12- العلمانية عند مفكري العرب.
برزت عند بعض مفكري العرب دعوات متعددة الى العلمانية، ويأتي في طليعتهم العلامة ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، في مقدمته التي اشتهرت باسمه «مقدمة ابن خلدون»، كما ظهر في القرنين التاسع عشر والعشرين عدد من المفكرين العرب من بلاد الشام، انبروا الى الدفاع عن الدعوة للعلمنة، ومن بينهم جبران خليل جبران، شبلي الشميل، الكواكبي، فرح انطون، والعلامة خليل سعاده، وابنه انطون سعاده وغيرهم.
يقول ابن خلدون: «اعلم أن صاحب الدولة انما يتم أمره بقومه فهم عصابته وظهراؤه على شأنه، وبهم يقارع الخوارج على دولته، ومنهم يقلد أعمال مملكته ووزارة دولته، وجباية أمواله لأنهم أعوانه على الغلب وشركاؤه في الأمر ومساهموه في سائر مهماته»(1)
ويقول ايضا في مكان آخر من مقدمته:
«الدولة والملك صورة الخليقة والعمران.. وعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا، وعلى نسبة يسار الرعايا وكثرتهم يكون مال الدولة وأصله كله العمران وكثرته، فاعتبره وتأمله في الدول تجده والله يحكم ولا معقب لحكمه».
ان ما ذهب اليه ابن خلدون بأن صاحب الدولة انما يتم أمره بقومه، وأن الدولة والملك هما صورة الخليقة والعمران، يفسر لنا بوضوح أمر فصل سياسة الدولة والحكم والعمران عن الله والدين، فالحكم هو شأن يختص، عند ابن خلدون، بالقوم وثقافته العمرانية بمعزل عن الارادة الالهية والشرع الالهي، وهذه بداية الطريق نحو فصل الدين عن سياسة الدولة والارادة الشعبية.
أما الإمام عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902) فقد دافع عن نظريته، في «فصل الدين عن الدولة» في كتابيه الشهيرين «أم القرى» و «طبائع الاستبداد» ومن أقوال الامام الكواكبي:
- «ان الدين شيء والملك شيء آخر، والسلطان غير الدين» (1)
- «الدين ما يدين به الفرد، لا ما يدين به الجميع»(2)
وينبه الكواكبي الى خطورة عدم التمييز بين الدين والدولة على مصير الدين بذاته، فيتساءل:
«إذا لم نميز بين الدين والدولة في عصرنا هذا.. بل طلبنا من الدين مساعدة الدولة، ومن الدولة مساعدة الدين بناء على أن كلا منهما لا يقوم الا بالآخر، فماذا نفعل لو سقطت الدولة؟ أيسقط الدين الذي كنا نقول، انها حامية له، وأنه قائم بقيامها؟ » (3)
ودعا الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» أبناء أمته من مسيحيين ومحمديين الى تدبير حياتهم المدنية بأنفسهم، وترك الأديان تحكم بالأخرى، فيقول، مخاطبا قومه: «دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا، نتفاهم بالفصحاء، ونتساوى في السراء، دعونا ندبر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم الأخرى فقط. دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي: فليحي الوطن، فلنحي طلقاء أعزاء» (4)
ان حياة الوطن، والتفاهم بين أبنائه في الأفراح والأتراح، وتدبر شؤونهم المدنية بأنفسهم، فيما ذهب اليه الكواكبي، هو ما يعني حياة الحرية والعز على هذه الأرض.
أما جبران خليل جبران (1883-1931) فقد كان من المؤمنين بمبدأ فصل الدين عن الدولة(1)، ويقول في مقالته «سورية على فجر المستقبل»:
«ان الوطنية والدين كالخطين المتوازيين، تقع بينهما الفسحة التي تتراوح فيها أفكار الانسان ومنازع نفسه» (2) ويرى جبران في مقالته هذه أن المتطرف في أفكاره الدينية ملحد، ويجد في التعصب الديني أهم عامل في تمزيق جامعتنا القومية.
أما العلامة خليل سعاده (1857-1944)، فقد رأى أن «الرابطة الشرقية»، يجب أن تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية، غير قابلة للحول الوسطية، وهي:
أولا: تحرر المرأة.
ثانيا: فصل الدين عن السياسة فصل تاما.
ثالثا: اقامة الجامعة الوطنية بدلا من الجامعة الدينية.(3)
ويذهب خليل سعاده، في نظريته هذه، الى المطالبة بإصلاح الادارة بعيدا عن المحاصصة الطائفية في توزيع الوظائف، فيقول في مقالة له، تحت عنوان «لبنان والأكثرية المسيحية»:
«يجب أن تكون وظائف الدولة كلها حرة، أي يجب اسنادها الى أصحاب الكفاءات الشخصية والأهليات العقلية، مهما كانت أديانهم، ومهما كانت طوائفهم. ويضيف: لا يجوز حرمان الدولة من أهلية وكفاءة ونبوغ فرد من أفراد الأمة، لأسباب دينية أو طائفية، فلا يجوز أن تحصر رئاسة الوزارة مثلا في دين من الأديان، أو طائفة من الطوائف، ولا أن توزع الوزارات على الأديان والطوائف كما هي الحال الآن.. يجب أن يكون شعارنا: كلنا للوطن والوطن لنا كلنا»(1) وخليل سعاده، هو صاحب نظرية «الدين بالايمان والعلم بالبرهان».
ويدافع فرح أنطون (1861-1922) في كتابه «ابن رشد وفلسفته» عن مبدأ «فصل الدين عن الدولة» بالإشارات الآتية:
- غرض الأديان وغرض الحكومات: الغرضان متناقضان، الأديان تقيد الحرية بقواعد ثابتة وضعها الوحي الالهي، أما الحكومات الراقية فتمنح لرعاياها الحرية.
- الرغبة في المساواة بين البشر: المساواة في الحقوق والواجبات، أي بإسقاط الحواجز الطائفية والمذهبية بين أبناء الجماعة الواحدة في مختلف مجالات الحياة المتنوعة.
- الفرق في الاختصاص بين الدين والحكومة: فالدين، من حيث الجوهر، مختص بقضايا الإيمان والآخرة، أما اختصاص الحكومة، فينحصر في تدبير شؤون الدنيا وسياستها.
- داعي النمو والتقدم: فقد أثبتت التجارب أن فصل الدين عن الدولة كان في أساس التمدن الحديث، في حين أدخل أقران الدين بالدولة الإنسانية في عصور مظلمة وتخلف اجتماعي، وتطويع عقلي.
- استحالة الوحدة الدينية: ان التاريخ يشهد فشل قيام «الدولة الدينية»، أو «الجامعة الدينية»
ويحسم فرح انطون، مناقشته، بالنتيجة الآتية:
«لا مدنية حقيقية، ولا تساهل، ولا عدل بلا مساواة، ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل، الا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية».
واذا كانت الدعوات الى العلمنة، التي أطلقها بعض المفكرين العرب، كما أسلفنا، لم تتجاوز حدود حالات التململ والرفض والتوجيه والارشاد والتنبيه من مخاطر مزج الدين بالسياسة، على شؤون الدين والدولة معا، فإن تلك الدعوات بقيت في إطارها النظري المحدود نسبيا، بمعنى آخر، انها لم تتقدم لإيجاد المؤسسات الرسمية، أو جمعيات المجتمع المدني القادرة على تطبيق النظريات الخاصة بالعلمنة الى أن أطلق انطون سعاده (1904-1949) عقيدته القومية الاجتماعية، التي تضمنت في مبادئها الاصلاحية الخمسة أسس اصلاح المجتمع، ومن بينها المبادئ الثلاثة الأولى الخاصة بموضوع «العلمنة» والتي نصت على:
- فصل الدين عن الدولة.
- منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين.
- ازالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب. (1)
(1) – ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، ص 183
(1) – الكواكبي: أم القرى، ص 227
(2) – الكواكبي: طبائع الاستبداد، ص 207
(3) – جان داية: الامام الكواكبي، فصل الدين عن الدولة، دار سوراقيا للنشر، 1988 ص 64-65
(4) – الكواكبي: طبائع الاستبداد، ص 208
(1) – جان داية: عقيدة جبران، دار سوراقيا للنشر، تموز 1988، ص 9
(2) – جريدة مرآة الغرب: عدد 9 آذار 1916
(3) – خليل سعاده: مجلة الرابطة، العدد 18، تاريخ 20 نيسان 1930.
(1) – خليل سعاده: مجلة الرابطة، العدد 70، تاريخ 2 تشرين الأول 1931.
(1) – انطون سعاده: المحاضرات العشر، ط 3 ، 1956، المحاضرة السابعة، ص 86-100