“الأولاد ولادنا والبلاد بلادنا”
جمله أطلقتها المرحومه السيدة أم محمود (أكابر محمود الطويل): إبنة الجولان الشّامخة بشموخ جبل الشيخ في 10/6/1973 أثناء الإحتلال الإسرائيلي، وهي زوجة مختار قرية حرفا المرحوم الشيخ ابو حمد يوسف أتمت وأُم لمختارَيْن بعد وفاته.
تقدّمت أم محمود يومه الجنود الإحتلال الإسرائيلي الذين كانوا يتمركزون في “دار المختار”، بكل شجاعة وبنبرة كبرياء قالت للحاكم العسكري: “أنظر إلينا جيداً، احتلّت بلادنا بطبعكم الغدار، وستخرجون منها عنوة بإذن الله وقوة رجالنا، إبقوا بأدب نحن هذا شعارنا، وإلا صغيرنا قبل كبيرنا ونساؤنا قبل رجالنا، سيهفوكم واحد تلو الاخر “.
وبعد أربعة أيام من إحتلال القريه والهلع والخوف، خرجت أم محمود من بيتها الواقع في أعلى قمة في البلدة لجلب الحطب من الكرم، وعند وصولها للكرم، وجدت جندي سوري منبطحاً على وجهه تحت شجرة التين، مخضّب بدمائه.
حين وصلت له بكل حذر كي لا يراها جنود الإحتلال، قلبته على ظهره وإذ هو حي يلفظ أنفاسه الأخيرة، فنزعت عنه بكل حذر بزته العسكرية وحذائه، ودفنتهم مع بندقيته في حفرة، هالت فوقهم التراب والحجارة، وأخفت كافة المعالم التي تدل على أنّه جندي سوري.
انتظرت أم محمود إلى ما بعد الغروب، وكأنها تشد حبائل الشمس بكلتا يديها كي تغرب بسرعة، خائفةً خوفاً شديداً عليه لإسعافه من دون أن يراها أحد.
وعند وصولها إليه ردفته على ظهرها، قطفت غصن زيتون أخضر كثيف الأوراق، وضعته فوقه لتغطيته، وصعدت به إلى بيتهم في أعلى قمة الجبل، الذي يعجز الشباب الأشداء الصعود اليه، وكان طريقها إجباري من أمام الثكنة العسكرية القريبة من البيت، وعندما رآها الحرس ناداها: “قف قف من أنت؟ وماذا تحمل؟” قالت بصوت قوي جهور: “شو بدك؟ جايبي حطب لإخبز لأولادي بتمنعونا ؟”
عندما سمع صوتها ولمح خيالها قال لها بلهجته: “روخ روخ انت خرمة” (اي روح روح انت حرمه)، عندما وصلت إلى باب الدار العاليه ذات الحجر الأبيض كالقلاع ، تذكّرت أنه سيفتضح أمرها لكثرة الزائرين، وأن يتكلّم أحد أبنائها بوجود رجل غريب في البيت.
اتجهت أم محمود به إلى بيت إمرأة ارملة صديقة لها ذات ثقه، قالت لها: “يا إم قاسم رح خبّي الجندي عندك، ونجيب له دواء اذا عاش كان حمدا من الله، واذا استشهد لاحول ولاقوة الا بالله”، تقبلت إم قاسم الأمر بكل إنسانية فحملت معها الجندي ووضعتاه خلف “كواير” (وهي مصنوعه من الطين تستعمل لحفظ المؤونة من الحبوب للإستهلاك الغذائي).
وبعد ما تنفست الصعداء لدى إنزال هذا الحمل الثقيل عن كاهلها، كم كانت أم محمود في دهشة حين تنبهت انها قد حملته على ظهرها دون أن تشعر بثقل هذا الحمل خلال رحلتها الطويلة والشاقة، وصعودها إلى هذا المكان الشاهق مع الخوف وكأنّها لاتحمل شيئا !
ولا تأبه من هو ومن اي مذهب قد يكون، سوى أنه جندي سوري.
أطلعت أم محمود صديقاً لزوجها على الأمر، وكان وفيّاً وأمي. قالت له: “يا أبو علي نريد دواء لهذا الجنديّ، ولا يوجد سوى مستوصف الاحتلال.”
وبعد عناية شديدة والدعاء بالشفاء، استيقظ بحمدالله بعد عشر ايام ! وتكلم: “أنا وين؟ مين انتوا؟” أخبَرَته أم محمود الحقيقة، فقال لها: “يا حجه بدك تسلميني للإحتلال؟” ضحكت بكل عطف وفرحة وقالت :
“لو بدي سلمك مانتعتك على ظهري وجبتك، أنت بأمان يا إبني لا تخاف، إنت من وين؟”
أجاب قائلاً: “أنا من الحسكه، بدي روح طالعيني من هون.” قالت أم محمود له: “ليشتد عودك وصحتك راح نطالعك كون مطمأن.”
وبعد شهر تحسّنت حالة الجندي، فأرسلته مع ابو علي وابنها اليافع الذي يبلغ من العمر عشرين عاماً، وهي تعلم خطورة اذا قُبِض على ابنها أثناء تهريب جندي سوري عن الحدود، ولكن كان إيمانها بالله كبير.
انطلقوا في منتصف الليل بين الكروم المخفيه عن أنظار العدو، ونبّهتهم أن لايتركوه حتى يطمأنوا عليه أنه وصل الى الحدود السورية.
عندما أصبحوا خارج أرض البلدة قالوا له: “أنظر بعيداً قليلاً تلك هناك هي مخيمات السوريّين، إذهب ونحن في انتظارك، أي خطر يواجهك اصرخ وسنأتيك فوراً.” انتظروا حتى وصل الجندي بأمان إلى القوات السورية.
وبعد تحرير البلد عاد الجندي ممتنّاً لها، فاعطته أم محمود بندقيّته التي بقيت محتفظة بها.
الموقف الأكبر لهذه السيدة العظيمة الشجاعة، خلال فترة الاحتلال، هو عندما عثر جنود العدو على بنت مشلولة عمرها تسع سنوات في “مزرعة بيت جن”، التي رحل عنها أهلها من هول الحرب، ولم يبق أحد في بيوت البلدة المحاذيةة لقرية “حرفا” .
أحضر الاحتلال بها الى دار المختار، وقال الحاكم العسكريّ: “نريد إمرأة تخدم هذه البنت بأجارها.”
انتفضت أم محمود بقوة وفتحت ذراعيها قائلة: “هات البنت نحنا منخدمها بعيونا دون أجار .”
"الولاد ولادنا والبلاد بلادنا"
"مابدنا منكن غير ترحلوا عن أرضنا"
أخذت الفتاة وبدأت تعيلها طوال مدة الاحتلال التي دامت تسعة أشهر. أم محمود شيخة البلد وسيدة نسائها لم تتخل عن واجب مهما كان، احتارت بأمرها، اذا تركت الفتاة في المنزل وذهبت لتأدية الواجب تخاف عليها من أي شيء يسيئ لها.
فاتّخذت قراراً بأن تحملها على كتفها وظهرها أينما ذهبت وترعاها، حتى خرج الاحتلال، وعاد الأهالي إلى منازلهم، وعائلة الفتاة بدأت تبحث عنها.
بلغهم الخبر إنها في قرية حرفا، فذهبوا واستلموا الفتاة بأمان وتشكروا أم محمود على رعاية الفتاة كل هذه الفترة.
أم محمود واحدة من نسائنا في قرى الجولان المحتل اللواتي سطّرن بطولات وتضحيات خلال الاحتلال.
هؤلاء نساؤنا وهذه ميادينهم وبطولاتهم، وقفن كتفاً بكتف إلى جانب الرجال، كانوا وما زالوا السند والجناح الذي يحمل بشائر النصر على مدى الأزمان.
تحية لكل إمرأة، صانت وتحمّلت وقدّمت في سبيل انتصار هذه الأمّة. فقد قالها سعاده: “نساؤنا رجال، ورجالنا رجال فوق العادة.”