الواجب القومي

“الواجب” هو فعل إلزامي أخلاقي يقوم به المرء انطلاقًا من قوة آمرة كامنة في أعماق نفسه تأمره بفعل الواجب وتحذّره من المخالفة، وهذه القوة الآمرة الناهية هي، كما يسميها الفيلسوف جان جاك روسو، “واعز الضمير” أو “صوت الوجدان” الأخلاقي الذي لا يخفت، وهو نتيجة الوعي الفردي أو القوة العقلية. والمرء ينتابه شعور بالفرح والغبطة والارتياح عندما يؤدي واجبه، ويمتلكه الأسف والندم إذا عصى أمر الضمير. وكلما ارتقى الإنسان، ارتقى وجدانه الذي قد يدفعه إلى بذل نفسه دفاعًا عن معتقده أو في سبيل وطنه، وهنا يمكننا أن نتحدث عن الواجب الاجتماعي الناتج عن الوعي الاجتماعي أو الوعي الجمعي والذي يعتبر قيمة مناقبية عليا ومظهر راق من مظاهر التمدن عند كل الأمم.
والواجب، لكي يتجسّد فعلاً، تلزمه إرادة قوية تحقق أوامر الضمير. فالإرادة هي القوة الفاعلة التي تذلل العقبات وتدفع بالمرء للقيام بواجبه، وبدونها تبقى أوامر الضمير أحلامًا وأمانٍ لا قيمة لها. وهنا لا بد من الاستشهاد بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804) الذي يُعرِّف الواجب بقوله: “إنه ضرورة أداء الفعل احترامًا للقانون”، ويعتبر كانط أن قيمة الواجب لا تتوقف على المنافع والنتائج التي يحققها أو الغايات التي يسعى إليها، فهو منزّه عن أي غرض، أو تحقيق منفعة أو كسب مادي، أو بلوغ السعادة. بمعنى آخر، أن الباعث على فعل الواجب، الذي يقوم على احترام القانون الأخلاقي، لا يكمن قطّ في الرغبة في تحقيق غاية خيّرة أو نتيجة سارّة، أو الخوف من الضرر، بل الباعث لديه يقوم في الإرادة الطيبة الخيّرة في ذاتها، لا بعواقبها، والتي تستمد خيريّتها من باطن ذاتها ومن صميم نيتها الطيبة.
والإنسان بكونه كائنًا اجتماعيًأ، يتمتع بحقوق وتترتب عليه واجبات، أولاً، نحو نفسه – فهو مكلّف أن يهتم بجسمه وعقله وخلقه وأن يبلغ بها ما يستطيع من كمال. وثانيًا، نحو أسرته – يهتم بسعادتها ونظامها وحسن العلاقة بين أفرادها. وثالثًا، نحو وطنه الذي تربى في جوه وبين أبناء قومه – فواجبه خدمة وطنه والدفاع عنه والاهتمام بخير المجتمع كما يود الخير لنفسه. ورابعًا، نحو الإنسانية عامة – يتمنى الخير للناس جميعًا ويعتبرهم أخوة له في الإنسانية ويساهم بترقية البشرية وتحقيق السلام فيها. فكما يعمل لخيره وخير عائلته كذلك يعمل لخير وطنه وخير الإنسانية.
الفلاسفة الرواقيون
الحديث عن الضمير والواجب يذكرنا بالفلاسفة الرواقيين الذين آمنوا بمبدأ الإخلاص للواجب الذي اعتبروه أمرًأ مقدّسًا وطاعة للإله وإرضاء للضمير وفعلًا وجوديًا وأخلاقيًا. ويُعتبر الواجب من المفاهيم الجوهرية في الفكر الرواقي ويفيد الالتزام الأخلاقي للإنسان في أداء واجبه الشخصي والمجتمعي، لأن هذا الالتزام هو هدف الحياة الإنسانية وتحقيقه هو تحقيق لوجود الإنسان وحريته وانتصار لإرادته. و”الرواقيون هم أول من أبرز وعمّم فكرة أن الإنسان عليه واجب يحيا من أجله.” وقد اعتبر أنطون سعاده أن زينون كان سبّاقًا في الإعلان عن مبدأ الواجب وفي التدليل على أهمية مبدأ الإرادة في حياة الإنسان والشعوب. فهو، كما يقول، “أول من أدخل كلمة الواجب إلى الفكر الإغريقي.” ورأى الإمبراطور الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس، الذي كان من أبرز وأنبل أباطرة الإمبراطورية الرومانية، أن أداء الواجب “أهم من الحفاظ على الحياة لأن الحياة بلا واجب لا قيمة لها عنده..” وأوصى بأن يتعامل جميع الناس مع بعضهم كأخوان.. فإن واجبهم التعاون والوئام والإتحاد “في سبيل العمل الشامل والخير العام.” وبرأيه، “أن نهضة المجتمع وتقدمه تتحقق إذا قام كل فرد في المجتمع بواجبه، وتآزر وتعاون الجميع.”
أنطون سعاده والواجب الأخلاقي
شدّدَ أنطون سعاده على مبدأ الواجب الأخلاقي واعتبره قيمة عليا ودعامة أساسية في بنيان الدولة القومية الاجتماعية، مؤكِّدًا في خطابه المنهاجي أننا: “غدونا دولة تقوم على أربع دعائم: الحرية، الواجب، النظام، القوة، التي ترمز إليها أربعة أطراف الزوبعة… وفي خطابه في اللاذقية عام 1948، قال: “نحن لم نتلكّأ عن واجب لأنّ الواجب مبدأ أساسي من مبادئنا الأخلاقية.”
وفي كثير من المناسبات تحدث سعاده عن أهمية الواجب وضرورة فهم معناه وتتميمه، واعتبر أن الرجولة الفاهمة الواجبَ هي من أبرز الصفات الشخصية. كما شدَّدَ على ضرورة الاستعداد للقيام بالواجب والتضحية في سبيل نصرة المثال الأعلى، معتبرًا أن “كلّ فرد في الحزب السوري القومي… هو مقيّد بما يفرضه القانون والنظام والواجب المناقبي والإداري ليكون جميع القوميين روحية واحدة وإرادة واحدة.” وفي رسالة وجهها إلى مدير مديرية خوخوي، تحدث سعاده عن الشعور بالواجب مذكّرًا المنتمين إلى “نهضة روحية مناقبية” بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم “في سبيل [تحقيق] الروحية المثالية التي نشعر ونؤمن بأنّها يجب أن تسيطر على جميع أعمالنا وأفكارنا، وأن تنتزع من صدورنا قلوبنا الفاسدة، وتضع لنا في مكانها قلوبًا جديدة تخفق بالإيمان والثقة والمحبة وفعل الواجب والتضحية.” أما في رسالته إلى وليم بحليس المؤرخة في 10/03/1941 فيمتدح سعاده بحليس لسلوكيته المتفوقة ولشعوره الصحيح بمعنى الواجب، إذ يقول:
“إنّ سلوكك لم يكن أقل مما توقعت منك، فقد كنت موقنًا بسمو نظرتك الجديدة إلى الحياة، وبشعورك الصحيح بمعنى الواجب، وبصبرك على التضحية في سبيل نصرة مثال أعلى لأمة بأسرها. كنت واثقًا من أنك تعرف كيف تتألم وتعمل، وكيف تكون في تألمك وعملك قدوة السلوكية الجديدة للكثير من أبناء أمتنا، لم تخِب ثقتي بك.”
قدسية الواجب القومي
ولمبدأ الواجب قدسية عند سعاده، تمامًا كما هو عند زينون والرواقيين. ففي رسالته التاسعة لإدفيك جريديني المؤرخة في 10/12/1934، يقول: “أليس شريفًا ونبيلًا أن يسافر الإنسان في سبيل الحب وأن يفعل كل شيء في سبيل الحب إلاّ إهمال الواجب القومي الأول؟ ” لقد تخلى سعاده عن حبه لإدفيك كي لا يهمل واجبه القومي تجاه سورية التي كانت محور حياته. فكتب لها بتاريخ 05 شباط 1938 قائلاً:
كلنا يجب أن نكون سورية، لأنه قد جاء الوقت الذي إذا فات ولم نفعل شيئًا في سبيل حريتنا فإننا ساقطون في عبودية شديدة طويلة. يجب أن نصبح أمة حرة لكي يصبح الحب السوري حبّ احرار لا حبَّ عبيد، والحرُّ لا يمكنه أن ينعم بحبه في العبودية.
في كل المناسبات، في كلماته وكتاباته، تجد سعاده مشدّدًا على أهمية الالتزام بالواجب القومي ومنبهًا أبناء شعبه، خاصة الشبيبة والطلبة والمدرّسين والمثقفين، إلى صوت الواجب، ومناديًا النفوس النبيلة الشريفة لتتقدم إلى الأمام ليرى العالم وجه سورية الحقيقي النبيل. فقبل تأسيس حزبه، كتب في “الجريدة” عام 1921 مقالًا بعنوان “آمال الوطن” ناشد فيه أبناء قومه المهاجرين، بحكم الواجب الوطني، بضرورة مساعدة شعبهم في الوطن الذي “يقاسي الذل والفقر والإهانة من الأوصياء الاستعماريين” وينتظر معونة إخوانه في المهجر. وفي عام 1925، نشر في “المجلة” مقالًا بعنوان “سورية تجاه بلفور”، توجه فيه إلى الشبيبة السورية وناشدها بضرورة العمل لإنقاذ وطنها:
إننا نوجه كلامنا هنا إلى الشبيبة السورية خصوصًا، فإن المسؤولية الملقاة على عاتقها مسؤولية كبرى ويُنتظر منها أن تقوم بواجبها نحو وطنها بكل أمانة وإخلاص غير مصغية إلى أقوال فلاسفة الكسل والخمول أو إلى أقوال المضلِّلين والمرجفين.
وفي عام 1938، وجّه سعادة نداءً إلى السوريين المهاجرين حثّهم فيه للمشاركة في جهود العمل القومي العظيم من أجل حياة الأمة السورية وشرف السوريين. وقال:
لا تقولوا: ما لنا ولما يحدث في الوطن الذي هجرناه، فأنتم سوريون وشرفكم مقيد بشرف سورية!
لا تقولوا: قد أصبحنا بين أمم حرة فلننس عبودية الأمة التي خرجنا منها. فأنتم بين الأمم الحرة كالحلميات تمتص من حيويات غيرها. فإذا لم تكونوا أنتم أحرارًا من أمة حرة فحريات الأمم عار عليكم! تذكروا، أيها السوريون عبر الحدود، أنّ حرية الأمم التي تقيمون بينها لم تأتِ عفوًا بل كانت نتيجة حروب سفكت فيها دماء كثيرة. فهي حرية قد قدستها التضحيات العظيمة، التي تضع عليكم واجبات أعظم! إنّ الواجب يدعوكم إلى الاشتراك في هذا الصراع العنيف بين النهضة القومية وعوامل الرجعة، إنّ سورية تدعوكم لتبرهنوا عن معدنكم، ففي أي الصفوف ستقفون؟
الانتماء إلى الحزب
في القسم الذي يتليه المنتمي إلى الحزب، بعد اقتناع وإيمان بالعقيدة القومية الاجتماعية، يعلن: “أنا… أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أنني أنتمي إلى الحزب السوري القومي بكل إخلاص وكل عزيمة صادقة وأن أتخذ مبادئه القومية إيمانًا لي ولعائلتي وشعارًا لبيتي… وأن أفعل واجباتي نحو الحزب بالضبط..” وبهذا الانتماء الإرادي، اليقيني، يبدأ القومي الاجتماعي حياة جديدة عاملًا بالإيمان القومي، واعيًا واجباته القومية وملتزمًا بقوانين حزبه ونظامه، ومشاركًا بدون تردد بنشاطاته ومهامّه. إن ما يدفع القومي الاجتماعي للقيام بواجبه القومي هو شعور جديد يتولّد في نفسه الخيّرة، يمكن تسميته بالضمير القومي، أو بالوجدان القومي، الذي يتطلب من العضو “أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه.” يقول سعاده: “نحن نؤمن بنفوسنا قبل كل شيء، بحقيقتنا الجميلة الخيرة القوية والمحبة.” هذه الحقيقة الجميلة تتجسّد قولًا وفعلًا بالوجدان القومي الذي يَشِّعُ في تفكير القومي الاجتماعي فيدفعه للاهتمام بمصلحة الأمة وخيرها وللتعبير عن حقها ومطامحها.
التضحية في سبيل الواجب
وبدافع الوعي والوجدان القوميين وبعامل الإرادة الخيّرة الحرّة، ينذر القوميون الاجتماعيون نفوسهم للقضية القومية التي تساوي وجودهم ويلبون نداء الواجب القومي في مقاومة الاحتلال الأجنبي والصهيوني وفي الدفاع عن وطنهم حين يتعرض للأخطار. هكذا فعلوا في مشاركتهم في معارك التحرير والاستقلال وفي تصدّيهم للعدو الغاصب ولقوى الظلام والشر والإرهاب ولكل المتآمرين الذين أرادوا سوءاً بأرضنا وشعبنا في فلسطين ولبنان والشام. وهكذا تصرفوا في جهادهم المتواصل وفي مواجهتهم لحملات الاضطهاد والتنكيل من قبل قوى الطائفية والرجعية والظلم والطغيان.
لقد ارتقى مئات الشهداء من القوميين الاجتماعيين الذين لبّوا نداء الواجب القومي دفاعًا عن الأرض وعن شرف الأمة وسيادتها وبقائها. أمثلة كثيرة عن عطاءاتهم وتلبيتهم نجدها في الأجساد المتفجرة وفي قوافل الشهداء الأبطال الذين رفضوا الخنوع والقعود والاستسلام واندفعوا إلى ممارسة البطولة المؤمنة ليس طمعًا بمغنم شخصي او رغبة في جنة أو فردوس، بل بدافع الوجدان القومي الذي زرع في نفوسهم حب المجتمع والأرض وحب الحرية والحياة الشريفة، والذي علّمهم أن “الحياة كلها وقفة عز فقط ” وان الدماء التي تجري في عروقهم هي ملك الأمة متى طلبتها وجدتها.
فعل الوجدان القومي
هذا هو فعل الوجدان القومي الذي زرعته تعاليم أنطون سعاده في نفوس القوميين الاجتماعيين.. هذا هو فعل أنطون سعاده الذي لم يكن منظّرًا، بل معلمًا بالقدوة وهو الذي شعر بالواجب يدعوه للإعلان عن الحقيقة الأساسية التي وصل إليها تفكيره ودرسه، وصرَّحَ بأنه لو لم يكن هو نفسه، لأحب أن يكون “جنديًا قد دعاه الواجب القومي والحب الوطني إلى الزحف مع غابات الأسنة البارقة تحت أشعة الغزالة تتقدمها الرايات والألوية!”
وسط الأخطار الخارجية والداخلية المحدقة بالأمة وكل العوامل والظروف العاملة على قتل حيويتها وطمس هويتها والقضاء على حقوقها، يعلو صوت الواجب القومي ويدعونا جميعًا للاشتراك في المجهود القومي في معارك المصير. والحق نقول، لا إنقاذ للأمة، لحياتها وارتقائها، إلا بمبادئ أنطون سعاده ونظامه الجديد. فهل نعي مسؤولياتنا؟ هل تستيقظ ضمائر المتآمرين والقّوالين والثرثارين والمتخاذلين وأصحاب النزعات الفردية والمصالح الخصوصية؟ وكما يقول المعلم: “هل يستيقظ وجدان الغافلين ويقلع أصحاب الغوايات عن النكايات والمماحكات الشخصية، ويحوّلون قواهم للقيام بمجهود قومي واحد تذوب فيه العنعنات والعنجهيات ولا يبقِ إلا الإرادة الاجتماعية، أن نحيا وندافع عن وطننا وحقنا؟
تلبية الواجب القومي
الالتزام بالقضية القومية والدفاع عن الوطن واجب قومي. إن المرحلة لا تحتمل التقاعس ولا التراخي في تلبية الواجب القومي وتستوجب بذل الجهود وتضافرها. الزمن صعب ولكن، كما يقول سعاده: “إنه لا يزال في إمكاننا أن نعدّل مجرى الأمور لمصلحة أمتنا وحياتها ومستقبلها. والخطة لذلك مرسومة ولكن ينقصنا شيء جوهري هو: أن نلبي الواجب دائماً ونخضع للنظام دائماً، هو أن نسحق محبة ذواتنا ونحيي محبة جنسنا وطننا.”