يحقّ للسّوريّين أن يفتخروا

يقول باحث الآثار الفرنسيّ وعالم المسماريّات الشّهير شارل فيرلو، «لكلّ إنسان وطنان، وطنه الأمّ وسورية.” وما دفع شارل فيرلو لإطلاق هذه العبارة هي معرفته بحضارة هذه البقعة الجغرافيّة المتميّزة بخصوبة أرضها وإنسانها المُصارع، العمليّ والطَّموح، الّذي كان سبّاقاً في اختراع الكتابة الأولى (الصوريّة ومن ثمّ المسماريّة) وإنشاء المدرسة الأولى وإطلاق الشّعاع الأوّل وممارسة الحياة الدّيمقراطيّة والإصلاح الاجتماعيّ وفي ابتداع أوّل برلمان وأوّل تقويم وأوّل نظام فلكيّ.

يحقّ للسّوريّين أينما كانوا أن يفتخروا ويعتزّوا بأمّتهم السّوريّة لما أعطته للعالم من إسهامات حضاريّة إنسانيّة رفيعة ولما يختزنه تاريخها الفكريّ الثّقافيّ الرّوحيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ من فنّ وعلم وطبّ ومنطِق وفلسفات وشرائع وملاحم وأساطير وعبقريّات وبطولات وإنجازات.

يحقّ للسّوريّين أينما كانوا أن يعتزّوا بأمّتهم السّوريّة الّتي علّمت الأمم قيمة القوّة البحريّة وكانت على مرّ الأزمنة والعصور، وما زالت، أمّة معطاء، خيّرة، ومسالِمة، أعطت العالم العطاءات ‏السّخيّة بدون حساب وفتحت له دروب الخير والتّعارف ‏والتّفاعل والسّلام.

سورية، أمّة العقل والتّمدّن، وزّعت من حضارتها وأبجديّتها ومعارفها ‏وقيمها وجازفت بأبنائها ليكونوا رسل محبّة وسلام وروّاد ‏علوم ومعرفة. جاءت بالرّسالات السّماويّة ‏والفلسفات الاجتماعيّة وإشعاعاتها الأولى: الشّرائع التّمدنيّة، ووزّعتها على ‏باقي الأمم لتكون منارات لها على دروب الفضيلة ‏والعدالة والسّلام.
من رحمها وُلدت المسيحيّة لتنسف ‏صنميّتهم ووثنيّتهم الخرافيّة ولتفجّر ينابيع المحبّة ‏والرّحمة والقيم الجديدة ومن أرجاءها انطلقت المحمّديّة ‏لتكمل رسالة الإسلام ولتحطّم ما تبقّى من أصنام ‏وأوثان.
وتاريخ سورية القوميّ السّياسيّ الثّقافيّ حافل بالأمجاد والاكتشافات، والمُنجزَات الحضاريّة وتأسيس المُدن والمُستعمرات. وما أكثر الآثار الّتي اكتُشِفت ‏في مناطق عديدة فيها (في أوغاريت وإيبلا ومارى وبيبلوس وغيرها من الأماكن الأثريّة في لبنان وقبرص ووادي الرّافدين) الّتي تُظهِر ‏إسهام أمّتنا في الفكر الحضاريّ لا بل أسبقيّتها على ‏العالم في استنباط المآثر الحضاريّة في كافّة شؤون ‏الحياة ونشرها وتعميمها إلى سائر أصقاع الدّنيا.

فقد شهدت بلادنا أقدم الحضارات وسبقت باقي الأمم ‏في ممارسة الدّيمقراطيّة والمساواة بين البشر وفي ‏وضع الشّرائع والقوانين في كافّة الأمور وتطبيقها ‏‏(قانون أورنمو عام 2110 ق.م. وقانون لبت عشتار ‏عام 1930 ق.م. وقانون ايشنونا عام 1850 ق.م. ‏وتشريع حمورابي عام 1780 ق.م.)، وفي ابتداع ‏العلوم والفنون وممارسة الطبّ والعمليّات الجراحيّة ‏ومسح الأراضي واستخدام المحراث وحفر الأقنية وجرّ المياه وتخزينها في ‏الآبار وإتقان الفنون الصّناعيّة والخزفيّة والزّجاجيّة وبناء القصور ‏والمعابد والحصون ونحت التّماثيل واعتماد الثّورة ‏وحروب التّحرير والسّعي الدّائم لتحقيق وحدة جماعات ‏البيئة الواحدة في دولة مركزيّة قويّة وإنشاء المدارس ‏والمعاهد التّعليميّة والمكتبات ووضع الفلسفات ‏الاجتماعيّة المتسلّحة بالأدلّة العقليّة وممارسة مراسم ‏وطقوس دينيّة تحمل في طيّاتها تفكيراً روحيّاً سامياً ‏ودعوة الى المحبّة والسّلام.

ويكفي أن نقول أنّ أجدادنا السّوريّين كانوا عمليّين وروّاداً في ‏العديد من مجالات الحياة. فهم اكتشفوا النّار والمعادن ‏ودجّنوا الحيوانات والنّباتات وابتكروا الزّراعة ‏واستصلحوا الأراضي واخترعوا الدّولاب والمحراث ‏والآلات وأنشأوا صناعات الفخّار والخزف والأسلحة ‏والغزل والنّسيج والأصبغة وبدأوا الكتابة الّتي طوّروها ‏من التّصوير إلى المسماريّة إلى اختراع الأحرف ‏الهجائيّة الّتي علّموها لليونان ومن ثمّ نشروها في ‏أوروبّا وبقية العالم وأقدموا على دراسة الأجرام ‏السّماويّة فوضعوا التّقاويم وأسهموا في تأسيس «علم ‏الفلك» وعرفوا التّجارة ومارسوها في البرّ وفي البحر ‏وأنشأوا العُملة والأوزان والمقاييس وكانوا السّبّاقين في ‏طرح مشكلات فلسفيّة حول أصل الوجود وفي عبادة ‏الإله الواحد «إيل» أو «بعل» أو أيّ إسم آخر نسبة الى ‏المنطقة الجغرافيّة ولهجتها.
وفي مراحل تاريخ أمّتنا تأسّست المدن – الدّول التّاريخيّة ‏كسومر وآكاد وبابل وماري وأشور ونينوى وآرام ‏وكنعان وإنطاكيه وغيرها من المدن المزدهرة والمشّعة ‏على من حولها، وبرز في أوساطها العديد من القوّاد ‏والحكماء والفلاسفة النّوابغ الّذين كانت لهم أهداف ‏أساسيّة وإسهامات كبيرة في تاريخ الحضارة الإنسانيّة. ‏ومن هؤلاء القوّاد والعظماء نذكر، على سبيل المثال لا ‏الحصر، سرجون الآكادي الكبير موحِّد بيئته الطّبيعيّة ‏لأوّل مرّة في التّاريخ والملك حمورابي العمّوري ‏‏(1792-1750 ق.م.) مؤسّس الدّولة المركزيّة ‏القويّة وجامع الشّرائع السّوريّة الأولى في العالم ‏وموحّدها في كتاب واحد. ونذكر أور نامو ملك أور وآشور الّذي امتاز ‏بعبقريّته العسكريّة ونبوخد نصّر الكلدانيّ الّذي نقل ‏زعماء اليهود إلى بابل في محاولة منه لصهر ‏جماعاتهم في البوتقة السّوريّة.
ومن المدن-الدّول الفينيقيّة المنتشرة على السّاحل ‏السّوريّ الممتدّ من فلسطين في الجنوب حتّى كيليكية ‏في الشّمال، من عكّا وحيفا ويافا وغزّة وبيسان وأريحا ‏وصور وصيدون وبيروت وجبيل وطرطوس وأرواد ‏وجبلة وأوغاريت والإسكندرون وغيرها من المدن ‏والقرى انطلق الكنعانيّون بسفنهم يمارسون حياتهم البحريّة ‏وينشرون ثقافتهم ومعارفهم ومستعمراتهم في البحر السّوريّ، ‏المعروف بالمتوسّط، لينتقلوا في ما بعد الى آخر آفاق ‏المعمورة يكتشفون مجاهيلها ويملؤن أجزاءها المعروفة ‏والمجهولة بأمجادهم وعظماتهم ومحطّاتهم ومدنهم ‏الجديدة لتكون قواعد انطلاق حضاريّ تُوزّع أنوارها ‏على العالم.

انطلقوا من صور وصيدون ليؤسّسوا محطّات تجاريّة في بلاد ‏مجهولة وبعيدة. أبحروا على طول السّاحل الشّرقيّ لأفريقيا ووصلوا إلى جزر الكناري وصقلية ومرسيليا وغيرها من الشّواطئ البعيدة لبريطانيا والنّرويج ومدن أوروبّا حاملين منتجاتهم وكنوزهم وصبغ اللّون الأرجواني. وأظهرت الإثباتات الأركيولوجية ‏أنّهم وصلوا إلى أستراليا وإلى أميركا الشّماليّة والوسطى والجنوبيّة ‏وكانوا المكتشفين الأوائل لهذه القارّة قبل كريستوف ‏كولومبس بقرون عديدة وقد تركوا فيها آثاراً واضحة ‏وكتابات مدهشة نجدها على صخرة دايتون في ‏الولايات المتّحدة الأميركانيّة وصخرة غافيا في ‏عاصمة البرازيل والصّخرة العظيمة الّتي تسمّى ‏بالحجرة المنحوتة في ولاية براهيبا البرازيليّة وعلى ‏الصّخور الواقعة على ضفاف نهر الأمازون والأنهر ‏المنصبّة فيه. كما نجدها في جبال الأندس وبطاح ‏الأرجنتين وفي لغة وعبادة قبائل التّسندال في ‏المكسيك.

وانطلقوا من صور بقيادة الأميرة الشّجاعة أليسا ‏‏(أليسار) إبنة الملك ميتينوس وبنوا قرطاجة عاصمة ‏المجد وملكة البحار، تلك المدينة – الدّولة الفينيقيّة الّتي ‏امتازت بالحيويّة والبراعة والإبداع والّتي حقّقت مرتبة ‏ممتازة من الرّقيّ والتّمدّن والإزدهار في جميع الحقول ‏مكّنتها من فرض سيطرتها على المستعمرات المغربيّة ‏ولعب دور حضاريّ في شمالي أفريقيا وجزر البحر ‏وإسبانية وبريطانية وغالية ومن إكتساب صداقات ‏الشّعوب وجعلهم حلفاء لها.

وفي عاصمة المجد ترعرع هاني بعل إبن هملقار ‏العظيم وأعظم نابغة حربيّ في كلّ العصور وكلّ ‏الأمم، هاني بعل الّذي أعلن الحرب على رومية واجتاز جبال الألب الشّاهقة ‏والمغمورة بالثّلوج لينقضّ على عدوّة قرطاجة الّتي ‏هالها ما رأته من براعة الفينيقيّن وانتشار حضارتهم ‏فطمعت بإحتلال ملكة البحار وبفرض سيطرتها على ‏بلاد حوض البحر المتوسّط. هذا القائد القرطاجيّ الّذي ‏رفض مصير الخنوع والعبوديّة واختار درب القتال ‏ليرفع إسم قرطاجة عاليا وتجسّدت في مواقفه الأصالة ‏السّوريّة وروح المواجهة والبطولة والصّراع.

ومن إحدى المدن على سواحل آسية الصّغرى انطلق ‏طاليس الفينيقيّ (أوّل فيلسوف في العالم ويعرف بأبو ‏الفلسفة) إلى جزر بحر إيجه ليبشّر بفكر فلسفيّ جديد ‏وليؤسّس أوّل مدرسة فلسفيّة في تاريخ الإنسان فيتلقّف ‏المجتمع اليونانيّ تعاليم هذه المدرسة «الأيونيّة» ‏وروائعها الإنسانيّة والأدبيّة والفنّيّة ليبدأ عهداً جديداً في ‏امتداد العلم الصّحيح والإفتراضات المنطقيّة. ومن ‏اكتويوم في قبرص الفينيقيّة، انطلق معلّم الحياة زينون ‏بن منسي السّوريّ لينشر مبادئ فلسفته الرّواقيّة ‏الإنسانيّة في أثينا وليعلّم الفضيلة المطلقة والمواطنة ‏الكونيّة. ولقد كان لفلسفته الأخلاقيّة الجديدة أثر كبير ‏ليس على الفكر اليونانيّ فحسب، بل على الفكر ‏الرّومانيّ والأوروبيّ من بعده.

وبالإضافة إلى الشّرائع البابليّة والعبقريّة الأشوريّة ‏والحضارة الفينيقيّة، أعطت سورية الثّقافة الآراميّة ‏الّتي حلّت لغتها الّتي تكلّم بها السّيّد المسيح محلّ اللّغة ‏الكنعانيّة وتغلّبت حتّى على اللّغة العبريّة لتتحوّل بعد ‏ذلك إلى لغة عالميّة ذات نفوذ وتأثير ثقافيّ كبيرين.

يحق للسّوريّين أينما كانوا أن يفتخروا بأصالتهم القوميّة وبأمّتهم العظيمة لما أعطته عبر العصور من أنبياء ورجال عظماء وقوّاد خالدين ومن أدباء ومفكّرين ومبدعين ظهروا في ‏تاريخنا الحديث وتركوا آثاراً قيّمة في الحضارة ‏والفكر والعلوم الإنسانيّة لا يمكن طمسها أو نسيانها. ‏ومن بين هؤلاء نذكر المفكر فرنسيس المراش الحلبيّ، ‏أحد روّاد الأدب الرّومانسيّ في القرن التّاسع عشر، ‏وعبد الرحمن الكواكبيّ، أحد روّاد الفكر السّياسيّ ‏الإصلاحيّ، والدّكتور خليل سعاده، رائد الفكر والأدب ‏والسّياسة والنّضال القوميّ في العقود الأولى من ‏القرن الماضي، والأديب جبران خليل جبران صاحب الرّوائع ‏الأدبيّة والفنّيّة الّذي ذاع صيته في العالم، والأديبة ‏الكبيرة ميّ زيادة والمعلّم بطرس البستاني والعبقريّ ‏كامل الصّبّاح الّذي امتاز بعقلٍ منتجٍ وروحيّة مبدعة ‏خلاّقة.
ويحقّ للسّوريّين أن يفتخروا بأروع ما أعطته سورية في تاريخها الحديث: رجلاً ‏عظيماً امتاز بعبقريته ونبوغه، رجلاً كانَ آية في المناقبِ الجديدةِ وكان فيلسوفاً وقائداً وهادياً، كرّس حياته لينقذ أمّته من ويلاتها ‏وأمراضها، فأسّس مدرسة فكريّة ووضع أسس نهضة ‏قوميّة اجتماعيّة جاءت بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ، ‏نظرة أهدت أدبائنا وشعرائنا ومدرسة تربّى فيها ‏المصارعون وتخرّج منها الأبطال والشّهداء والمبدعون ومشاعل نهضويّة في شتّى الحقول. هذا الرّجل العبقريّ المتفوّق في الفكر والعطاء والبطولة، الزّعيم الخالد، قال فيه الشّهيد ‏كمال جنبلاط: «إنّ سعاده هو رجل عقيدة ومؤسّس مدرسة فكريّة كبرى وباعث ‏نهضة في أنحاء الشّرق قد يندر لها مثيل”.
تاريخنا المجيد يثبت بأن لنا القدرة أن ننتج ونبدع وندرك ونخطط لمجتمعنا الخطط والقواعد التي يكون بها صلاحه وعزه… يجب أن نثق بأصالتنا ونفوسنا وبما يختزن في مجتمعنا من خير وجمال وإبداع. إن ثقتنا بنفوسنا هي شرط من شروط الإستقلال الحقيقي، الروحي والسياسي على السواء. فإن لم نستمد مثلنا العليا من نفسيتنا وإن لم تقو هذه النفسية وتنزه عن العوامل الخارجية وسيطرة النفسيات الغريبة، فإن سورية، يعلن سعاده، “تبقى فاقدة عنصر الإستقلال الحقيقي وفاقدة المثل العليا لحياتها.”