مع توصّل صندوق النقد إلى اتفاق على مستوى الخبراء بشأن السياسات الاقتصادية مع لبنان للاستفادة من “تسهيل الصندوق الممدد” لمدة أربع سنوات وإمكانية إبرام اتفاق رسمي، عاد الحديث حول ضرورة اللجوء الجدّي إلى صندوق النقد الدولي كمخرج أساسي للبنان من أسوأ أزمة اقتصادية ألمت باقتصاده، لندخل في سجال بين موالٍ ومعارض لطروحات وشروط صندوق النقد وما إذا كان هناك من بديل عن الصندوق في رحلة لبنان الإصلاحية.
أولاً، يضع الصندوق شرط تحرير سعر الصرف ضمن أولوياته وإن بات اهتمامه منصبّ أكثر على توحيد أسعار الصرف والتي باتت، بسبب الفوضى السائدة حالياً، أكثر من خمسة أسعار مؤخراً. ولكن إذا تعمّقنا أكثر في الوضع الراهن، نرى بأن لبنان بات قاب قوسين من عملية تحرير لسعر الصرف لاسيما في أعقاب عملية رفع الدعم من قبل المركزي عن معظم السلع المدعومة سابقاً من محروقات وغذاء وأدوية بمعظمها إلى الاتصالات والانترنت وحتى القروض المصرفية بالدولار التي أصبحت تٌحصّل إما بالدولار وإما باللولار، مروراً باستعمال مصطلح “سعر السوق” من قبل مصرف لبنان ووزارة المال في معظم تعاميمهم. وبالتالي فإن سعر الصرف في السوق الموازية بات أكثر فأكثر بمثابة سعر السوق السائد لتسعير معظم السلع والخدمات، وهو ما يعني دخولنا مرحلة دفن سعر الصرف الرسمي أي الـ1507.5 ليرة للدولار في شهر شباط القادم.
ثانياً، يطالب صندوق النقد برفع الدعم عن الاستيراد والسلع والخدمات، لأنّ الدعم يشجّع على التهريب، ويفضّل دعم الناس بالأموال على دعم السلع، مع توسيع نطاق الدعم النقدي للفقراء، ما يتعيّن على السلطات توجيه نصف نقطة مئوية إضافية من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على شبكة أمان اجتماعي. فعلياً، نحن دخلنا مرحلة رفع الدعم الكامل عن معظم السلع في لبنان. بالتوازي، أقرّ مجلس النواب اللبناني بطاقة تمويلية مخصّصة للأسر الأكثر فقراً، ولكن عملية تمويل البطاقة تعثرت نسبياً وهي بإنتظار جواب البنك الدولي حول تمويلها بعد أن نفّذت الدولة اللبنانية كل الشروط المطلوبة منها، في حين بدأت الدولة بدفع مساعدات شهرية من خلال برنامج أمان المخصص ل 150 ألف أسرة من الأكثر فقراً.
ثالثاً، من أولويات صندوق النقد وضع خطة متوسطة الأجل لسدّ العجز المالي للبنان الآخذ في الاتساع والعودة بالدين العام إلى مستويات قابلة للاستدامة. وهو ما أدّى بالصندوق إلى المطالبة بالإسراع بزيادة الإيرادات الضريبية عن طريق إقرار الضريبة على الأرباح العقارية، وزيادة الضريبة على الفوائد، وزيادة الضريبة على أرباح الشركات، وزيادة ضريبة القيمة المضافة، وهو ما تحقّق فعلياً في السنوات القليلة المنصرمة أو حتى ورد في موازنة العام 2022. أضف إلى ذلك، المطالبة بإلغاء دعم الكهرباء مع زيادة الرسوم لسدّ العجز المالي لشركة الكهرباء الوطنية في أسرع وقت ممكن من أجل تحقيق وفورات، وهو ما سيحصل مه بدابة العام 2023، تماماً كما حصل في قطاع الاتصالات، لاسيما في ظل ما يعانيه مصرف لبنان من شحّ في السيولة بالعملات الأجنبية ولجوء الدولة اللبنانية إلى الفيول العراقي كبديل مؤقت ريثما تتّضح معالم خطة إصلاح قطاع الكهرباء.
أما المطلب الرابع والذي يشكّل أبرز تحديات الدولة اللبنانية في المرحلة المقبلة، فهو يكمن في تقليص حجم القطاع العام وإعادة هيكلته. فالحكومات العتيدة ستواجه في المرحلة المقبلة معضلة أساسية متمثلة بفائض الموظفين في الإدارة العام، إذ يُصنّف لبنان ثالث دولة عربية من حيث عدد موظفي القطاع العام، وهو بحاجة إلى تقليص عدد موظفي القطاع العام البالغ عددهم 320 ألف موظف تقريباً، أضف إلى ذلك حوالي 100 مؤسسة عامة اتُفق على إقفالها في الحكومات المتعاقبة ولكن لم يتمّ بتّها حتى الساعة. بتقديرنا فإن هذه الخطوة يصعب إنجازها على يد الطبقة السياسية نظراً لما قد تسبّبه من نقمة شعبية عارمة وإفقار ممنهج في ظلّ الظروف الحالية المأزومة. في الواقع، لعلّ هذه الخطوة تأتي في مرحلة متقدّمة بعد تطوير قطاع خاص منتج قادر على استيعاب جزء منهم، وقد يتطلّب تنفيذها سنوات من العمل حتى نصل إلى قطاع عام يتماشى مع إنتاجية الإدارة اللبنانية، ولكن إلى حينه فإنّ الدولة اللبنانية قادرة على تخفيف نفقاتها من دون المسّ بالموظفين ورواتبهم.
من هنا، فقد بات واضحاً بأن جزءاً كبيراً من مطالب صندوق النقد الدولي أصبح في خانة التحقّق التلقائي نظراً إلى التدهور الحاصل على الصعيد الاقتصادي والمالي والنقدي، ما يدفعنا إلى التساؤل باستغراب حول هذه الاستماتة من قبل السطات لاستدانة حوالي 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي على مدى 4 سنوات، في وقت أهدرت فيه حوالي 20 مليار دولار خلال عامين على تمويل مشبوه لدعمٍ توجّه بمعظمه نحو المحتركين والمهرّبين. ولكن في المقابل، يبرّر بعض “السياسيين الجدد” بأن ما يطمح إليه لبنان من خلال التعاون مع صندوق النقد الدولي هو إضفاء صدقية للمساعي الإصلاحية المطروحة وتعزيز القدرة على استقطاب المساعدات المرجوّة من الخارج من خلال مرجع رقابي صارم لإدارة البرنامج الإصلاحي وهو ما يفتقده لبنان، وأن لا بديل عن صندوق النقد في الوقت الراهن.
في الواقع، إن هذا التبرير غير دقيق. ففي ما يتعلّق بالتمويل اللازم لأي برنامج إصلاحي، ما زال لبنان يملك احتياطي إلزامي لدى مصرف لبنان يقدّر بحوالي 10 مليار دولار، يضاف إليه احتياطي ذهب بقيمة 17 مليار دولار، وهي مبالغ كفيلة لتمويل برنامج إصلاحي إذا صدقت النوايا. من هنا، فإن رهن الذهب يمكن أن يكون بديلاً عن أموال صندوق النقد، إلا أن طرح الموضوع بشكل جدّي يتطلّب وجود رؤية واضحة لمستقبل البلاد واستقرار سياسي وميزانية سليمة للمصرف المركزي والقطاع المصرفي، ما يتطلّت توافقاً على سياسة مالية وآلية صحيحة لمعالجة الأزمة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحديد حجم الخسائر، وإلا كما نفذت السيولة بالعملة الأجنبية سينفذ الذهب. فلينكبّ إذاً هؤلاء “السياسيون الجدد” على إرساء خطة توحي بالثقة بالتوازي مع تطبيق ما يلزم من إصلاحات هيكلية بدل أن يكونوا أبواقاً لصندوق النقد ورؤوس حربة مستميتة على الاستدانة.
ثانياً، إن تنويع الخيارات الاقتصادية شرقاً من شأنه أن يساهم في توفير مروحة واسعة من المساعدات المالية أو حتى السلعية، كخيار استراتيجي لتحقيق التنمية المستدامة. وتكمن الخطوة الأولى في بناء اقتصاد لبناني منتج لا ريعي، في توسيع الفضاء الاقتصادي الإقليميّ للبنان، لتحفيز عملية تصريف الإنتاج الصناعيّ أو الزراعيّ، حيث يمكن مع الوقت بناء أسواق متجانسة ومشتركة مع دول الجوار، ناهيك عن ضرورة دعم القطاعات الانتاجية ذات القيمة المضافة العالية عبر تقديم حوافز ضريبية للمنتجين المحليين ودعم المواد الأولية ووضع الرسوم والقيود على السلع الأجنبية المتوفرة محلياً.
ثالثاً، يعدّ تعزيز النمو الاقتصادي أمراً جوهرياً لتلبية المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي هناك إمكانية جدّية لأن يتعزّز النمو الاقتصادي تدريجياً مع تحقيق سيناريو الهبوط الآمن في غضون خمس سنوات شرط استعادة ثقة القطاع الخاص. غير أن ذلك يتطلّب مناخاً سياسياً داعماً وإطلاق عجلة الإصلاحات الهيكلية المرجوة لتحفيز الطلب على السلع والخدمات، وتعزيز التنافسية للاقتصاد اللبناني إلى جانب تحسين عامل الثقة بشكل عام. ولكن كلّ ذلك ينبغي أن يترافق مع محاربة جدّية للفساد عن طريق سنّ قوانين تغطي مجالات مثل الإثراء غير المشروع والإفصاح عن الأصول المملوكة للمسؤولين، تشكيل لجنة لمحاربة الفساد والتحقيق في قضايا الفساد وإحالتها إلى القضاء، ناهيك عن مكافحة التهرّب الضريبي الذي قدّر في العام 2019 بحوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
رابعاً، إن المفتاح الأساس يكمن في تحفيز الطلب الخاص لاسيما وأن الطلب العام عرضة للانكماش في سياق متطلبات التصحيح المرجو على صعيد المالية العامة. إن التحدي المحوري في سبيل تحفيز النمو الخاص يكمن في تحفيز الاستثمارات الخاصة المرتبط بتحسن بيئة الأعمال من خلال تخفيض التكاليف التشغيلية وتحسين سهولة مزاولة الأعمال في لبنان، مع الإشارة إلى أن الاستثمار له التأثير الأكبر على النمو الاقتصادي الكلي من خلال مفعول مضاعف الاستثمار بشكل عام.
في الختام، وبما أننا لم نعد نملك ترف الوقت، فإن أي تلكّؤ في اتخاذ كافّة الإجراءات اللازمة لكسر حلقة المراوحة، قد يكون استنزافياً ويجرّنا في نهاية المطاف نحو سيناريو تشاؤمي هو أكثر ما نخشاه، نظراً لتداعياته المؤلمة على الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي في البلاد. من هنا، وفي ظلّ هذه التحديات المتنامية والشائكة، باتَ الإجماع الداخلي اليوم أساسيّاً والانخراط الملائم لكافة قوى المجتمع اللبناني ضروريّاً، مع الحاجة إلى تقديم كلّ التنازلات الملحّة وتخفيض منسوب التباينات وتعزيز القواسم المشتركة في ما بيننا، وإطلاق عجلة الإصلاحات الهيكلية الضرورية من أجل وقف النزف المستمر.
د. فادي قانصو