النازحون السوريون ودكتاتورية الديموغرافيا

النازحون السوريون ودكتاتورية الديموغرافيا

منذ تأسيسها دأبت الأحزاب اللبنانية الرجعية الانعزالية على تحويل أنظار اللبنانيين من الأخطار الوجودية الحقيقية التي تهدد حياتهم ومصيرهم إلى أخطار مزيفة وموهومة وإعطائها الأولوية على القضايا الحقيقية والمصيرية.
ويأتي اليوم موقفها من النزوح السوري وتصويره على أنه “خطر وجودي” لتحويل أنظار اللبنانيين من الحرب القومية الدائرة في الجنوب إلى الداخل اللبناني، فالخطر كل الخطر الذي يهدد اللبنانيين هو الوجود السوري وليس ما تقوم به إسرائيل من اعتداء على لبنان وتدمير قرى الجنوب، وقتل اهاليها.
وفي كل مرة تحصل حادثة بين لبنانيين وسوريين، وغالبا ما جرى مثلها بين لبنانيين ولبنانيين، يهب بعض اللبنانيين المتعصبين من أنصار هذه الأحزاب للمطالبة بترحيل السوريين وترتفع الأصوات: “السوريون تهديد وجودي”، “لا للعودة الطوعية لنطردهم بالقوة خارج الحدود”، ” لنرمهم في البحر للمغادرة إلى أوروبا” “لبنان جسر للعبور لا مكان للاستيطان” وغيره كثير كتصويرهم جيشا محتلا: “خرجوا ببزات الجيش وعادوا بثياب مدنية”…
الأسبوع الفائت وبدلا من ان تُنظم بكركي اجتماعا للتدارس في كيفية دعم لبنان في حربه المندلعة في الجنوب ضد عدوه القومي المهدد فعلا لوجوده ولوجود الأمة السورية بأكملها، إذ بها تنظم اجتماعا للتدارس في كيفية ترحيل السوريين. وجنوب لبنان لا يعني بكركي البتة.
وبعد كل حادثة بين لبنانيين وسوريين تبث الشاشات مشاهد مقززة لشباب لبنانيين من ذوي الثقافة الانعزالية والعنصرية يعتدون على سوريين لا علاقة لهم بالحادثة. هذا ما جرى مؤخرا في شوارع برج حمود من إذلال بالضرب والجر و”تدعيس” للرؤوس بالأحذية لسوريين آمنين ومسالمين مارين بالصدفة، كما تم طرد عائلات بأمها وأبيها وأطفالها من بيوتها، وكثير من ممارسات عنصرية وطائفية استئصالية، مما لا يقبله سوى العقل المريض.
وفي توصيفنا للنزوح السوري إلى لبنان، هو أنه نوع من هجرة داخلية، هجرة داخل الوطن الكبير الواحد: ألأمه السورية، فكما ينزح اليوم قسم كبير من اللبنانيين الجنوبيين بعامل الحرب بين لبنان وعدوه القومي إسرائيل إلى مناطق أكثر أمنا داخل وطنهم ، كذلك نزح بعض السوريين بعامل الحرب الداخلية التي اندلعت في سوريا عام 2011 إلى داخل وطنهم سورية ، نزحوا من وطنهم إلى وطنهم ، فوطن السوريين واللبنانيين هو الأمة السورية.
المقاربة القومية الاجتماعية، وما يتفرع عنها من سياسات هي وحدها الكفيلة بمعالجة أزمة الوجود السوري إلى لبنان. السوريون كما الفلسطينيون ليسوا غرباء، هم أبناء شعبنا ومواطنون من وطننا. ألمقاربات الأخرى المضادة هي حفلة انعزالية، عنصرية،
عبثا التفتيش عن حلول خارج مقاربة أننا شعب واحد في أمة واحدة وإلا سنصطدم بمنطق التاريخ والجغرافيا وواقع الاجتماع.
ومن الحلول المطروحة للنازحين، ضبط الحدود، ترسيمها ومراقبتها وإقامة حواجز عسكرية لمنع تدفق السوريين إلى لبنان بالقوة
وهذا لا يمكن أن يحصل، لأنه لا يوجد حدود بين لبنان وسوريا فكيف نرسّم ونراقب ما هو غير موجود.؟
بضعة حواجز من حديد وفواصل واهية من “تنك” ونصب يافطات مكتوب عليها الجمهورية اللبنانية لا تصنع حدودا. طول الحدود اللبنانية السورية المفترضة والوهمية التي أقامتها سايكس بيكو تبلغ حوالي 400كلم بينما طول لبنان بأكمله من النهر الشمالي الكبير إلى الناقورة يبلغ 220كلم. صف الجيش الصيني. لا يمكنه من فرض حدود. لا يمكن فك امتداد العمران وفصل اندماج الناس المتداخل، فالشعب واحد، القرى متداخلة، السهول والجبال متصلة، الكروم والمزارع متصلة، الثروة الحيوانية واحدة
ألواقع القومي والاجتماعي أقوى من أية حدود ومن أية سياسات، هذه هي المقاربة المنسية في أزمة النزوح السوري إلى لبنان.
ولاستقامة المقاربة لا بد من إعادة تركيب الأزمنة والأحداث.
عام النكبة الفلسطينية سنة48 وبعد مجازر اليهود وإعلان دولة إسرائيل، نزح الفلسطينيون إلى لبنان والأردن والشام، وتركزت الكثافة السكانية الديموغرافية النازحة في تلك البلدان
حفنة قليلة لا تُذكر قصدت مصر وغيرها.
ما كان بإمكان الديموغرافيا تجاوز المدى الحيوي والطبيعي للتفاعل الاجتماعي داخل دورة اجتماعية اقتصادية واحدة. نزحوا داخل أرض واحدة، داخل أمة واحدة، نزحوا من أرضهم إلى أرضهم، من أمتهم إلى أمتهم، فالأرض واحدة ولا يوجد حدود، الحدود مصطنعة ومفروضة فرضا من الأجانب.
السوريون وابتداء من عام نكبتهم 2011 بدأوا بالتدفق إلى لبنان والأردن و”ليس إلى تركيا” بل إلى الإسكندرون اللواء السليب المغتصب.. حفنة قليلة قصدت الداخل التركي.
النزوح الفلسطيني والنزوح السوري هجرتان قسريتان داخليتان لمجموعات سكانية من أمة واحدة، إنه انتقال من الداخل إلى الداخل لا من الداخل إلى الخارج.
يجب النظرة إلى الوجود السوري في لبنان بالمنظار القومي. لا بمنظار الرجعة والانعزال المسيحي – الإسلامي ونظرة فارس سعيد أشرف ريفي الانعزالي الجديد.
إن بناء المواقف على أساس “واحد قتل واحد” وواحد سرق أحد المتاجر، وواحد خطف جزدان سيدة من على دراجة، … بناء مقصر عن وعي شمول المسألة. وما أملى هذه النظرة السطحية السخيفة هو أنواع بدائية من الوعي وعصبيات مذهبية تسيطر على العقل والأعصاب، بعيدة عن الوعي القومي وشعورنا (نحن والسوريون) بوحدة مصالحنا، مصالح الجماعة الكبرى التي تكوّن الأمة السورية.
إن مقاربة النزوح السوري إلى لبنان ومعالجته بالنظرة الانعزالية إليه، على أنه وجود أجنبي غريب لن تجر على لبنان سوى الأذى والخراب
على لبنان ان يتجنب هذه المقاربة
يوم سادت المقاربة ذاتها ونُظر إلى الوجود الفلسطيني على أنه وجود أجنبي وغريب ورُفعت أفكار نجدها هي ذاتها اليوم، أفكار اضطهادية وعنصرية من طرد ورمي في البحر ووراء الحدود … نشبت الحرب اللبنانية.
حذاري من مقاربة النزوح ومعالجته خارج مفهوم أننا شعب واحد.