قبرص …نجمتنا في الجغرافية والتاريخ

قبرص …نجمتنا في الجغرافية والتاريخ

«يجب أن تحذر الحكومة القبرصية… إن فتح المطارات والقواعد القبرصية للعدو الإسرائيلي من أجل إستهداف لبنان يعني أن الحكومة القبرصية أصبحت جزء من الحرب وستتعاطى معها المقاومة على أنها جزءٌ من الحرب…»
-السيد حسن نصر الله (الاحتفال التأبيني للشهيد طالب عبد الله 19-6-2024)
لم أستطع وأنا أستمع إلى تحذير السيد نصرا لله للحكومة القبرصية -وهو تحذير لا يرتقي إلى تهديد كما يريد البعض أن يظهره، هو أقرب لتحذير أو تنبيه من القيام بفعل له أساساته وما يدل عليه- أن أبعد عن خيالي مشهد أنطون سعادة يقف إلى جانب خريطة كبيرة يشرح من خلالها المبدأ الأساسي الخامس من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي: ‏”الوطن السوري هو البيئة الطبيعية الذي نشأت فيه الأمة السورية. (…) ويعبر عنها بلفظ عام: الهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص…” أنظر مع سعادة إلى جزيرة قبرص، فأراها في حضن خليج الإسكندرون وتمد ذراعها نحو الخليج السوري، تقول أنا من هذه الأرض وإليها أنتمي… جزيرة تكاد تلتصق بالشاطىء السوري، قطعةٌ من الأرض السورية في الماء. تكوينها الجيولوجي من تكوين الأرض السورية، وموقعها الجغرافي في البحر يجعلها تابعة لها، وهي كانت في القدم في قبضة السوريين، نزلها الفينيقيون وبقاياهم لا تزال فيها.
يقول سعادة في كتابه “نشوء الأمم”: «الأمة تجد أساسها، في وحدة أرضية معينة تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتنحد ضمنها. ومتى تكوّنت الأمة وأصبحت تشعر بشخصيتها المكتسبة من إقليمها ومواد غذائها وعمرانها، ومن حياتها الاجتماعية الخاصة، وحصلت من جميع ذلك على مناعة القومية أصبحت قادرة على تكميل حدودها الطبيعية أو تعديلها، على نسبة حيويتها وسعة مواردها وممكناتها..» إذًا، تعديل حدود الأمم سياسيًا هو أمر متعلق بقدرات الأمة نفسها… فإذا كانت الأمة قوية، حيويّة، وكانت قادرة على مواجهة الموانع، تمكنت من تجاوز حدود بيئتها الطبيعية. وإذا وهنت الأمة وضعفت، تتراجع عن حدودها أمام ضغط الأمم المجاورة. وقد عرفت بلادنا المد والجزر كليهما في حدودها السياسية. وعبر التاريخ، تنبّهت الشعوب أو الجماعات السورية الأولى، كالآشوريين والكلدانيين، إلى وحدة الأرض السورية ووحدة الثقافة والسياسة والاقتصاد فيها، فسعت جميع هذه الدول إلى تحقيق وحدة الدولة في هذه البلاد. فبقيت سورية وحدة وأمة ممتازة، رغم كل ما مرّ عليها من غزوات، وشكلت هذه الوحدة الجغرافية البديعة، هذا الوطن الممتاز لهذه الأمة الممتازة العظيمة. وقد ظهرت هذه الوحدة سياسيًا عند عقد التحالفات أثناء الأخطار الوجودية، كالحملات المصرية، أو في الحملات السورية على “الهكسوس”. ولهذه التحالفات أهمية في شعور الدول السورية باشتراكها في الدم والأرض وفي وحدة مصير الشعب والبلاد.
إذًا، إن الأرض السورية تشكل بيئة طبيعية واحدة، وحماية أي جهة من جهاتها ضرورة لحماية الجهات الأخرى. فهناك مناطق في الحدود إذا خرجت من قبضة الجيوش السورية عرّضت البلاد كلها للخطر. فالبوابات الكيليكية مثلاً، وهي الممر الوحيد عبر جبال طوروس بين سهول كيليكيا وهضبة الأناضول، ظهرت بانتظام في العديد من الحملات العسكرية، فإذا مر منها جيش قادم من آسيا الصغرى عرض سلامة سورية كلها للخطر، وليس حلب أو الاسكندرون فقط، فعندما عبر الجيش المكدوني منها لم يصمد أحد أمامه سوى مدينة صور التي صمدت لعدة أشهرلأنها كانت جزيرة! وقد حصل في التاريخ أن عبر الجيش الفارسي من الجبال السورية وأسقط سورية كلها في قبضته. أما في الجنوب النقطة الاستراتيجية تمتد من قناة السويس حتى سيناء. فالمصريين كانوا يستسهلون التوغل في سورية بعد عبورها، والجيوش السورية التي كانت تعبر هذا الخط كانت تتجه لأخضاع مصر.
“لكيلا تكون الشواطئ السورية منكشفة لعدو مقبل من البحر، من الضروري الإحتفاظ بجزيرة قبرص، لأنها حصن سورية من جهة البحر.”-أنطون سعادة
تشكل قبرص إذا بحسب قول الزعيم نقطة إستراتيجية أخرى تحمي الخاصرة السورية الغربية من جهة البحر، وذلك لموقعها المتميز في البحر الأبيض للتحكم في طرق الملاحة الحيوية الرئيسية في العالم، فأسهم ذلك في إنعاش اقتصادها عبر عمليات التبادل التجاري التي كانت تتخذ من موانئها محطات للتزود بالمؤن اللازمة لمواصلة الرحلات البحرية. كما جعلها مطمعا لكل الإمبراطوريات التي حكمت في المنطقة. فمن يريد أن يهاجم سورية بحرًا، لا بدّ أن يسيطر على قبرص… بالإضافة إلى أنها غنية بالمواد المعدنية وبالأخص النحاس والنيكل والكروم وتشكل المعادن 60% من صادرتها، وهناك تقديرات بوجود كميات كبيرة من النفط والغاز في سواحلها. هذا فضلا عن كونها بلدا سياحيا تمثل فيه السياحة موردًا مهما للدخل القومي نظرا لطبيعة أرضها الخلابة وطقسها شبه المعتدل. لكن، تعالوا ندرس دور قبرص الاستراتيجي في الجبهة الشرقية لمواجهة العدو الإسرائيلي.
منذ احتلال تركيا لقبرص كانت الادعاءات مبنية على أساس قرب البر السوري-الإسكندرون لقبرص. إلا أن عام 1878 كان الخنجر الأساسي الذي وجهه الإستعمار البريطاني الى صدر الأمة السورية تنفيذا لاتفاقية قبرص عندما استلمت بريطانيا جزيرة قبرص من الدولة العثمانية مقابل تقديمها الدعم العسكري لها في حال محاولة روسيا الهجوم عليها في آسيا، تشير بعض المصادرإلى ان السلطان عبد الحميد تنازل عنها مقابل 92799 ليرة ذهبية. وكان ذلك في سبيل تحقيق بريطانيا لهدفها بالسيطرة على القناة السويس – اتخذت بريطانيا قبرص قاعدة لشن هجومها على القناة عام 1882 بعد مطالبتها إحتلال مصر عام 1878 بمؤتمر برلين.
حولت بريطانيا قبرص إلى قاعدة عسكرية عام 1935، خاصة بعد منافسة إيطاليا أطماع بريطانيا واحتلالها الحبشة. فلعبت قبرص دورًا هامًا في الحرب العالمية الثانية لصالح بريطانيا، فشكلت قاعدة لصد هجمات دول المحور كما شكلت قاعدة لحماية خطوط البترول في طرابلس وحيفا.
تزامنت حركة التحرر الوطني في قبرص واشتدت مع نظيرتها في البلاد السورية، خاصة وأن بريطانيا كانت العدو الأول لهم. ولما كانت تشكل القاعدة البريطانية بقبرص خطرًا على استقلال دول المنطقة، خاصة السورية، وامنها، كان من الطبيعي أن تؤيد هذه الدول حركة التحرر القبرصية. و مما زاد إهتمام الدول السورية بالوضع في قبرص أن سلطات الاحتلال البريطاني قامت بتمكين الحركة الصهيونية في فلسطين، ففي عام 1948 كانت السلطات البريطانية بقبرص تتظاهر بمنع المهاجرين اليهود من العبور إلى فلسطين فتعترض السفن التي تقلهم وتنقلهم إلى قبرص حيث تسمح لهم بالتسلل إلى شواطئ فلسطين على شكل مجموعات صغيرة. وفي عام 1954 كانت قبرص قاعدة لشحن الذخائر والمعدات العسكرية إلى إسرائيل عن طريق ميناء فماجوستا. فضلًا عن أنها كانت تمثل ميدانًا للتجسس الصهيوني على العرب.
وإثر إتفاقية الجلاء البريطاني عن مصر عام 1954، أعادت بريطانيا توزيع قواتها على قواعدها المتبقية في المنطقة. فأرسلت إلى قبرص القوات التي خرجت من مصر، وقد سمته بالإحتياطي الإستراتيجي، وأضحت قبرص مقرًا للقيادة العامة للقوات البرية البريطانية في الشرق الأوسط، ومقرًا للقيادة العامة لسلاح الطيران البريطاني في الشرق الأوسط…
ونتيجة لذلك، وُصفت الجزيرة كحاملة طائرات ثابتة تحمي مصالح بريطانيا. ففي العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 تحوّلت قبرص إلى مقر للقوات البريطانية-الفرنسية تشن منها الغارات وتنقل المعدات الحربية إلى جيش العدو الإسرائيلي بعمق الأراضي السورية بسيناء. كما كانت إذاعة لندن تستخدم قبرص في توجيه دعايتها.
لذلك، كان من السهل ربط المسألة الفلسطينية ومقاومة العدوان الثلاثي بحركة التحرر الوطني القبرصية التي تناهض الوجود البريطاني. كما لعبت قبرص عام 1958 دورًا في دعم التدخل الأمريكي بلبنان من خلال ما قدمته القواعد البريطانية من دعم، ما أكد مدى خطورة الاستعمار البريطاني على خاصرة الأمة السورية! كما تأكد من ناحية ثانية أن قبرص بقيادة مكاريوس قد رفضت ضياع هويتها بين التمزق التركي واليوناني، وأخذت تؤكد شخصيتها القبرصية المستقلة، وهذا ما أكده مكاريوس نفسه في زيارته إلى كل من الكيانين الشامي واللبناني عام 1952 عندما أعلن أنه لن يسمح بتحويل جزيرته إلى محطة من أجل التوسع اليهودي في المنطقة. كما عندما اعلن في 27 نيسان 1953 تخليه عن مبدأ الوحدة مع اليونان (الأنسوس) واستبدالها بحق تقرير المصير. إلا أن الدعم البريطاني في الجزيرة، والضغط الذي مارسته القوى اليمنية في الحكومة القبرصية الى جانب اللوبي اليهودي، حجّم التعاون الاقتصادي والثقافي والاجتماعي بين قبرص والكيانات السورية سيما عند مقارنته بالعلاقات القبرصية الإسرائيلية، حيث أقامت إسرائيل أحد أقوى العلاقات الاقتصادية والسياحية مع الجزيرة. واستمرت هذه العلاقات إلى يومنا هذا، حيث أن عشرات الآلاف من اليهود اشتروا ما يُقدر بـ25 ألف فدان من الأراضي، وعددا كبيرا من الوحدات السكنية في قبرص ، بأسعار باهظة، حيث احتل الإسرائيليون المرتبة الـ12 بين الأجانب الأكثر شراء للأراضي في جمهورية قبرص، في الوقت الذي تمنع فيه الحكومة بيع المنازل والأراضي للأجانب دون موافقة رسمية، لذلك يتحايل” اليهود على قوانين الدولة، عبر شراء الأراضي والمنازل باسم شركات موجودة في شمال قبرص، لكنها تابعة ليهود يملكون جنسيات أوروبية أو حتى أولئك الحاصلين على الجنسية القبرصية، ومن ثم إخفاء أسماء الشركات وملاكها والمحامين القائمين على إجراء المعاملات بطريقة سرية. كما يتجه رجال الأعمال الإسرائيليين إلى دفع أموال باهظة لمواطني الجزيرة لإقناعهم بشراء الأراضي والبيوت بأسمائهم، مقابل ضمانات تمكّن اليهود من استخدام هذه العقارات بشكل قانوني فيما بعد. وبهذا الاستثمار، سرعان ما أصبح اللوبي الإسرائيلي واحدا من أكثر جماعات الضغط تأثيرا في الجزيرة القبرصية، ونجحوا بافتتاح أول معبد يهودي غير رسمي لجمهورية شمال قبرص التركية.
وعلى المستوى العسكري، وقعت قبرص وإسرائيل في آذار 2023 برنامجًا للتعاون الدفاعي الثنائي الذي يسمح لإسرائيل إستخدام أحد المطارات القبرصية لمحاكاة سيناريوهات القتال في لبنان، وقد سبق ذلك عدد من الاتفاقيات المماثلة التي اتاحت للجيش الإسرائيلي القيام بالعديد من المناورات العسكرية في قبرص أبرزها مناورة “عربة النار” التي شارك فيها الآلاف من الجنود. كما أنه في نسيان الماضي قامت الطائرات الإسرائيلية بمناورات عسكرية بهدف التدريب. فضلًا عما تشكله الجزيرة حاليًا من قواعد رصد وتجسس إسرائيلية وبريطانية.
هذه الوقائع تؤكد صوابية نظرة سعادة إلى مسألة قبرص وإستشرافه الاستراتيجي. إذ أنه لو كان في البر السوري دولة مركزية وحدوية لقدرت أهمية قبرص الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية على غرار ما قام به عبد الناصر مع حركة التحرر الوطني القبرصية بعد العدوان الثلاثي على مصر، مستفيدة من مفهوم الدورة الاجتماعية والاقتصادية في رسم العلاقات بين البر السوري وقبرص، تمامًا كما يسيطر المفهوم القومي نفسه في العلاقات بين فرنسا وكورسيكا أو البر الإيطالي مع سردينيا. فالمفهوم الاجتماعي للمواطنة هو الحل للتناقض العنصري-الطائفي الذي أضاع هوية قبرص القومية. فهل يفتح خطاب السيد نصر الله المؤكد لأهمية قبرص في الصراع الوجودي بفلسطين بابًا أمام القوميين الاجتماعيين الذين واجهوا الرومانسيين الرافضين لقبرص للتأكيد على عمق وأهمية دعواهم؟