لا زالت الأفراح عامرة في دياركم!

هل شاهدتم الشريط المصور الذي انتشر كالنار في الهشيم وهو يتابع الرئيس الفرنسي ماكرون خلال جولته سيراً في أحد شوارع بيروت، يتمختر بدلال محاطاً بالحرس وبعشرات المواطنين اللبنانيين الهاتفين بحياته وحياة فرنسا؟ وهل تمتعتم بـ«خفة دم» المواطن الواقف أمام دكانته، يترغل بالفرنسية ويريد أن يقدم للزائر الكبير المعجنات اللبنانية المشهورة؟

سواء وصلكم الشريط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو أسرعتم بعد قراءة هذه الكلمات للبحث عنه، فأنتم أمام مشهد فولكلوري فاقع. وقد ذكّرتني تلك اللقطات بالأعراس البلدية في القرى والأرياف حيث العراضات والهوبرات ترافق العريس في «زحفه» إلى بيت العروس ليحملها بعد ذلك على حصان أبيض لا يشوبه لون آخر!

صحيح أنه من الصعب تأمين الحصان الأبيض في هذه الظروف، لكن كل مستلزمات الأفراح متوافرة. ولم يكن ينقص الوفد الفرنسي الرئاسي سوى صواني حلاوة الجبن من طرابلس الشام والسنيورة من صيدا والعثملية من بيروت. وهكذا يكتمل المشهد الفولكلوري للعرس اللبناني الذي يبدو أنه بدأ مع انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية برعاية ومباركة الأهل والأقارب في واشنطن وباريس ولندن والرياض…إلخ.

يطمئننا ماكرون إلى أن لبنان دخل «مرحلة جديدة». ولعل هذا ما يفسر كثرة الوفود العربية والأجنبية الهابطة على اللبنانيين كل يوم بذريعة تقديم التهاني، بينما الواقع يؤكد أنهم يعملون بالمثل القائل «في كل عرس لهم قرص».

وفخامة الرئيس الجديد، المعني أكثر من غيره باستقبالات المهنئين، يبشّرنا بعبارات واضحة أن المستقبل سيكون لمعالجة الخلل المزمن في تركيبة السلطة اللبنانية وأمراضها المستعصية. لكن تصريحه خلال استقباله ماكرون تضمن أيضاً جملة ملفتة للنظر وخطيرة، ربما تهيّج علينا عش الدبابير في وقت يأمل اللبنانيون في أن تزول عن أرضهم وسمائهم الغيوم السوداء الكالحة.

لا نشكك في وجود رغبة عند الرئيس عون بالعمل للتخفيف من معاناة الشعب اللبناني، ومحاربة رؤوس الفساد وأذنابهم، وإعطاء الأولوية لفكرة المواطنة الضائعة الآن بين معميات التعصب الديني والطائفي والعرقي والمناطقي. لكن هذه الرغبة، أو الرغبات، لن يتاح لها مجال النجاح إذا كان الرئيس مقتنعاً جدياً بعبارة وردت أثناء لقائه ماكرون: «… ولبنان الحقيقي والأصيل قد عاد»!!

«لبنان الحقيقي»؟

«لبنان الأصيل»؟

أين كان هذا الـ «لبنان»، وكيف عاد؟

هذه العبارة الفضفاضة وغير المحددة تسيء إلى كل مواطن في لبنان، وفي مقدمهم فخامة الرئيس جوزاف عون. إذا كان لبنان بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة قد عاد «حقيقياً وأصيلاً»، فهل كان على النقيض قبل ذلك؟ أي «لبنان الباطل» و«لبنان الدخيل»؟ وما هي المواصفات التي قبل والتي بعد، وفي أية مرحلة تاريخية كان الكيان اللبناني حقيقياً وأصيلاً أو كان نقيضهما؟

الأرجح أن الرئيس لم ينتبه إلى ما تتضمنه تلك العبارة من أبعاد قد تكون حمّالة أوجه، أو لعل ضغط الاحتفالات ولقاءات تقبل التهاني وأجواء الأفراح والأعراس والولائم والمعجنات اللبنانية والحلويات التقليدية بلبلت الأفكار وزغللت الأبصار. لذلك نتمنى أن تعود الروية والتمعن والتأني إلى تصريحات الرئيس الجديد، فالوضع الداخلي لا يحتمل أية «دعسة ناقصة». وجلّ ما نخشاه أن يضيع لبنان بين «الحقيقي والأصيل» وبين «الباطل والدخيل»، إذ عندها سيولي المعازيم الأدبار، ويتفرق العشاق بعد أن يكون الدف قد انفخت! 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *