العالم ما زال يعيش انقساماته وصراعاته الحادّة، وقد بات التّغيّر في النّظام العالميّ نحو الثّنائيّة القطبيّة أمراً مفروغاً منه، وإن لم تتشكّل معالمه النّهائيّة بعد، مع أنّ المواضع السّاخنة في الصّراع النّاتج عن هذا الانقسام قد بدأت تتعدّد وتتجاوز الحدود الأوكرانيّة ولن تكون آخرها التّحركات في بحر الصّين أو ما بين البحر المتوسّط والخليج، وهي مرشّحة للتّكاثر مع كل تطوّر في مجال الطّاقة والأمن الغذائيّ بين الأمم المختلفة.
يستتبع ذلك من جهة الولايات المتّحدة، ابتكار الأساليب الجديدة، والقديمة-الجديدة، للتّغلغل بين تلك الأمم بغية إيجاد مواقع ثابتة وقواعد فاعلة تفكك أمن المجتمعات، وترهن مواردها، في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أزمتها الاقتصاديّة والبنيويّة في آن؛ مع ما يعني ذلك من توحّشٍ في التّعاطي مع شعوب العالم، سواء كانت “حليفةً” لها أو موضوعة في خانة الشيطنة المخطّط لها.
بالموازاة، يبقى الوضع المعقّد الذي يحيط بالإقليم على حاله ضمن إطار التّجاذبات الباردة حيناً والسّاخنة حيناً، في صراعاتها على النّفوذ والمنافذ والموارد… وهذا ما يكون دوماً على حساب أمّتنا واقتصادها وتماسكها، لكونها هدفاً طبيعيّاً ودائماً للأمم الأخرى، سواء من الخارج عبر احتلالات متنوّعة قديمة ومتجدّدة موسّعة، و عبر أيادٍ سرطانيّةٍ ضاربةٍ في العمالة والفساد والتّدمير لبنى الدّول والمجتمع، والتّقويض لأيّ إمكانيّة تقدّم.
إلى جانب ذلك، يبقى حضور التّأثير الفاعل للعامل اليهوديّ الجاثم فوق أرضنا، سواء في جنوبنا، أو في بقعٍ مختلفةٍ من الوطن، وذلك لتمنع أي نوعٍ من بذار الأمل من التّفتّح، حتّى لا تقوم، حسب سعيهم، قائمة لنا.
في ظلّ هذا كلّه، تتواصل الأزمات المتلاحقة على بلادنا بكياناتها كافّة، خصوصاً أنّ تطوّراتٍ حصلت خلال هذا الأسبوع ألقت الضّوء على الوضعين الاقتصاديّ والسّياسيّ في الأمّة، وعلى حجم المشاريع التي تخطّط يوميّاً ضدّنا.
من هذه التّطوّرات ما يشهده الكيان الأردنيّ من احتجاجاتٍ تزداد ضراوةً على خلفيّة الحال الاقتصاديّة التي عانى ويعاني منها شعبنا هناك، والتي تتفاقم يوماً بعد يوم، نظراً لتغلغل عامل الفساد في الطّبقة السياسيّة واستشرائه في مرافق الدّولة بقطاعيها العامّ والخاصّ من جهة، وتعاظم الهيمنة السّياسيّة والاقتصاديّة للكيان الغاصب عبر إطلاق يده بفعل إتفاقيّة وادي عربة وأخواتها من جهةٍ أخرى، وسط اقتصادٍ ضعيفٍ ومبتور بلغ أدنى دركاته بفعل الحرب على الشّام وازدياد الحصار عليها، خصوصاً أنّ بنية الدّولة في الأساس تبقى مرتهنةً للخارج؛ وهذا ما يجعل من الاحتجاجات أمراً طبيعياً ومبرّراً من شعبٍ وصل حدّ الاختناق في يوميّاته، وحتّى في حقوقه البديهيّة، ولا يمكننا في هذا المجال إلا أن نقف في صفّه للخروج من عنق الزّجاجة.
إضافةً إلى ذلك، نرى في الكيان اللّبنانيّ أنّ حادثتين جرتا هذا الأسبوع كانت لهما دلالات خطيرة على السّاحة السّياسيّة؛ أولاهما حادثة العاقبيّة التي أدّت إلى مقتل الجنديّ الإيرلنديّ، وهي حادثة تثير مجموعة من علامات الاستفهام التي ينبغي الرّدّ عليها، لعلّ أبرزها ضرورة التّأكيد على وحدة الشّعب وتلاحمه في وجه أيّ تدخّلٍ خارجيّ، وعلى أنّ حدثٍ لن يكون ذريعةً لتمرير مشاريع مشبوهة وإعادة إحياء مخططات وأحلاماً تعود إلى ما قبل العام 2006، استغلالاً لفراغٍ رئاسيّ لا يمكن توقّع نهايته في المدى المنظور، ولشبه فراغٍ حكوميّ مُدارٍ على نحوٍ مخطّطٍ له، على ما يبدو؛ كما أنّ الأيدي الخفيّة التي تخدم تلك المخطّطات لن تتمكّن من تحقيق أهدافها وعين القوى المقاوِمة متيقّظة.
أمّا الحدث الآخر، فهو ذلك الذي جعل من حدثٍ رياضيٍّ ذريعةً لبعض القوى الطّائفيّة المشبوهة من أجل استعراض عضلاتها وإبراز “صلاحيّة” مشروعها في ما يُسمّى بـ”الأمن الذّاتي”، وهذا الإمعان في الضّرب على الوتر “الفيدراليّ”، حتّى في أتفه الأمور؛ وهنا لا بدّ من التأّكيد على الوقوف في وجه أيّ سعيٍ إلى التّفريق بين أبناء المجتمع الواحد.
يا أبناء الحياة…
تبقون البوصلة التي تحدّد وجهة الحقّ والحقيقة، وتبقى عقيدتكم الأساس الذي يتوقّف عليه خلاص الأمّة، ويبقى نضالكم الدّرب الوحيد الذي يتوقّف عليه العبور إلى الإنتصار الأخير…
لذا الأمّة لا تحيا إلّا بكم… والحياة، الحياة، لا تكون إلّا لكم…
عميد الإذاعة والإعلام لؤي زيتوني