لم تعد الامور كما كانت بالنسبة الى “اسرائيل “في علاقتها بالعالم شعوبا وحكومات، وصورة الضحية التي روجتها عن نفسها طوال 76 عاما مستغلة عقدة الشعور بالذنب الاوروبية تجاه اليهود بدأت تتشظى امام صور الاجرام الذي تمارسه ضد الشعب الفلسطيني في غزة وفي الضفة الغربية وداخل اراضي فلسطين المحتلة منذ العام 1948.
ضربة على الرأس توجع فكيف بثلاث ضربات متتالية: تصويت الجمعية العمومية للأمم المتحدة على قبول عضوية فلسطين دولة كاملة الاوصاف في الامم المتحدة بأغلبية كبيرة بلغت 143 دولة من اصل 194 رغم ضغوط الولايات المتحدة، ثم اعلان اسبانيا والنروج وايرلندا انها تريد الاعتراف بدولة فلسطين المستقلة وتوجه دول اخرى في القارة الاوروبية والعالم اجمع الى الاعتراف ذاته.
الضربة الثانية أتت من المحكمة الجنائية الدولية التي أعلن المدعي العام فيها كريم خان انه قدم طلبات الى المحكمة لاستصدار قرارات باعتقال رئيس وزراء العدو الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالنت وقادة في “حماس”. خان تحدث بصراحة ان نتنياهو وغالانت يتحملان بصورة مباشرة المسؤولية عن جرائم ضد الانسانية، وان “إسرائيل” حرمت بشكل ممنهج فلسطينيين من اساسيات الحياة وان نتنياهو ووزيره مشتركان في التسبب بتجويع الفلسطينيين في غزة.
جن جنون نتنياهو ويمينه المتطرف المكون من الثلاثي يتسلئيل سمونريتش وايتمار بن غفير وغالانت وهددوا بمقاضاة المحكمة الجنائية بعدما كان سبقهم 15 سيناتورا اميركيا من الجمهوريين بتوجيه تهديدات مباشرة الى خان لثنيه عن تقديم طلباته من دون أن يفلحوا. وفيما كان نتنياهو يعلن تحديه للمحكمة الجنائية، كان ربيبه المتلون الرئيس الاميركي جو بايدن يزايد عليه في “حبه” “لإسرائيل” وتبنيه الكامل لمواقفها ولحربها الوحشية على غزة معتبرا ان المحكمة ليست ذات اختصاص، وان ليس هناك تكافؤ بين ما تفعله “اسرائيل “وما فعلته “حماس”.
وفي موقف مغاير للمواقف الدولية، الرسمية والشعبية، حتى في اميركا، رأى بايدن المترنح في حملته الانتخابية الرئاسية ان “اسرائيل “تريد ان تفعل ما بوسعها لحماية المدنيين الفلسطينيين وان ما يحدث في غزة ليس ابادة “ونحن نقف دائما مع اسرائيل”.
الضربة الثانية سياسية بامتياز، لكن توقيتها يعكس تبرما دوليا من “اسرائيل “واصرارها على سياستها العنصرية الرافضة حتى لوجود شعب فلسطيني. لقد بدأ العالم يدرك خطاه الاول. فتح الاجرام الاسرائيلي المعولم الملفات التي كانت مقفلة في الغرب وبدات الحقائق تتكشف. لم يعد الاعلام العالمي صنعة صهيونية مسيطرة. مفهوم القرية الكونية الذي أطلقه عالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان في ستينات القرن الماضي تجلى بوضوح. العالم كله بات يعرف اليوم ان “اسرائيل “دولة عنصرية تقوم على الفصل العنصري وأنها احلت شعبا غريبا محل شعب متجذر في أرضه منذ آلاف السنين، وان الغرب ارتكب خطيئة قاتلة بحق شعب مسالم تفوق بكثير ما يعتبره خطيئة ارتكبها النازيون الالمان بحق اليهود. ربما تحاول دول العالم اليوم التكفير عن عقدة ذنب معاكسة، عقدة ذنب تجاه الشعب الفلسطيني المكلوم.
الضربة الثالثة كانت أمر محكمة العدل الدولية ” لإسرائيل” بالوقف الفوري لعملياتها في رفح، وهو ما كان له رد فعل عنيف في “إسرائيل” التي ردت فورا بمهاجمة المحكمة مدعومة من حاميتها الاميركية.
الضربات الثلاث أصابت دولة العدو وقادتها العنصريين بهستيريا لفظية وعملية، فخرج نتنياهو واركان حربه بمن فيهم بني غانتس الذي كان حتى وقت قريب يناكف نتنياهو في طريقة ادارته للحرب على غزة التي يراها من دون أفق.
بالنار ردت “اسرائيل “على التوجهات السياسية والقضائية الدولية رافضة قبولها ومؤكدة مضيها في الحرب على جبهة غزة وعلى جبهة لبنان ” التي أصبحت خططها التفصيلية جاهزة” وتنتظر الاوامر فقط.
لكن ربما كان على “اسرائيل “ان تتروى بحسب محللين غربيين، فهي الآن عليها ان تواجه مسؤول السياسة الدولية والامن في الاتحاد الاوروبي جوزيبي بوريل ورئيس الوزراء الاسباني بيدرو سانشيز وقريبا المستشار الالماني اولاف شولتس الذي أعلن ان بلاده ستعتقل نتنياهو اذا صدر امر عن محكمة الجنايات.
صحيح ان قرارات المحاكم الدولية ليست سهلة التنفيذ وان الدول تتملص منها وان قرار محكمة العدل يحتاج الى مجلس الامن لفرض تنفيذه بالقوة، الا ان القوة المعنوية للقرارات الدولية فائقة الاهمية لأنها تعري “اسرائيل “وداعميها وتزيد من عزلتها الدولية أمام الحكومات والشعوب.