقى هذا العصر إلى تناول النار واستخدامها في الكثير من الأغراض، وبالتالي نجد أن بداية الإنسانية ترافقت مع بداية الثقافة الإنسانية، فاستعمال النّار هو الخطوة الفاصلة التي عيّنت للإنسان السّابق اتجاهه، وأهميتها الكبيرة في حياة الإنسان وارتقائه تكمن في كونها عاملاً اقتصادياً له، فهو استعملها في صدّ السّباع المفترسة عنه، وفي الإنارة ليلاً، وفي تدفئته وشيّ لحم فرائسه، واستفاد من حرارتها ونورها، فأوجدت لذة فيها كل الاطمئنان، وهذا الاطمئنان أدّى إلى تولّد الإحساسات النفسية الفردية، كما حوّل علاقة الذكر والأنثى من عمل بيولوجي بحت يقتصر على فصل اللّقاح إلى حالة اجتماعيّة لها خصائصها النفسية.

    والنار قوّت الرابطة الاجتماعية في الإنسان، وجعلته أكثر استعداداً للارتقاء، فساعدت على نشوء النطق لديه، ذلك النطق الذي حوّل الاكتشافات والاختبارات التطوريّة الأولية إلى معارف اجتماعية وراثية، كما أعدّت النار الإنسان السابق لدخول العصر الحجري الذي بدأت فيه الثقافة الإنسانية، وما تزال النار مرافقة للإنسان في كل تفاصيل حياته حتى يومنا هذا.

    والإنسان الآخذ في التقدم بسبب اعتماده على النار، كان قد التفت للأشياء المحيطة فيه، كالأحجار التي استعان بها على شقّ الحيوان وسلخه وتقطيعه بعد قتله، فاعتنى بها وصنع منها أدواته، ومن خلال هذه الصناعة التي كانت بحاجة إلى عناية الإنسان ومجهوده العقليين، نستطيع أن نتتبع ثقافة الإنسان.

    إن حياة كل كائن حي تعتمد على الجسم والنفس والمحيط، ولا بد من تأمين الحصول على الغذاء الموجود في الطبيعة بتأمين وسائل الحصول عليه، وبما أن حفظ الحياة الفردية مضافاً إلى حفظ النوع، وحفظ الاجتماع مضافاً إلى حياتي الفرد والنوع، فلا يمكننا أن نتصوّر حياةً فرديّةً أو اجتماعيّةً بدون غذاء، وبالتالي فإن رابطة الإنسان الاجتماعيّة الأولى هي الرّابطة الاقتصاديّة.

    ظلّت صناعة الأحجار الثقافة الوحيدة لدى الإنسان طول الحقب المبتدئة، فأظهر مهارته في تقطيع الأحجار وتحسين أشكالها وشحذ حافّاتها لتفي بغرضه، لا توجد أدّلة اجتماعيّة لإنسان العصر الاحتكاكي سوى آثار مواقده وأدواته الحجريّة، وهي تدل على الخروج من الحيوانية والانتقال إلى الإنسانية، وكانت نفسيته ما تزال بدائية، حيث أثبتت أعمال التنقيب على أنه كان يأكل نوعه، أما في القسم الحديث من العصر الحجري، نجد أن الإنسان قد حقق ارتقاءً جديداً في شكله وثقافته أكسبه اسم الإنسان العاقل، وفي هذا القسم نجد أن الإنسان بدأ عصر التفاعل، فقد حسّن أدواته الحجريّة تحسيناً كبيراً واخترع أدوات جديدةً من العظم، كما أخذ ينقش في الطّبيعة ويحفر في كهوفه، على الحيطان، وعلى الأدوات العاجيّة والعظميّة رسوماً جميلةً تدلّ على سلامة ذوق، وقام بصناعة النّصب.

    رغم كل ذلك فقد بقي الإنسان صياداً، مع أنه قد حسّن عدّة الصّيد باختراع القوس للرّماية، وبدأ باصطياد الحيوانات البحرية، رغم ذلك نلاحظ بداية لأشكال الإنسان العاقل الذي يمكننا أن نسميه “الإنسان العاقل الحديث”

وذلك لأن الصناعة الصغرى قد ارتقت، بعدها بدأت ظاهرة تدجين الكلاب، وبدأت الأدوات الحجرية تُستعمل لأغراض جديدة، فظهرت الفأس الحجرية وأدوات أخرى، بعدها نطق الإنسان، وارتقى إلى مرتية اللغة، وبدأ بتدجين الحيوانات، وأخذ ما تقدمه من حيوان ونبات، كما بدأت صناعات النسيج والخزف.

        إنّ الثقافة البشرية تناولت النوع الإنساني بكامله، فجميع البشر كانوا صيادين وصانعي أدوات حجريّة وجامعي القوت النباتي ممّا تقدمه الأرض الكريمة، ومع بداية الزراعة في العصر الحجري المتأخر، ظهر عامل جديد في ترقية حياة البشر لم تشترك فيه جميع سلالاته أو شعوبه، ومع الزراعة والاشتغال بالمعادن يرتقي عصر التّفاعل إلى ما نسميّه التّفاعلّ العمرانيّ أو الثّقافة العمرانية.

محمد جميل عليان