الاسباب الموجبة لتعديل دستور سعاده ووجهة هذا التعديل – الحلقة السابعة

الاسباب الموجبة لتعديل دستور سعاده ووجهة هذا التعديل – الحلقة السابعة

انشاء السلطة القضائية

إن المادة الرابعة من دستور سعاده التي تنص على أنه كزعيم للحزب هو مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، دون السلطة القضائية، وإن خلو الدستور من نصّ يذكُر السلطة القضائية، لا يعني أبداً أن لا سلطة قضائية في الحزب[1]. بل يعني أن السلطة القضائية لم يكن الزعيم قد شرّع لها بعد، والدليل هو وجود عمدة للقضاء. أمّا لماذا لم يكن الزعيم قد أنشأ السلطة القضائية بعد مثلما أنشأ السلطة التشريعية (المجلس الأعلى) والسلطة التنفيذية (رئيس الحزب ومجلس العمد) فسببه هو أن الحزب كان في عهد نموّه الأول ولم يكن في صفوفه قضاة ورجال قانون مؤهلون لتولّي السلطة القضائية في ذلك الوقت، وكانت الإدارة الحزبية عبر عمدة الداخلية هي من يتولى معالجة الخلافات والمخالفات التي تنشأ بين القوميين، فكيف ينشئ الزعيم سلطة قضائية ولا يوجد قضاة يتولّونها؟! ودليلنا على ذلك هو أنه مع نمو الحزب وازدياد عدد أعضائه واشتماله على مجازين في القانون والقضاء سنة 1949 عمد الزعيم الى سنّ قانون المحكمة المركزية وحدد لها مهماتها في تولّي السلطة القضائية في الحزب وجعل أحكامها مبرمة.

إن نص “قانون” المحكمة الحزبية المركزية التي شرّع لها الزعيم سنة 1949[2] كان مفقوداً لولا أن صادرته الحكومة اللبنانية بعد حادث الجميزة ونشرته في كتاب “قضية الحزب القومي”. لكن ما نشرته الحكومة كان ناقصاً ولم يتضمن تاريخاً ولا مقدمة مثل سائر مراسيم الزعيم الدستورية التي يستهلها بالقول: إن زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي بناء على المواد 1 و4 و5 و6 و7 من الدستور يرسم ما يلي، أو يسن القانون التالي…

ليس لدينا إلا تعميماً من عمدة الثقافة (لماذا من عمدة الثقافة؟؟) ينشر المرسوم دون مقدمته، ودون تاريخ، لكن تعميم العمدة يقول بوضوح:

“… أضف الى ذلك أنه متى أبرم حضرة الزعيم الجليل قانون المحكمة يصبح القوميون ملزمين بتطبيقه في خلافاتهم المدنية كسائر القوانين الحزبية النافذة…”

نفهم من ذلك التالي:

أولاً، إن عبارة “متى أبرم حضرة الزعيم الجليل قانون المحكمة” تفيد أن سعاده لم يكن قد أبرم قانون المحكمة رسمياً بعد، وهذا هو سبب غياب مقدمته، وإن كان قد كتب مواده، وأيضاً هذا يفسّر سبب عدم نشره في الدستور، فكيف ينشره في الدستور وهو لم يكتمل بعد!

 ثانياً، إن سعاده هو الذي كتب التعميم باسم عمدة الثقافة، إذ كيف لعميد الثقافة أن يحصل عليه قبل أن يصدره وينشره الزعيم.

 ثالثاً، صلاحية المحكمة هي فقط “حلّ الخلافات الحزبية والمدنية التي تنشأ بين القوميين” التي كانت تتولاها عمدة الداخلية في المراحل الأولى وقبل انتشار الحزب الواسع واشتماله في صفوفه قضاة ومحامين، وليس حلّ الخلافات بين السلطات الدستورية التشريعية والتنفيذية. إن عدم شمول صلاحيات المحكمة حلّ النزاع المحتمل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية سببه هو أن الزعيم كان مصدراً لهتين السلطتين مما ينفي أية إمكانية لنشوب نزاع صلاحيات بينهما. أمّا بعد استشهاد سعاده وفصل السلطات فيجب أن تشمل صلاحيات السلطة القضائية حل الخلافات والنزاع المحتمل بين السلطات، أي إنشاء محكمة دستورية مختصة في هذا الشأن.

رابعاً، إنه قانون، والقانون تسنه السلطة التشريعية، أي أن سعاده قد سنّ هذا القانون مستعملاً سلطته التشريعية.

نستنتج من ذلك أن إنشاء السلطة القضائية المقترَحة اليوم هو إذاً من صلاحيات السلطة التشريعية، أي المجلس الأعلى الذي يجب أن يسن قانوناً بإنشائها بواسطة مرسوم دستوري يُنشر في الدستور وليس مرسوماً عادياً يُنشر في النشرة الرسمية. ذلك لأن السلطة القضائية هي سلطة دستورية والسلطة تنشأ بمرسوم دستوري وليس بمرسوم عادي.

إن سعاده لم ينشر “مرسوم المحكمة المركزية” في الدستور لأن هذا المرسوم لم يكن مكتملاً بعد، وقد قلنا إننا وجدناه بدون مقدمة ومن دون توقيع، وهذا يعزز اعتقادنا أن الزعيم كان قد كتبه قبيل استشهاده بوقت قصير، وأنه كان سينشره في الدستور كمرسوم دستوري يحمل قانوناً.

أمّا عن اختيار أعضاء السلطة القضائية فيجب أن يكون بالانتخاب العام وليس بالتعيين، مع وضع شروط صارمة ومؤهلات عالية لحق الترشح. السبب في وجوب اختيار أعضاء المحكمة بالانتخاب هو أن السلطة القضائية هي سلطة! أي هي مثل كل السلطات، مصدرها الشعب، أي القوميين الاجتماعيين. السلطة القضائية يجب أن تُنتخَب انتخابا مثل كل السلطات.

نعرف أنه في دول العالم كله يتم تعيين القضاة في المحاكم من قِبل السلطات السياسية، أو من قِبل ما يسمى “مجلس القضاء الأعلى”، أو ما يشابهه ويوازيه، الذي تعينه السلطات السياسية، ولا يتم ذلك عبر الانتخابات العامة، مع الحرص المزعوم على إبقاء السلطة القضائية مستقلة وأحكامها النهائية مبرمة دون أن يكون للسلطة السياسية حق التدخل فيها.

أن الحِجّة الديمقراطية في تعيين السلطة القضائية تعييناً من قِبل السلطة السياسية، وليس مباشرة من الشعب، هي أن السلطة السياسية هي سلطة ديمقراطية منتخبة من الشعب وبالتالي هي مفوّضة من الشعب بتعيين السلطة القضائية. لكن هذه الحجّة هي بنظرنا ضعيفة جداً وتتعارض مع مبدأ “استقلالية السلطة القضائية” وسيادتها وموازاتها لبقية السلطات، وإن

مبدأ استقلالية السلطة القضائية غالباً ما يتم الالتفاف عليه إذا لم تكن هذه السلطة منتخبة رأساً من الشعب. ذلك لأنه إذا كانت السلطة السياسية هي التي تعيِّن القضاة وتعزلهم، تستطيع أن تتلاعب بالقضاء وتؤثر عليه وعلى أحكامه عن طريق التحكّم في تعيين أو إقالة القضاة، خاصّةً في قضايا النزاعات الكبرى في السلطة والسياسة والمال، والأمثلة كثيرة في هذا الشأن، وفي كل دول العالم تقريباً، ولنا في الدولة اللبنانية، كمثل، نموذجٌ عن هذا الالتفاف والتلاعب.

إن لهذا الموضوع في الحزب اعتبارات وتجارب خاصّة تستوجب برأينا انتخاب السلطة القضائية انتخابا من قِبل جميع أعضاء الحزب لكي يعطيها ذلك حصانة وحماية من تدخل السلطات التشريعية أو التنفيذية، ويمنع هذه السلطات الأخرى من التدخل فيها وعرقلة أعمالها عن طريق التحكم في تعيين وإقالة أعضائها، وفي تاريخ الحزب القريب والبعيد أمثلة عن ذلك. مثلاً، لقد أقدم المجلس الأعلى على إقالة أعضاء المحكمة التي أبطلت التمديد لأحد رؤساء الحزب لمرة ثالثة على التوالي. وفي سنة 1957 اعتبرت السلطة التشريعية، أي المجلس الأعلى، نفسها محكمة وطردت جورج عبد المسيح، فكانت هذه السلطة هي نفسها الخصم والحَكَم، وقد أدّى ذلك يومها الى انقسام الحزب.

إن تعيين السلطة القضائية بالانتخاب العام هو الذي يؤمِّن لها استقلاليتها.  واستقلال السلطة القضائية هو مبدأ جوهري يجب أن يُصان، ولنا من سعاده في قانون المحكمة المركزية الذي سنّه سنة 1949 دليل ممتاز عن ضرورة استقلال السلطة القضائية. فالمادة الثامنة من قانون إنشاء المحكمة، ينص على أن “الأحكام التي تصدرها المحكمة هي أحكام مبرمة…”. فالزعيم لم يعط لنفسه حق تعديل الحكم أو التدخّل فيه، كل الذي أعطاه الزعيم لنفسه، وهو مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، هو فقط حق “إحالة القضية الى هيئة جديدة تتألف من أعضاء جدد يعيِّنهم الزعيم بمرسوم”، وهذا يعادل حق استئناف الحكم وليس التدخّل فيه، واستئناف الحكم بديهي أن تتولّاه هيئة محكمة أخرى. إنه لا يعني إلّا حرصاً شديداً على العدالة الكاملة إذا كان هناك من شك في نقص العدالة في الحكم الأول.

أيضاً، إن الزعيم أعطى لنفسه حق تعيين أعضاء المحكمة لأن الزعيم هو مصدر السلطة، وسلطته مستمدّة من القوميين الاجتماعيين.

إن لسعادة سابقة موثقة في انتخاب السلطة القضائية انتخابا. فها هو قد لجأ الى الانتخاب في اجتماع عام لإحدى مديريات المكسيك من أجل إيجاد عضو في لجنة تحقيق في خلاف بين المنفذ العام وأحد المواطنين. ففي رسالته الى منفذ عام المكسيك يقول:

إني أقرر تأليف لجنة تحقيق من ناموس المنفذية وناظر الإذاعة وأحد الأعضاء ينتخبه اجتماع عام للمديرية أو لمديريات المدينة، فتستنطق السيد رفول وتأخذ إفادات الرفقاء الذين سمعوه وإفادة كل عضو عنده ما يدلي به في المسألة، وتضع ضبطاً بذلك وترفعه إليّ.[3]

وبعد فشل اللجنة الأولى عاد الزعيم وأصدر مرسوماً بتأليف لجنة غيرها من خمسة رفقاء إثنين منهم بالتعيين وثلاثة بالانتخاب، هكذا:

إن زعيم الحزب السوري القومي، بناءً على المواد الأولى والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة من الدستور، ونظراً في مقتضيات حالة منفذيه المكسيك في هذه الظروف الاستثنائية،

يرسم ما يلي:

مادة أولى: تتألف لجنة من أعضاء منفذيه المكسيك المشهورين بالأمانة لغاية الحزب السوري القومي والإخلاص لعقيدته ونظامه، يكون قوامها خمسة أعضاء، للتحقيق في عجز حضرة المنفذ العام الرفيق عساف ابي مراد عن القيام بجميع مسؤولياته التجارية- المالية وكيفية حصوله واسبابه الصحيحة، ووضع تقرير أو تقريرين ترفعهما الى هيئة المنفذية التي ترفعهما بدورها الى مقام الزعامة.

مادة ثانية: تُشَكّل اللجنة المذكورة بتعيين هيئة المنفذية إثنين وانتخاب الأعضاء الثلاثة الآخرين.[4]

إن الانتخاب هنا، وإن كان لاختيار لجنة تحقيق فقط وليس هيئة محكمة كاملة الصلاحية، لم يكن لاختيار الأكثر أهلية والأكثر فهماً ومعرفة بالقضاء والقانون، فليس بالانتخاب تتقرر هذه المؤهلات. بل الانتخاب هنا كان وسيلة سعاده لإكساب لجنة التحقيق شرعية ومصداقية وقبولاً من الأعضاء الذين سيختارون الأكثر “أمانة لغاية الحزب والإخلاص لعقيدته ونظامه”، أي لإكساب لجنة التحقيق “حصانة شعبية”، إذا جاز التعبير، وإكساب قراراتها مصداقية وقبولاً أكبر، وعدم ترك التحقيق والحكم بيد السلطة التنفيذية وحدها. إن تدبير الزعيم في هذه المسألة يعطينا صورة مصغّرة عما يجب أن تكون عليه السلطة القضائية، إن انتخاب القضاة في الحزب ليس هو لانتقاء الأفضل منهم، أي الأكثر فهماً ومعرفة بالحق والعدل والقضاء والقانون، ليس بالانتخاب تتقرر هذه المؤهلات، بل هو لإكساب السلطة القضائية حصانة شعبية وتحريرها من وصاية وتأثير وتدخّل السلطتين التنفيذية والتشريعية عملاً بمبدأ فصل السلطات. أمًا الحرص على شروط الكفاءة والأهلية والاختصاص والعدل فهذا يتم قبل الانتخاب وليس خلاله. لذلك، فإن القول بأن الرفقاء العاديون في المديريات ليسوا مؤهلين لانتخاب القضاة هو قول في غير محله، لأن القوميين عندما ينتخبون القضاة لا يكونون يتولّون إعطائهم شهادات في الكفاءة والأهلية والاختصاص، بل يكونون يمنحونهم حصانة واستقلالية.

لهذه الأسباب كلها يجب أن يعمد المجلس الأعلى على إصدار مرسوم دستوري يُشرّع لقانون إنشاء السلطة القضائية بالانتخاب، ويجب أن يتضمًن هذا المرسوم- القانون شروطاً صارمة ومؤهلات عالية يجب أن تتوفر في المرشحين. هذا ما يجب أن يتضمنه الدستور المقترَح الجديد.

أمّا القوانين الداخلية للسلطة القضائية وكيفية انتظام عملها وتحديد علاقتها بالإدارة الحزبية، وطريقة توزيع القضاة على المحاكم وكيفية تعيين موظفيها، من مدّعي عام الى أصغر كاتب فيها، فهذه شؤون إدارية ونظام داخلي تضعه السلطة القضائية نفسها بالتعاون والاشتراك مع عمدة القضاء والأمناء القضاة من خارج السلطة القضائية المنتخَبة، وليس من الضروري وضعه من قِبل السلطة التشريعية، ولا يظهر في الدستور.


[1]   إن إنشاء الزعيم لعمدة القضاء في مرسومه الدستوري عدد 1 هو دليل على أن سلطة قضائية كان سيتم إنشاؤها في الحزب.

[2]   هذا المرسوم المؤلف من مواد تسع ليس له تاريخ ولا يحمل توقيع الزعيم، لكن يُرجَّح أنه كان في طريقه الى الصدور مُوقّعاً ومؤرّخاً قبل استشهاد الزعيم في 8 تموز 1949. تجده في الأعمال الكاملة، ج 8، ص 461. كما تجده في آخر هذا الكتاب.

[3]  الأعمال الكاملة، ج 10، ص 137.

[4]   الأعمال الكاملة، ج 11، صفحة 11.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *