كيف نشأت نظرية الحرب الناعمة؟ وما الأدوات التي تعتمدها من أجل تحقيق الأهداف المرجوّة؟
يقول المنظر العسكري كارل فون كلاوزفيتز:
«الحرب نزاع مسلح بين المصالح الكبرى تسيل فيها الدماء»، وهي أداة لحماية مصالح الدول وتوسيع رقعة سيطرتها ودائرة نفوذها، وعمل عنفي يُقصد منه إجبار الأعداء على الاستسلام والخضوع لإرادة الدول التي تشنّ هذه الحرب، وهي امتداد للسياسة، إذ تقوم على وسائل مختلفة ضمن ظروف خاصة.
ما هي أنواع الحروب؟
حرب استعمارية، حرب استقلال، حرب ابادة، حرب اقتصادية،
حرب بالوكالة، حرب استنزاف، حرب الخلافة، حرب سيبرانية،
الحرب الهجينة، الحرب الناعمة.
أما الحرب الناعمة تعد صامتة بطبعها، فلا يُسمع فيها هدير الطائرات وأزيز القذائف ولا حتى أصوات توغل المشاة، أي أنها لا تُحدث ضجيجاً. وبالتالي هي متفلتة من القانون الدولي الذي يدور في إطار حل النزاعات ومفاوضات السلام والهدنة ووقف الأعمال الحربية، بل هي «جيل جديد» من الحروب يتسم بالضبابية والتعقيد
ما تقوم به الأحزاب والمنظمات والكيانات في إطار التأثير السياسي والأيديولوجي، وتمارسه أيضاً الشركات، وخصوصاً المتعدّدة الجنسيات منها، في مجالات الاقتصاد والتجارة، وصولاً إلى دور الأفراد في علاقاتهم الشخصية والاجتماعية. وذلك من أجل تحقيق غايات ثقافية وسياسية وعسكرية واقتصادية، سواء بواسطة القنصليات والسفارات أو عبر الطرق الثقافية والإعلامية المتعددة الأوجه.
ليس جديداً أن تقوم الدول والجيوش بممارسة الحرب النفسية والدعاية ضد أعدائها بهدف إرعابهم وإخضاعهم، وبالتالي التسليم بطلبات تلك الدول والجيوش. وقد تجلى ذلك مع دول الاستعمار، حيث كان التأثير اللغوي والثقافي والاجتماعي في المستعمرات، كما في النموذج الفرنسي مع حالة الجزائر في القرن الماضي.
أمّا الجديد، فهو استبدال الحروب الكلاسيكية بما يُسمى الحروب الصامتة التي تتميز بمدى ونفوذ وتأثير عالٍ جداً من حيث المنهجية والتخطيط والإعداد والتجهيز بغية تفريغ المجتمعات من داخلها وإضعافها وصولاً إلى ضرب وتهديد بيئة أو مجتمع مقاوم لسياساتها وحتى تغيير الأنظمة المعادية لتلك الدول التي باتت تعتمد هذا النمط من الحروب، خصوصاً الدول الغربية
وبما أن الإنسان يمتلك جهازاً سلوكياً قابلاً للشعور بالخطر والانفعال فقط أمام التهديدات المحسوسة والمرصودة بالعين المجردة، ولأن الحرب الناعمة تحتاج إلى البصيرة والمعرفة الإدراكية، تُؤدي الحرب الناعمة عند وقوعها المباغتة والخداع والمفاجأة.
. مصطلح الحرب الناعمة الذي اخترعه جوزيف ناي، أميركي وأستاذ العلوم السياسية وعميد سابق لمدرسة جون كينيدي في جامعة هارفرد. مؤسس مركز الدراسات الليبرالية الجديدة في العلاقات الدولية بالتعاون مع روبرت كوهين.
هذا المصطلح جاء في مرحلة عندما ساءت سمعة الولايات المتحدة الأميركية بعد حرب أفغانستان وحرب العراق، وبلغت التكاليف مبالغ هائلة جداً ولم تتحمّلها الإدارة الأميركية، فتوصّل هذا الرجل مع غيره في المؤسسة الحاكمة إلى تفعيل ما يُسمى بالقوة الناعمة، أخذها من تركيبة الحاسوب، أي هاردوير وسوفتوير، أي القرص صلب والقرص الناعم، لينتج من اندماج هاتين القوتين قوة ثالثة هي القوة الذكية، فقال: لماذا لا يكون لدى الولايات المتحدة الأميركية قوة ذكية مثلها مثل الحاسوب؟ لهذا توصل جوزيف ناي عام 2004 في كتابه «القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية» إلى أن القوة الناعمة تهدف إلى جعل الآخرين يريدون ما تريد دون إرغامهم أو ترهيبهم.
توصف بأنها صامتة، فهي تستهدف السيطرة على عقول الناس ونفوسهم من خلال التلاعب بالمشاعر والمفاهيم وعمليات المعلومات والاتصالات الإستراتيجية، بعيداً عن الترهيب والإكراه، كما كان يحصل من خلال تدمير المدن واحتلالها أو استخدام السلاح الجوي، ومهاجمة القواعد، والمواقع الأمنية، والعسكرية.
لذا، فإن اعتماد الحرب الناعمة في تحقيق الأهداف المبتغاة يكون الغاية منه التقليل من التكاليف المالية والبشرية وتجنب تشويه صورة الدولة التي تشنّ هذه الحرب أمام الرأي العام العالمي.
التحول من القوة الصلبة في ميدان المعركة العسكرية، حيث التكاليف الباهظة بشرياً واقتصادياً وسياسياً، إلى القوة الناعمة في ميدان التفوق التكنولوجي والثقافي والإعلامي والسياسي للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها هو الهدف الأساس من هذه الحرب الجديدة، على الرغم من إيمانه بتفوق بلاده في المعدات والقدرات العسكرية.
من هنا، نجد أن هذا المصطلح الجديد، أي الحرب الناعمة، ومن خلال دمجها مع مصطلح الحرب الصلبة، من شأنه أن يخلق دلالات جديدة يكون هدفها تحقيق غايات الحرب الكلاسيكية من دون الحاجة غلى خوضها. واللافت أننا لا نجد حتى الآن دولة اعترفت بقيامها بهذا النوع من الحروب.
لذلك، تكمن خطورة الحرب الناعمة بالأمور التالية:
.أ- في سرّيتها، فلا يُعلن عنها ببيان وهدفها السيطرة على العقول، وهذه السرية تساهم في الانتصار بالحرب الناعمة.
ب- في أسلحتها، فأسلحة الحرب الناعمة غير مرفوضة، وهي بطابعها تنموية وأخلاقية وثقافية مثل الفضائيات ومواقع شبكات الإنترنت والهواتف وبعض المدارس والجامعات المرتبطة بالغرب ومنظمات المجتمع المدني غير الحكومية.
ج- في ترويجها، فهي تدعو إلى شعارات جذابة حقيقية يُريدها الناس، فيُخدعون وينساقون وراءها ويبدؤون بترديدها، فتنتشر هذه المفاهيم التي تُصاغ في مركز قيادة الحرب الناعمة من خلال الفضائيات والإنترنت حتى تتغلغل في فكر النخب والناشطين وتَلقى مقبولية ومطلوبية، مثل شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
3- تعريف القوة الناعمة
هي ما كانت تُعرف بالحرب النفسية أو القوة التسويقية، إلى أن تطور مفهومها وأصبحت تحت مُسمّى القوة الناعمة. وقد عرّفها مايكل آيزنشتات الباحث المتخصص في الدراسات الأمنية والعسكرية في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى بأنها «استخدام الأقوال والأفعال والصور الانفعالية في أُطر إستراتيجية التواصل طويلة المدى لتشكيل الحالة النفسية لبلدٍ مُعادٍ للولايات المتحدة الأميركية مثل إيران».
وحدّد أن نسبة الأقوال والتصاريح الإعلامية يجب أن تُشكل 20% من حملة التواصل الإستراتيجي الناعمة، على أن تشكل 80% الباقية من الأفعال والتحركات الملموسة على الأرض.
وتكون الحرب الناعمة ناجحة عندما يمتثل المُستهدفون طواعية للطلبات والقيم والسياسات من خلال جاذبيتها من دون أن يلمسوا هذه الجاذبية أو يشاهدوها بالعين المجردة. ويمكن قياس مدى فعاليتها من الانعكاسات والآثار التي تنتجها، وذلك عبر مراكز الأبحاث المُتابعة لها أو من خلال استطلاعات الرأي وغيرها من المؤشرات.
4- أركان وموارد القوة الناعمة
نستنتج مما سبق أن القوة الناعمة أو الحرب الناعمة تتشكل من عدة أركان:
أ- القدرة على استهداف الإنسان بكل تفاصيل حياته من خلال تشكيل تصورات ومفاهيم المُستهدفين وتلوين عاداتهم وتقاليدهم وتوجيه سلوكهم وتغيير ثقافتهم.
ب- القدرة على تشكيل الأداء السياسي للآخرين، سواء المنافسون أو الخصوم، وصولاً إلى الأعداء.
ج- القدرة على تعميم فكرة سرد الوقائع، إذ إن المُنتصر هو مَن تفوز روايته للأحداث.
د- القدرة على فرض إستراتيجيات الاتصال على الطرف الآخر من حيث التوقيت والطريقة
إنّ تنفيذ وظائف الحرب الناعمة ذات الطبيعة المعقدة والحساسة وتطبيقها بنجاح وإحكام يتطلب أدوات وطاقات وجهوداً بشرية كبيرة، وتحليلاً وتخطيطاً سياسياً لتوجيه الأحداث، وأجهزة استخبارات تُوفر المعلومات والمعطيات، إضافة إلى الإمكانات التكنولوجية والإعلامية والاتصالية الهائلة المترافقة مع مهارات وخبرات استثنائية ونفس طويل وبرودة أعصاب وصبر إستراتيجي مع غرفة عمليات تتولى الإعداد والتنسيق.
- الحرب النفسية
تُستعمل الحرب النفسية لانتزاع اعترافات أو تعزيز مواقف وسلوكيات تناسب أغراض مَن يشنّها، وأحياناً ما يُجمع بينها وبين العمليات السوداء أو الرايات المزيفة، وتُستعمل أيضاً في إحباط المجتمعات وتيئيس الأفراد وتثبيط عزائمهم وإضعاف إرادتهم، وصولاً إلى تفريغ أي إنجاز من أهميته.
والحرب النفسية تعمل على خفض مستوى معنويات العدو بصورة علنية ومباشرة وتدمير إرادته وإرعابه وتصدير الشك والخوف إليه، فيما تقوم الحرب الناعمة على زرع الأمل والجذب والاستمالة والإغواء وتقاسم الشعارات والأهداف والقيم المشتركة مع الطرف الآخر المُستهدف من دون أن تترك أي بصمات، ناهيك بالوعود الرنّانة بحياة أفضل وفق أسلوب الحياة الغربية ونيل الحريات الفردية دون حدود ونشر الإباحية الجنسية والتحرر على مستوى الفرد والمجتمع.
– الغزو الثقافي
تشكل الآفات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ساحة خصبة للحرب الناعمة، فيقوم العدو بتنظيم أنشطته وفعالياته عبر تشخيصه بؤر آفات المجتمع المستهدف وتقوم الحرب الناعمة من خلال الغزو الثقافي بزرع الشك في نفوس الأفراد والتشاؤم في الكثير من القضايا. تبدأ هذه الحرب بإشاعة الشك واليأس، وخصوصاً في الاعتقادات والقيم والمصطلحات من خلال الاعتماد على التراث، ولكن بعد تحديثه بشكل دقيق وهادئ، ويكون العامل الزمني هو الكفيل بحصول متغيرات جذرية في تلك التقاليد والقيم والاعتقادات.
لذا يمكن القول إن ما تروج له الثقافة الأميركية تحقيقاً لأهدافها يكمن في:
أ- إقامة مجتمع عالمي مُصغَّر ومفتوح دون ضوابط.
ب- تعميم النموذج الأميركي في الحياة الاستهلاكية للوصول إلى مجتمع استهلاكي غير منتج.
ج- تحقيق الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية، وصولاً إلى قيادة الإدارة الأميركية للعالم.
نعم، هي معركة الوعي أو ما يُسمّى كَي الوعي، فالحرب الناعمة تُؤدي إلى الموت البطيء للهوية والذاكرة بشكل تدريجي، ما ينعكس على سلوك المُستهدف وعلى عواطفه، وبالتالي تهدف إلى تَفَسُّخ المجتمع والتشتت الفكري وتجعل أفراده عبارة عن صفحة بيضاء يكتُب العدو عليها ما يحلو له. ولعلّ أهم استهداف يكون ضرب الأسرة وتفكيكها، فعندما تضرب الأسرة يصبح هدف تفريغ المجتمع أبسط.
5- الوسائل الإعلامية والفضائية
التضليل الإعلامي وسيلة من وسائل الحرب الناعمة، إذ بات اليوم الجانب الإعلامي سلاحاً فعالاً يؤدي دوراً أساسياً في كل الاتجاهات وفي كل المجالات لتزييف الحقائق والدعاية الباطلة والترويج للباطل، فهُم يستخدمون هذا الجانب في هجومهم، ويركزون عليه تركيزاً كبيراً باعتباره الطريقة الرئيسية المعتمدة للتأثير في النفوس.
تستهدف الوسائل الإعلامية الحصول على نتائج متعارضة مع الحقيقة من خلال فيضٍ من الأخبار الكاذبة، فيتم الترويج لها بشكل مدروس ومنهجي، فيصبح المشاهد أسير تلك الأخبار التي تستوطن باطن عقله وتجعله وكيلاً للقوة الناعمة.
من جهة أُخرى، نجد أن البرامج العامة التي يتم عرضها تُقدّم المنوعات والسهرات المبتذلة والطب التجاري والشعوذة والفلك والتنبؤ والمسلسلات والأفلام المُستوردة، وهي تعمل على:
أ- تقديم النموذج الغربي، وخصوصاً الأميركي الليبرالي، في أساليب الحياة العشوائية.
ب- ضرب صورة الدين والتدين والعلماء والمقدسات والبحث عن نقاط ضعفها وتبيانها.
ج- هتك القيم الاجتماعية والدينية وفعل المحرمات تحت مسمى الانفتاح والحرية والحداثة.
نستنتج أن الحرب الناعمة هي حرب صامتة وتدريجية وهادئة ومعقدة ويطغى عليها البعد الثقافي، تستهدف الأفراد والمجتمعات وتسعى إلى تفريغ بيئة المجتمعات من قيمها وعاداتها واستبدالها بالثقافة الغربية والأميركية.
وهدف الحرب الناعمة هو الشيء الموجود في قلوب الناس وفي أذهانهم وفي عقولهم أي إرادتهم وعزيمتهم وصلابتهم وأملهم وأحلامهم وقدرتهم على المواجهة والإنتاج.
باحث في الشأن الاقتصادي /دمشق