الصهيونية المسيحية هي لاهوت سياسي تعود جذوره إلى القرن التاسع عشر. وقد اتخذت شكلها الكامل بعد ولادة الكيان الإسرائيلي عام 1948. إنها لاهوت سياسي لأن إسرائيل الحديثة، من وجهة النظر هذه، ليست مثل البلدان الأخرى: إنها التنفيذ الفعلي لخطة الله التي تنبأ عنها الكتاب المقدس، وبالتالي فإن المصير السياسي لإسرائيل له عواقب لاهوتية وروحية عميقة.
الكنيسة في أميركا وبعض الدول الأوروبية غارقة اليوم في هذا النوع من التفكير، بل إنها تنشر من خلال الكتب والمواعظ الأسبوعية صورة درامية لكيفية اقتراب العالم من نهايته، وكيف أن الله لديه خطة تتمحور حول إسرائيل، ولا يمكن إيقاف وعود الله رغم ما تعتقده الأمم. يشعر بعض المسيحيين اليوم بأنهم ملزمون بالتطبيق الحرفي لكلمات الله في تكوين 12: 3 على إسرائيل الحديثة: “أبارك مباركيك ولاعنك ألعنه” – على الرغم من أن الله كان يتحدث إلى إبراهيم بهذا الكلام منذ 4000 عام. ويعني هذا التفسير أن على المسيحيين الالتزام روحيًّا بالصلاة من أجل إسرائيل وتقديم الالتماسات إلى حكوماتهم لحمايتها، وأن الفشل في دعم بقاء إسرائيل سوف يؤدي إلى الحكم الإلهي.
التطور التاريخي للصهيونية المسيحية
يمكن فهم تطور الحركة المسيحية الصهيونية على أفضل وجه باعتباره دراما تتكشف في ثلاثة فصول:
يبدأ الفصل الأول في بريطانيا العظمى باقتران علم الأمور الأخيرة ما قبل الألفية (premillennial eschatology) بالإمبريالية البريطانية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. من أهمية في هذا الصدد هو القس الأيرلندي جون نيلسون داربي (1800-1882) الذي طوَّر شكلًا فريدًا من نوعه لتعاليم ما قبل الألفية أصبح يُعرف باسم “التدبيرية”. لقد كان داربي “الشخصية الأكثر تأثيرًا في تطور… الصهيونية المسيحية. وهذا ليس بسبب ما علَّمه فحسب، ولكن بسبب الغيرة التبشيرية التي نشرها بها، فعلى مدى ستين عامًا من الخدمة، كان ينقل رسالته التدبيرية إلى الجماهير في بريطانيا العظمى وأوروبا القارية إضافةً إلى أميركا، ويفعل ذلك بطريقة مقنعة حتى إنه كان يحوِّل العديد من القادة الإنجيليين الرئيسيين إلى تطوره الفريد في تفسير الكتاب المقدس.”
ينتقل الفصل الثاني إلى أميركا مع انتشار التعليم التدبيري (dispensationalist) على نطاق واسع واستيعابه في المقام الأول من خلال المؤتمرات في شأن النبوة، والتوزيع الواسع النطاق للكتاب المقدس المرجعي السكوفيلدي، الذي سيصبح المفضَّل عند أجيال من المسيحيين الأميركيين المحافظين. وبهذا الفعل تصبح الصهيونية المسيحية ليست حركة سياسية بقدر ما هي نقطة مرجعية روحية.
يلتقط الفصل الثالث التوجه السياسي السابق للصهيونية المسيحية، وينتقل إلى أميركا كقاعدة أساسية لعملياتها. ويتزامن ذلك مع إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 وتوسيع حدودها بعد حرب 1967، وهما نقطتا الاتصال التاريخيتان للحركة الصهيونية المسيحية.
من المهم أن نلاحظ عندما ننظر إلى هذه “الفصول” الثلاثة أن الجهات الفاعلة ليست بالضرورة متفقة اتفاقًا كاملًا على جميع النقاط. لقد قدّمت العقيدة الألفية التدبيرية الأساس اللاهوتي التأسيسي، ولكن ليس كل من يسمون أنفسهم صهاينة مسيحيين يقبلون أو حتى يعرفوا المذاهب التدبيرية الكلاسيكية.
اليوم، يمكن تلخيص المعتقدات الأساسية للصهيونية المسيحية على النحو التالي:
- العهد: عهد الله مع إسرائيل أبدي وغير مشروط. لذلك لن يُتراجَع عن الوعود بالأرض التي أعطيت لإبراهيم. وهذا يعني أن الكنيسة لم تحلّ محلّ إسرائيل وأن امتيازات إسرائيل لم تُلغَ أبدًا على الرغم من عدم إخلاص اليهود للعهد.
- الكنيسة: كانت خطة الله دائمًا هي استرداد إسرائيل. ومع ذلك، عندما فشلت إسرائيل في اتّباع يسوع، ولدت الكنيسة كفكرة لاحقة. وهكذا، عند المجيء الثاني، ستتم إزالة الكنيسة وستصبح إسرائيل مرة أخرى وكيل الله الرئيسي في العالم.
- مباركة إسرائيل الحديثة: يجب أن نأخذ تكوين 12: 3 حرفيًّا ونطبقه على إسرائيل الحديثة: “أبارك مباركيك ولاعنك ألعنه”. ولذلك فإن على المسيحيين التزامًا روحيًّا بمباركة إسرائيل و”الصلاة من أجل السلام في القدس”. إن الفشل في مباركة إسرائيل، الذي يُعرَّف بالفشل في دعم بقاء إسرائيل السياسي اليوم، سوف يؤدي إلى الحكم الإلهي.
- إسرائيل الحديثة وعلم الأمور الأخيرة: دولة إسرائيل الحديثة هي حافز للعد التنازلي النبوي. إذا كانت هذه هي الأيام الأخيرة، فيجب أن نتوقع تفككًا للحضارة، وصعود الشر، وفقدان السلام والتوازن الدوليين، والمسيح الدجال القادم، واختبار الولاء لإسرائيل. وفوق كل شيء، فإن التحالفات السياسية اليوم ستحدد موقفنا في يوم هرمجدون المشؤوم.
هذا يلخص نظام الاعتقاد الحالي لأولئك الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم “صهاينة مسيحيون”.
تحليل ونقد توراتي
إن نقدنا للموقف المسيحي الصهيوني هو أولًا وقبل أي أمر نقد توراتي.
ما نتساءل عنه بشكل خاص هو ما إذا كان ما نعرفه عن مقاصد الله، كما كُشف عنها في ابن الله، يسوع المسيح، ومن خلاله، يؤكد التعاليم المسيحية الصهيونية. ما يقوله الصهاينة المسيحيون هو أن رؤية هرتزل لدولة يهودية في فلسطين – على الرغم من أنها تحققت بشكل مأساوي من خلال سلسلة من الحروب التي أدت إلى تهجير مئات الآلاف من المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين – هذه الدولة، التي تم إنشاؤها بهذه الطريقة، كانت ولا تزال ضمن مقاصد الله. فهل يؤكد يسوع هذا الأمر أو حتى يتصوره على الإطلاق؟ ماذا عن بولس أو كتبة العهد الجديد الآخرين الذين يُعتبر تعليمهم الموحى به امتدادًا لإعلان قصد الله في المسيح؟
تياران للخلاص
يطرح المسيحيون الصهاينة، متَّبعين قيادة التدبيرية، تيارين للخلاص في تدبير الله: 1) ما قصده الله للشعب اليهودي ومن خلاله ومن أجله، وهذا يجد تعبيره الكامل في استعادتهم للأرض التي أعطاهم الله إياها – أي “الميراث الأبدي” و2) ما قصده الله في ابنه يسوع المسيح ومن خلاله. لقد كان التيار الثاني دائمًا هو الموضوع السائد في التعليم والوعظ المسيحيين، والفكرة المركزية للشهادة المسيحية الفريدة. ولكن في الأدب والتعاليم المسيحية الصهيونية فإن الغالب هو التيار الأول
الشاهد للمسيح
لقد خدم يسوع في وقت يشبه إلى حد كبير عصرنا، حيث كان ما يفرِّق الناس أكثر وضوحًا مما يجمعهم. كان هناك في ذلك الوقت انقسامات داخل المجتمع اليهودي بين الفريسيين والصدوقيين، وبين الغيورين والذين عاشوا حياة رهبانية في الصحراء. وكانت هناك انقسامات أقوى بين اليهود وأي شخص آخر: لم يكن لهم أي علاقة بالسامريين؛ كان الأمميون “نجسين”؛ وكان أكثر الناس يكرهون الرومان.
ما فعله يسوع، في هذا الجو المثير للانقسام، هو جمع الناس معًا. لقد اختار تلاميذه عمدًا من داخل المجتمع اليهودي ولولا ذلك لما كانت لهم علاقة بعضهم ببعض. لقد دافع عن “المنبوذين” وبطرق أخرى تحدّى التفرد الذي رفع الحواجز الدينية والاجتماعية بين اليهود والأمميين، واليهود والسامريين، واليهود والرومان. لم نسمعه في أي مكان يتحدث عن غرض واحد من الله لليهود وآخر لما سيصبح إلى حد كبير كنيسة أممية. لقد شمل الجميع في خدمة واحدة للنعمة والمصالحة.
لقد كتب الرسول بولس، وهو يتكلم كيهودي أظهر ذات مرة نزعة حصرية شرسة، ولكنه وجد الآن السلام مع الله وجيرانه من خلال المسيح، عن هذا الهدف المركزي للمسيح: “لأَنه هو سلامُنا، الذي جَعلَ الاثنين واحدًا، ونَقَضَ حائط السِّياج المتوسطَ… لأنَّ به لنا كلينا قُدومًا في روح واحد إلى الآب”. (أفسس 2: 14 و18(
لقد حدّد يسوع خدمته وهدفه من حيث المصالحة. وفيه نتعلم أن هدف الله الأسمى هو أن نجمع معًا ما نفرقه في انقسامنا الخاطئ. في ضوء ذلك، لا يمكن تصور أن تكون الدولة القومية الحصرية دينيًّا، وقد أصبحت تتميز ببناء “جدار فاصل عدائي”، في قلب خطة الله الخلاصية.
إن ما هو محل تساؤل هو المكانة التي أعطاها لإسرائيل أولئك الذين يرغبون في وضعها في مركز مقاصد الله الخلاصية. ولهذا ليس هناك مبرر توراتي، وبالتأكيد ليس في ضوء الإعلان الذي تلقيناه في الرب يسوع المسيح ومن خلاله. في المسيح، يُنظر إلى المصالحة، وجمعِ الأعداء معًا كأصدقاء، على أنها اهتمام الله الأهم:
لأنه فيه سُرَّ أن يحِلَّ كل المِلْءِ، وأن يصالِح به الكل لنفسه، عاملًا الصلح بدم صليبه، بواسطته، سواءٌ كَان: ما على الأَرض، أم ما في السماوات. (كولوسي 1: 19-20(
وماذا عن الوعود؟
إذًا، ماذا يعني هذا فيما يتعلق بنبوءات العهد القديم عن الاستعادة التي يستشهد بها المسيحيون الصهاينة لإثبات قضيتهم؟ إذا أخذنا هذه النبوءات على محمل الجد، فليس هناك شك في أنها تتحدث عن الاسترداد الجسدي لشعب الله إلى الأرض التي أعطاهم إياها الله كعطية. من الصعب قراءة فقرة مثل إرميا 16: 14-15، حيث يقول الله: “لأني سأعيدهم إلى أرضهم التي أعطيتها لآبائهم”، من دون النظر على الأقل في إمكانية أن يكون الصهاينة المسيحيون على حق في اعتقادهم هذا. وهذه مجرد واحدة من المقاطع العديدة التي تؤكد هذا الوعد. فكيف نفسر هذه المقاطع؟
مرة أخرى ننتقل إلى يسوع باعتباره العدسة التي من خلالها نقرأ كل وعود الكتاب المقدس. ما نلاحظه هو صمته. فباعتباره “يهوديًّا” نشأ في فلسطين تحت الاحتلال الأجنبي، كان يسوع يدرك جيدًا الطبيعة التكوينية القوية لهذه الآيات للهوية اليهودية. كان من الممكن أن تكون جزءًا من هويته الخاصة. إن نسل إبراهيم وإسحاق ويعقوب كانوا وما زالوا، كما يشير بولس في رومية 9: 8، شعبَ الوعد، أي قريبين من قلب الله مثل أولئك الذين اختار من خلالهم أن يعلن إرادته للعالم: ومن ذلك التبني “جعلهم الله أبناءه ولهم المجد والعهود والشريعة والعبادة والوعود” (رومية 9: 4). من المؤكد أن أحد الوعود التي يشير إليها بولس هو الوعد بالاسترداد.
لقد عرف يسوع كل هذا. ومع ذلك، كما ذكرنا سابقًا، لم يعد في أي وقت من خدمته إلى هذه الوعود باعتبارها مؤثِّرة في تحقيق مقاصد الله. بصفته المسيح، من المتوقَّع أن يفعل ذلك. لكنه لم يفعل. ما تحدَّث عنه بدلًا من ذلك هو ملكوت الله، الذي كان حاضرًا فيه كتجسيد لمطالبه – “ملكوت الله داخلكم” (لوقا 17: 20-21) – وهو الأمر الذي حث تلاميذه على تكريس حياتهم له، بالصلاة والعمل من أجل نشر حكم الله الكريم في جميع أنحاء العالم.
إن التحقيق الحرفي لوعود الاسترداد لم يكن واردًا في خدمة يسوع لأنه أدرك أن تحقيقها يتطلب مساحة أكبر تحوِّل الأرض كلها إلى ساحة لنعمة الله. وما كان في السابق مقتصرًا على شعب معيَّن في مكان محدَّد أصبح الآن متاحًا للجميع. يأتي ملكوت الله حيثما تتم مشيئة الله على الأرض كما في السماء.
ثانيًا، يجب علينا أن نرفض فكرة أن دولة إسرائيل الحالية هي تحقيق لوعود الاستعادة لأن إسرائيل، كدولة، مثل أي دولة أخرى، تعتمد على الإكراه والتسوية لتحقيق أهدافها. ومهما يكن الخير الذي يمكن أن تحققه، فلا يمكن أن يعلو إلى مستوى الوعد التوراتي – لا في هذه الدولة القومية ولا في أي دولة أخرى.
ثالثًا، تأخذ الصهيونية المسيحية وعود الله المتعلقة بالأرض في تكوين 12 و15 و17 وتطبِّقها على دولة إسرائيل حرفيًّا. فهي ترى أن هذا الوعد بوراثة الأرض هو وعد دائم وغير مشروط. لذلك، وعلى الرغم من نية إسرائيل المعلنة في التحول إلى دولة علمانية (ورغم المشاركة الدينية المنخفضة للإسرائيليين)، فإن إسرائيل الحديثة لا تزال تستفيد من وعد عمره أربعة آلاف عام. أي إن العهد الإبراهيمي لا يزال ساري المفعول بغض النظر عما إذا كان الإسرائيليون يؤمنون بالله أم لا. ومن وجهة النظر المسيحية الصهيونية – وهذا أمر أساسي – فإن عهد المسيح لا يلغي العهود اليهودية أو يحل محلها.
هذا التفسير يتناقض مع التعليم السائد الذي يقول ان عهد المسيح لم يؤثِّر على عهد موسى فحسب، إذ صنع شكلًا جديدًا وخالدًا من الخلاص، بل أثر أيضًا على كل العهود المعطاة لليهود، بما في ذلك عهد إبراهيم. ألم يكتب بولس الرسول: “وأَما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول: «وفي الأنسال» كَأنه عن كثيرين، بل كَأنه عن واحدٍ: «وفي نسلك» الَذي هو المسيحُ”. هذا يعني، بالنسبة إلى الكنيسة، أن الوعود لإبراهيم تشير إلى المسيح وأن المسيح هو موضع الوعد بالأرض! لقد تحققت الوعود لإبراهيم في المسيح. ومن هذا المنظور، فإن الصهيونية المسيحية تحط من شأن يسوع المسيح في حماستها لتعزيز إسرائيل وحمايتها.
ملاحظات ختامية
لا بد من تحدي الصهيونية المسيحية ليس لأنها تقوم على قراءة خاطئة لهدف الله في المسيح فحسب، بل أيضًا بسبب ما تعنيه تعاليمها من حرمان الشعب الفلسطيني من العدالة. هذا، في النهاية، هو المكان الذي تنحرف فيه التعاليم المسيحية الصهيونية بشكل ملحوظ عن الرسالة الأساسية للإنجيل.
ان المشكلة الحقيقية في الصهيونية المسيحية تكمن في أن أتباعها ليس لديهم أي إحساس بقيم العدالة والسلام. لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا نظرًا إلى أن تعاليمهم مستمَدة من عقلية يهودية متحجرة تتناقض تمامًا مع تعاليم يسوع الجديدة في العهد الجديد. ولهذا السبب يسعى الصهاينة المسيحيون دائمًا إلى تغييب العهد الجديد.
كتب قس أميركي: “المسيحيون الصهاينة يؤمنون بيسوع، ولكني أتساءل عما إذا كانوا قد انحرفوا عن الإنجيل. لقد ربطوا إيماننا بسياسة دولة واحدة من دون انتقاد، وهذا، كما تعلمت الكنيسة مرات عديدة، هو وصفة لكارثة”.
ونحن بدورنا نردد مع سيادة المطران عطا الله حنا (مطران القدس): “لا نعترف بما يسمى “المسيحية الصهيونية”. فإما أن تكون مسيحيًّا وإما أن تكون صهيونيًّا”.