في عام 1945 قام الحلفاء المنتصرون بإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب من عساكر وأعضاء في الحزب النازي باعتبارهم قد ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية وهي ما عرفت باسم محاكمات نورمبرغ، وكانت محاكمة للمهزوم من قبل المنتصر الذي ارتكب جرائم حرب لا تقل هولا في حقيقتها عن الجرائم التي ارتكبها الألمان.
قدم الغرب أقصى ما لديه من نفاق وكذب في تلك المحاكمات وبما يدعم فكره ان حربه مع ألمانيا كانت عادلة وانه يملك قيم وأخلاقيات تتفوق عليها متجاوزا ما ارتكب من جرائم أشهرها وأخطرها إلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناجا زاكي في اليابان والتي لا زالت آثار الإشعاع الذري فيهما فاعله حتى اليوم.
مع انتهاء تلك المحاكمات، تلاشت فكرتها حتى عام 1998 عندما ظهرت الحاجة من جديد لإشهار سيف العدالة والأخلاق والإنسانية الغربية لقمع الشعوب و نهب ثرواتها، و في مواجهة أعداء الغرب والولايات المتحدة، فانشات محكمة الجزاء الدولية بموجب اتفاقية وقعت عليها معظم الدول الغربية باستثناء الولايات المتحدة والصين وروسيا و (اسرائيل) ومعظم الدول العربية وبعض دول العالم، في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة تحاصر العراق بمشاركة حلف الأطلسي وتجوع شعبه وتودي بحياة أطفاله فيما عساكرها يمارسون أحط ما لديهم من سادية وانحطاط في سجن أبو غريب بحق السجناء العراقيين.
كانت محاكمات الافتتاح ضد الرئيس اليوغسلافي ميلوسوفيتش وبعض رجاله وتتابعت لتصدر مذكرات اعتقال بحق عديد من القادة الأفارقة وبحق الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير، ثم وفي غمرة الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
محكمة الجنايات هذه هي محكمة ملزمة للموقعين على إنشائها وهي تحاكم الأفراد ولا تحاكم الدول التي تختص بمحاكمتها محكمة العدل الدولية في لاهاي والتي تعتبر الجهة القضائية الأعلى في نظام هيئة الأمم المتحدة.
جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية هذه التي صدرت بموجبها مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يواف غالانت لا شك مهمة و نقطة متقدمة، وهي على أهميتها، تبقى منقوصة اذا تم النظر حقوقيا وقضائيا في التهم الموجهة اليهما، فالشريك الأساسي والداعم الاول لهم هو الولايات المتحدة ورئيسها ووزراءها ومبعوثيها ومعهم لفيف من قادة العالم الغربي وخاصة ألمانيا هؤلاء شركاء بذات القدر بالجريمة وقد أكد عمران خان المدعي العام في المحكمة انه قد تلقى رسائل تهديد تقول أن هذه المحكمة كانت قد اقيمت لتحاكم المجرمين من أعداء الغرب فقط وليست لمحاكمة الغرب و(إسرائيل) الابنة الشرعية أو غير الشرعية لذلك الغرب.
وإذا كان قانون المحكمة يتعلق بمحاكمة الأفراد لا بمحاكمة الدول إلا أن هؤلاء الأفراد أمثال نتنياهو و غالانت لم يكونوا يديرون عملا خاصا أو شركة تجارية وإنما ارتكبوا جرائمهم هذه بحكم مواقعهم السياسية الأمر الذي يعني أن مذكرات الاعتقال هذه تمثل إدانة للدولة التي يحكمونها والجيش الذي يقودونه، الأمر الذي تدركه كل من تل ابيب وواشنطن،وقد أخذت تل ابيب منذ صدور مذكرات الاعتقال بعقد ورشات العمل مع السفارات،باتجاه وضع سياسة للتعامل مع مذكرات الاعتقال هذه ومفاعيلها السياسية الدولية فيما اخذ الفريق القانوني في الحكومة (الإسرائيلية) برسم خطط ومقترحات ليقدمها للإدارة الأمريكية القادمة حول كيفية معاقبة المحكمة والمدعي العام عمران خان، خاصة مع إدراكهم لأبعاد الحدث الذي سيؤثر على بيئة الاستثمار الخارجي والسياحة والتعاون الأكاديمي والعلمي مع مؤسسات جامعية عالمية وبما يؤدي الى جعل دولة الاحتلال دولة منبوذة ومعزولة، هذا وان كان وزن القرار قد لا يتجاوز قشة أو ريشة صغيرة الا انه بحكم التراكم وفي المدى البعيد سيكون له أثره الايجابي على نضالنا والسلبي على الاحتلال.
يخطر على البال في هذا السياق الشهيد يحيى السنوار وبما يؤكد انه كان قائدا استثنائيا برؤيته البعيدة ونظرته الإستراتيجية فقد كان قد أكد في مطلع الحرب على أن النتيجة محسوبة لا ريب بأحد أمرين:
الأول هو الانتصار الكامل وكنس الاحتلال من مناطق عدة من فلسطين وذلك بالقوة وتحت ضغط السلاح والنار لا بموجب مفاوضات مهينة ملتبسة كما فعلت مفاوضات اوسلو عام 1993 ما بين القيادة التقليدية المتنفذة للشعب الفلسطيني المتمثلة بياسر عرفات ومنظمة التحرير والتي لا تزال تقوم بدورها الذي املته عليه تلك المفاوضات.
والثاني ان النتيجة ستكون بهزيمة (إسرائيل) السياسية وتراجع مشروعها بشكل متسارع بعد هزيمتها وعزلها وجعلها دولة منبوذة في المجتمع الدولي لا كما تصور نفسها على إنها واحة الحرية والديمقراطية في محيط من الاستبداد الشرقي.
غادرنا الشهيد أبا إبراهيم مشتبكا في معركة ضارية، قاتل بها من مسافة صفر، مؤكدا التزامه بشعار: انه لجهاد… نصر أو استشهاد، ففاز بالنصر والشهادة، ودفع ضريبة الدم ومقدما أزكى الشهادات ولم يتيح له الزمن بان يبقى على قيد الحياة ليعيش أيامه عزلة (إسرائيل) ونبذها وبما يؤكد صوابية تقديراته وحساباته، لعله يشاهد ذلك من السماوات والعلى.
من طرائف السياسة السوداء (ميلو دراما) أن الدول العربية الموقعة على بروتوكول محكمة الجنايات الدولية هذه والمكلفة باعتقال نتنياهو وغالانت هم ثلاث دول فقط الأردن والسلطة الفلسطينية وجزر القمر.