إلى أبي إنتصاري حين يظن الناس أني هُزمت …

إنقشع الحِزام ،
و تجاوزت عيني أغيارها إلى سؤددٍ لا يُضام …

كنتُ فتاً ، و كنتَ رجلاً أشيباً شُبتَ على شئ ..
فأشببتني عليه ، فهل تريدني أن أشيب عليه؟

أصبحتُ قلبًا يا أبي ، قلبٌ لهُ باعٌ ،
لهُ قلمٌ يخاطب الناس بضعف لغته و حنكتك ،
و حلكة غيابك من علّمتني !

ربما احتجتك هنا ، لما رحلت؟
حين طال الغياب ، خبّأتُ النشيج في صدري و وجداني،
إلا زُفُراتٍ ليس لي على كبتها حساب ،

و تلطختُ في الوحل ، و توغلت في أحراش الخطيئة ،
و رافقني الريب ، و أحرقني غيابك الطويل ،

و لم يمنعني إنقشاع الحزام من التأمّل في حال المحبّين ،
فما وجدتهم على حالٍ واحدة !
فكما أنّ الله واحد و هذا خلقه !
و كما أنّ الماء واحد و ثماره المجتناة مشتبهة و متشابهة !
و كما أن العِنَب منه الشراب و منه الخمر !
كذلك القلب ، بقرعةٍ يحسّه المُقبلُ ذاته في كل قلب …

كنتُ في صباي قد أدمنت حبّ الذات ،
و تخلّيت عن حب الجماعة ،
ثم أخذني غرور الشباب إلى مقاربة الأحوال ،
لكنّ العمر مفصح و الأيام مبينة ، و قد حيّرتني يا أبي …

أين خطفة العين من خطفة القلب …
من بارق العين سرقك هذا اللعين ،
و لو أبحرتَ ، أبحرتُ في الطيوف ما وصلتكَ ،
و ركضتُ حينها جلّ عمري و ما وصلتكَ ،
أأركض أتبع قلبي أو يتبعني ؟
أتركض أنت و لا تلقاني ؟
أأمشي إليك و لا تهرول إليّ ؟
ألا تقرّبت مِنّي ذراعاً ؟ ألا مشيت حدوي باعاً ؟
أنا لا أرد صاعينِ غيابكَ صاعاً ، أنا أردُّ ورداً و لوزاً و رمّاناً و حبّاً ، أنا انتظرتك ربعُ ساعاً و نصف ساعاً و ساعاً و ألفُ ساعاً و عمراً …
لن أبعدك عن مخيّلتي فقط لأنك أوخزتني في غيابكَ فقتلتني ،
و باعدتني عنك فأقصيتني .
يا أبي أنا قلبٌ غضٌّ أعزل ،
دون ذكر المنايا و تَغرِيبها و غُرْبَتِها و غَرائِبها و رَغَائِبها و رَغْبِها ، و رَغْبتُها فيني و رَغبَتي بعودتك دون عُقَد . فأنت أعلم كيف يُصاب “عُمَر” و كيف يُصوَّب …

عهدتني طفلٌ يلعب ،
عهدتكَ أبٌ يتعَب ،
و عاهدتك أن أُراقبكَ و حين أعلم بمراقبتك لي لا أتعب ،
ما الذي حبّبني باللعب سِوى أن لا جزاء ؟
ما الذي أغراني تحديدًا بلعبة الاختباء ؟
سوى أنّها ستنتهي اللعبة حتماً بإيجاد أخوتي .

كان خوفي حكيم من مكر الحليم حين يغضب ،
أبتليهِ بذنبٍ أظنُّ ألّا أُجزى عليه فاُخطئ ،

و لعزمه مدى و لأخطائي تقية و للذنوب تطهير ،
و أبي مأسور ، مكبّل الوثاق ، في عالمٍ لا أعرفه ،
أُراقبه على طول المدى ، كيف أنه حَمَّلني أطواق الحسابات و علّمني أن الصمت هو الجزاء الأمثل …

ألم يغضب ؟
لم يغضب حتى أترجم له الخيبة إلى معنى ،
لكنه أختار دائمًا أن يريني كيف تتبخر أمامه دون اسم و دون رمز ، و بهيئة معتمة تختفي في الحلم و يبعثر خوفي و قديم صبري و تجلدي ،
لكني أغضب من محاولة إغضابه ولا يغضب …

كنتُ لا أستطيع إشاعة شيء للناس بنفس القدر الذي لا أستطيع به إخفاء شيء عنه ،
خوفي الغريزي ، التلقائي ، الأول ، الأقدم ، المقنّع ، الواضح ، المعجم الفاضح ، والذي يعرفه بطبيعته قبل أن أُصيغه ، يرى و يبكي ، و يُبكيني حين يبكي ، و يبكي أمي ، و يُسمعني جواباً ، كيف أجاوب بسهولة الوصول أو بالإستجوابات الفجّة لأناس يملّون و حين يملّون يَظلِمون ،

و علّمني كيف أرى من يكرهني ،
بنفس القدر الذي أعرف به أنه ما من فعل سأفعله إلا و ستزيد به كراهيته نحوي ،

فأضحك على غشاوة العين سوى عن رغبة الفكرة ،

فإن كانت مسافةً للظلم حديث! لَمَا تكلمت ،
و إن كانت نظرة لعَشِيت ،
و إن كانت لقاء لتواريت ،
و إن كانت صمتًا صرخت ،
هكذا علّمني و هكذا رأيته أو هكذا رأيت …

في غيابه وجدت أنّ الأيام هي حياةٌ مقطّعة ، كيف أستطيع مضغها؟ و لم يَسُغها لي إلا كاملة ،
حتى ما يسمونه الناس “لحظات” لا أعترف بها ،
لم أحتفئ يوماً بمعنى أن تكون الحياة مجرد لحظات ،
كنت و ما زلت محترماً كل المآسي و الجروح و الساعات لكني لا أسميها بأساميها ،

أأعتبر كل هذا حياة ، حياة واحدة لا تتثنى لي و لا تنثني لي ،
ففي كل مرة حاولت تسهيلها و تسييرها و تبسيطها ،
أقع في مأزق القداسة و العظمة و الشعور و أنكفئ راجلًا و متمسكاً بثوب أبي خشية الكفر …

في كَنَفِهِ ، الليلة كانت كل الليالي الساهرة ،
و القمر كان كل الأقمار الباهرة ،
و العمر كلّه أنا ،
و الشباب لم يكن شبابًا !
لأن الطفولة لم تكن طفولة ،
أنا أكتب لك قلبي كاملًا و جسورًا ،
كما أرتاح ، و سأظل أكتب حتى و إن لم تعود و تقرأ كل ما كتبت ،
و لقد كتبت كثيرًا من الكلام الذي لا معنى له سوى الصراخ و الاعتراض و التلكؤ عن المضيّ بعيدًا عن وحدة الحياة .

خشيتي كانت دومًا من موتك أو خبر موتك ،
لا أستطيع إسعاف قلبي الميت حينها ،
كل الأمراض و الأدواء أعتبر أنها محاولة لإنعاش قلب ما فقد شعوره ،
ولهذا ربما أجد نفسي مريضاً فيك ،
بقلب يفقد بوصلته كل مرة ،
أعرف أنني أشعُر ،
أعرف أنني أكبُر ،
أعرف أنني كنت أستكبر ،
هذا الجسد يكبر ، هذا العقل يَذهُل ،
لكن روحي لا تشيخ و لم تكن يوماً فتيّة ،
بل هي قديمة ، و قريبة ، و سقيمة ، و تثمل …

إني أفنّد كلّ ما أسمع عنك حتى تعود لهيئتك أو تتماسك حفاظًا على هويتي ، والناس أجناس ،
يتصابون مرة و يتعامون مرة و يؤذون مرات ،
إني أعرف كيف تمرّ الحياة على أحدهم حتى تهوّله ، فيقسمها بالسنوات و الأشهر و الأيام ، و الأقمار تبكي ،

في زمن مضى كنت أكتب دون تنقيح ، أو كنتُ أكتبُ بالعامية ،
و الآن أحاول أن أصف شيئًا واحداً دون تحسين فأفشل ،
أكره الندم و لكن لا يخيفني ، و أحب خيبات الأمل لكنها ترعبني ،
أخاف من أن يخيب أملي ، و بتّ أتحرّز مثل كل حريص كنت أعاتبه يوماً ،
لم أكن حريصًاً في حياتي ،
و تماديت في التهور مرات و مرات …

أكون،
بل أنا رحّالٌ ، مسافرٌ ، غريبٌ و متغرّب ، فريد من نوعه و عاصٍ بطريقة وحشية ، أتراني كيف أكتبك و أتجنبك ،
عجيب كيف تتعرى الفاكهة من قشرتها فيطيب مذاقها .
من يخرج عن صوت أبيه يعرى ،
ربما لم أخرج لكن و إن خرجت فلن أعرى ،
الأسرار التي أخبؤها و تغيب عنك تتقهقه الأن في قاعي ،
لكنك ستأتي و حين تأتي سوف تجدني ،
ما زلت قابضاً على حياتي كالقابض على جمرة كاملة دون تقسيم ،
و مستعداً لأقول أو لأصمت ،
لكني لا أنسى و لا أنام ، ولا يتيه قلبي .

يا أبتي لك السلام …