ترافق الأدب والحياة

ترافق الأدب والحياة

    الحياة الجديدة يكون فيها فهم جديد للوجود الإنساني، حيث تصبح علاقات الفرد والمجتمع ومُثلهما العليا موجودة بحسب النظرة الجديدة للحياة والكون والفن، فالأدب هو أفضل واسطة لنقل الفكر والشعور الصادرين عن هذه النظرة، حيث يستطيع الوصول بسهولة إلى العالم وسمعه وبصره، فيتحول إلى أدب قومي لأنه يرفع الأمة إلى مستوى هذه النظرة الجديدة، وبحمل ثروة نفسية في الفكر والشعور إلى باقي الأمم، وعليه فإن الأدب لا يمكن أن يصبح أدباً عالمياً إلا عبر هذه النظرة.

    إنّ الإتصال الوثيق بين الأدب الجديد والنظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن، هو الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى تجديد هذا الأدب، وإلا فإنه يصبح دون فائدة، لأنه يكون بعيداً عن القضايا الفكرية والإنسانية للأمة، فالأدب الذي له قيمة في حياة الأمة، هو الأدب الذي يُعنى بقضايا الفكر والشعور، فإذا نشأت هذه النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن، أوجدت فهماً جديداً للقضايا الإنسانية، كقضية الفرد والمجتمع، وقضية الحرية وقضية الواجب وقضية النظام وقضية القوة وقضية الحق، فيتجدد كل شيء قديم بحصول النظرة الجديدة إلى الحياة، فالحرية كانت تُفهم قبل هذه النظرة بشكل غير واضح، وبعد مجيء هذه النظرة ، والتي نشأت بسببها العقيدة القومية الاجتماعية، قرنت الحرية بالواجب والنظام والقوة، ونشأت قضية جديدة للحرية ذات عناصر جديدة يبينها فهم جديد يتناول أشكال الحياة كما تراها النهضة القومية الاجتماعية، وكذلك فإن الحب كان قضية شهوات جسدية ذات شكل مادي، فأصبح قضية جمال الحياة كلها، وإشتراك النفوس في هذا الجمال.

    إنّ قضية كون الوصال غاية المطالب العليا إندثرت لتأخذ مكانها قضية كون الحب إتحاد فكر وشعور، وإشتراك نفوس في فهم جمال الحياة وتحقيق مطالبها العليا.


    نشأت في سورية نظرة إلى الحياة والكون والفن أدّت إلى إيجاد مجرى حياة جديد لتيارات النفس السورية التي كانت مكبوتة ومحجوزة، وكان يمكن لأدباء سورية أن يساهموا في رفع الشعب السوري إلى مستوى النظرة الجديدة، لكن الأدباء الذين نشأوا قبل ظهور هذه النظرة، وظلوا بعيدين عن قضاياها وعن مجرى الحياة الجديد الذي نتج عنها، لم يستطيعوا أن ينتقلوا هم أنفسهم من حيّز نظرة إلى حيّز نظرة أخرى، ومن إتجاه مجرى إلى إتجاه مجرى آخر، ولعل النزعة الفردية لديهم هي سبب رئيسي لمنعهم من الأخذ بالنظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن.

    إن الإنتقال من عالم إلى عالم ومن نفسية إلى نفسية ومن نظرة إلى نظرة، يحتاج لإستعمال جميع القوى النفسية لرفس عالم النزعة الفردية والغايات المادية، وترك جعل حب إبراز الشهرة الفردية غاية أخيرة للفرد، والإنتقال إلى عالم يستقر فيه الفكر ويطمئن الشعور، يكون من خلال حقيقة الفرد والمجتمع، وحقيقة النفسية السامية التي إنتصرت على قيود المادية، من أجل خذل الأقبح والأذل، ورفع الأجمل والأسمى، فلا تكون إختلاجات حب إلا ضمن دائرة هذا الوعي الذي يرفع قيمة الإنسانية درجات فوق القناعة براحة النزعة البيولوجية ذات الارتباط المادي، الغافلة عن المطالب النفسية الجميلة في نظرة شاملة الحياة والكون والفن.

    إنّ طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى، هي السبيل الوحيد للنهوض بالحياة والأدب، ولا فرق أن تكون هذه الحقيقة من إبتكار أي شخص، وأن يكون انبثاقها من فرد هو واحد من الناس، لأن الغرض يجب أن يكون الحقيقة الأساسية المذكورة، وليس الاتجاه السلبي الذي تقرره الرغائب الفردية، الخصوصية الاستبدادية.
 

    إنّ إتصال الأديب بالحياة بنظرة جديدة ستودي به إلى حقيقة أساسية صالحة لإنشاء عالم جديد من الفكر والشعور، هو عالم فوق العوالم الماضية ودرجة الإرتقاء النفسي للإنسانية، وبالتالي فهو عالم خالد، لأن ما سيأتي بعده سيصدر عنه ويثبت نفسه عليه.

بقلم محمد جميل عليان.