الإنكار الدموي للأفول الامبريالي

الإنكار الدموي للأفول الامبريالي

إلى ما قبل العقود الأخيرة ظلت الامبرياليات الغربية قادرة على تجديد هيمنتها وآليات سيطرتها المرئية وغير المرئية، وتأجيل أزماتها البنيوية الكبرى.
وقد ساعدها في ذلك عجز الجيل الرابع من بيروقراطية الدولة السوفييتية عن الاستمرار وطرق الصدأ الذي تراكم على الفولاذ الاشتراكي، فكان تفكك الاتحاد السوفييتي وإسقاط جدار برلين محصلة موضوعية لذلك وفرصة للغرب الرأسمالي لنسج الأوهام الأبدية لأسوأ حقبة قهر واستغلال طبقي في التاريخ.
في هذه الظروف ولدت أفكار هنتنغتون، وكذلك الأمريكي من أصل ياباني، فوكوياما، الذي أعلن نهاية التاريخ وتأبيد الرأسمالية، ولم يكن ذلك الإعلان سوى تأويل متهافت لأفكار الفيلسوف الألماني الكبير، هيغل، الذي أعلن نهاية للتاريخ وليس نهاية التاريخ كلما استغرقت الروح الكلية نفسها عبر الحرية كصيرورة تاريخية وليس الحريات السياسية كأجندة سياسية ليبرالية.
لقد اعتقدت أو توهمت الامبرياليات أن الأزمات الرأسمالية نوبات مرضية دورية تحمل علاجها في ذاتها وفق ما ذهب إليه فيلسوف السوق المتوحش، الأمريكي ميلتون فريدمان، ولا يجب على الرأسمالية تقديم أية تنازلات للقوى المستضعفة المحكومة بقانون الداروينية الاجتماعية.
وقد غاب عن هذه الامبرياليات المتوحشة وفلاسفتها، أن كل حقبة طبقية تحمل بذور نهايتها في أحشائها بالضرورة، وليست الامبريالية استثناء في ذلك.
هذا على وجه العموم، أما فيما يخص الامبريالية الأمريكية على وجه التحديد فإنه إذا كانت بدائل الامبريالية لم تولد بعد في سياق حقبة جديدة، فهذا لا يعني أن الامبريالية الأمريكية بالذات هي قدر العالم، ومن مؤشرات ذلك:
اتساع البريكس للمزيد من القوى العالمية بالإضافة لروسيا والصين.
باستثناءات قليلة عابرة مثل رئاسة الارجنتين المتصهينة، فإن غالبية بلدان أمريكا اللاتينية بدأت تغادر العباءة الأمريكية وتكسر فكرة الحديقة الخلفية لواشنطن.
اتساع القوى والعواصم المتحررة من النفوذ الأمريكي والفرنسي في قارة أفريقيا.
اتساع هامش المناورة ضد واشنطن في الشرق الأوسط، وهو المنطقة التي كانت الملعب المفضل للامبريالية الأمريكية.
كل ذلك وغيره يؤشر على أن العالم الرأسمالي بات قاب قوسين أو أدنى من نهاية القطب الواحد لصالح نظام آخر متعدد الأقطاب، وثمة إجماع دولي عند غالبية الباحثين أن الصين قد كسرت فعلا الاحتكار الاقتصادي للنظام الغربي وأنها مع روسيا والقوى الأخرى في البريكس باتت أقرب للإمساك بزمام المبادرة على الصعيد السياسي الدولي.
بالرغم مما سبق وجريا على عاداتها وأوهامها، لا تريد الامبريالية الأمريكية ومن يدور في فلكها أن تصدق أن الكرة الأرضية لم تعد تدور على قرني الثور الأمريكي، وتراهن كما في مرات سابقة على خيارات الإرهاب الدولي وحرب الإبادة والقتل الذي كان يمر بلا عقاب.
وكما قلنا، إذا كانت الامبرياليات الغربية قد حولت جرائمها ضد الشعوب وقوى التحرر إلى فرص لإدامة نهبها وسيطرتها، فإن التحولات والتغيرات الأخيرة في العالم قد خلقت أوضاعا جديدة راحت تقلص من قدرة الامبرياليين على ترجمة اعتداءاتهم وجرائمهم بحق الشعوب، وبالتالي فنحن اليوم إزاء إنكار دموي امبريالي للوقائع الجديدة، بقدر ما ينتج عنه من خسائر بشرية ومادية وتدمير للبنى التحتية، بقدر ما يؤشر على أفول تاريخي لاحتكار امبريالي لم يدم طويلا وفق المعايير المعروفة للقوى العظمى.
فمقابل عقود الهيمنة الطويلة للرأسماليات الدولية الأوروبية، فإن الهيمنة الأمريكية الأحادية بدأت عمليا مع عام 1990 ومن المقدر أفولها قبل نهاية العقد الحالي.