أين العالم في غايته اليوم : الإنسان الفرد أم المجتمع الإنساني؟

   ماذا يريد العالم من التطور العلمي الهائل ولا سيما في التكنولوجيا،وإلى أين يوصله ؟ ناطحات سحاب وطائرات عامة وخاصة، وسيارات متطورة، ووسائل نقل حديثة تلبّي حاجات العالم، وأبنية حديثة ومرفهةبأساساتها وجميع وسائل الراحة مؤمنة.

   وماذا يريد العالم الحاكم بعد؟ ماذا تريد الطبقة العالمية المتحكمة بالمسارات؟ هل تتنازع الأمم من أجل بقائها؟ أعتقد أن الأمم لا تمر بحروب تنازع البقاء، على الأقل مع إنطلاق القرن الحالي، نحن نمر بحروب جشع الطبقة الحاكمة في العالم الأول، فالتنافس على السيطرة ليس مرده الصراع على بقاء العنصر البشري، أو بقاء العناصر البشرية المتجمعة في شكل أمم، بل هو يأتي من خلفية جشع وتنافس بعض الجماعاتالصغيرة في تعدادها، القوية في إستحكامها بالسيطرة على موارد ومقدرات الإنسانية جمعاء.

   شخصيات الأمم سارت في طريق الإضمحلال والذوبان في شخصيات الشركات القائدة والرائدة والمتحكمة، ويبقى السؤال: وماذا بعد حصول التخمة ؟؟

   ثقافة أن الإنسان الفرد هو الغاية الإنسانية الكبرى، هي إفتراق حقيقي، بين النظرية وسياقاتها البراقة من جهة، وبين نتائجها التطبيقية ونماذجها التي لم تترك سوى شرورها على الإنسان والإنسانية، من جهة أخرى نعني بالسياقات البراقة العناوين والشعارات المبذورة في ساحات الحراكات الثقافية العالمية، حق الانسان الفرد في أن يكون حراً  في معتقده وفي تعبيره وقادراً على الحصول على غذائه وعلمه وعلى طبابته، ومؤمّناً على شيخوخته في رعاية صحية وغذائية وترفيهية.

   هذه السياقات البراقة وجدت تطبيقات لها في بعض الدول المسماة عالم أوّل، مثل الولايات المتحدة الأميركية،  ودول أوروبا الغربية، إلا أن الحقيقة ليست فيما هو معلن من مجرّد ثقافي، بأن الإنسان الفرد هو الغاية الإنسانية الكبرى، لأن الواقع يقول أن هذه الدول تعمل وفق نظرية أن المجتمع يقوم في تحقيق  مصلحته العامة على التطبيق النظري والعملي بأن المجتمع هو الغاية، وأن الإنسان الفرد في ظل القانون العام وسيادة العدالة تتاح له الفرص للثبات والتقدم في معترك الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

   في المجتمعات الأخرى، غير مجتمعات العالم الأول، سادت الأفكار مثل أن المجتمع هو الغاية الإنسانية الكبرى وليس الفرد، وكانت هذه الأفكار مرتكزات نضالية لم تستخدم يوماً في إتجاه تثبيت مفاهيمها على أرض الواقع، لتصبح قيمها قيم معاشة ومحسوسة، تطال جميع الأفراد ضمن المجتمع الواحد فيسود ما يدعى الوجدان المجتمعي أو القومي بين جميع  أبناء هذا المجتمع، إنما كانت وسيلة إستخدمتها الطبقات الحاكمة الاوتوقراطية، وبأنظمتها الشمولية وبحكامها الديكتاتوريين، لفرض الطاعة العامة باعتبار أن الفرد لا شيء والمجتمع هو كل شيء، فصار “الإنسان الفرد غاية للإنسانية “مطبق في المجتمعات المتخلفة التي تسودها الأفكار المناقضة، “والمجتمع هو غاية الإنسانية ” تطبق في المجتمعات القائلة بأن الفرد هو غاية الإجتماع الإنساني.

   في ظل هذا التناقض الكبير والإنفصام الفكري والعملي في العالم ،إتجه نظر الإنسان في بلدان العوالم المتحضرة  إلى النعيم الذي يعيشه الإنسان الفرد في بلدان العالم المتحضر، واختلطت عليه سلامة الفكرة  بسيئات إستخدامها كأفيون تخديري.

   لم يتطرق الغرب المتحضر إلى خفوت وإنسلال الروح لدرجة الغياب من شريعته وقوانينه ونظرياته، وذلك عندما أطلق العنان للأفراد في سعيهم للكسب المادي، طالما أن تسديد الضريبة على الدخل حاصل ومنجز، هذا التحفيز  للأفراد أدّى إلى تطور علمي هائل، تناول مروحة واسعة من المعارف، ورافق هذا التطور المادي غرق في إتجاهات فرضها بضعة أفراد على سياق الحياة الاجتماعية لمجتمعات العالم الأول.

   لم تكن قوانين هذه الدول المرتكزة على ثقافة مصلحة الفرد موصلة لاقتصادات إنتاجية متوازنة في مثلث الزراعة والصناعة والتجارة، إنما أوصلت إلى سيادة أنماط محددة، تلعب فيها  التكنولوجيا الرقمية دورها السيّد، ساد في البداية (ولايزال عاملاً ) اقتصاد البورصات، أو ما يُسمى نظام المقامرة العالمي، ثم واكبه اقتصاد مواقع التواصل الإفتراضي  وتجارة الأونلاين، بموازاة اقتصاد الأوبئة وعائلته من دواء ولقاح واستشفاء، ومعتادين عليه من تجارة رديفة متعلقة به، ولا يزال يرافق كل الاقتصادات السابقة اقتصاد السلاح إستخداماً وتسابقاً.

   كل الأنواع المذكورة من الاقتصادات الفاعلة في يومنا، أدت إلى طفرات مادية هائلة، إنما بأيدي أفراد قلائل توازي إمكانياتهم اقتصادات وميزانيات عشرات دول مجتمعة، وتجسد صورة إسمها اقتصاد المال للمال، لا المال للإنسان ولا المال للمجتمع الانساني، هي اقتصادات بمجموعها تنفي عنها الاقتصاد الزراعي الإنتاجي (وليس الصناعة الزراعية ) الذي يؤسس لدورة حياة سليمة، فيها ثبات إنساني اجتماعي، وما ينتج عنه من إستقرار مادي – نفسي للأفراد والجماعات بما يضمن من وفرة في الإنتاج تؤمن على حياة الوفرة في الزيادة السكانية.

   بين كل ما سبق، أين تكمن الحقيقة المطمئنة؟ وأين نجد وضوحاً ينسل من بين غشاوة فيحميها؟ 

   من بين الفكرتين الأوليتين المتناقضتين، تغلب فكرة أن المجتمع هو  غاية الاجتماع الإنساني، لماذا؟ لأن السيرورة الطبيعية للحياة على كوكبنا تتجه بمسار طبيعي بدأ بأن الإنسان هو كائن اجتماعي، فكانت العائلة من حيث هي، النتاج التزاوج الأولي، بلورة لهذا الاجتماع الإنساني، ثم تقدمت نحو الجماعة بتجمع هذه العائلات لتشكل مجتمعاً متوسعاً وهذا تطور نحو المجتمع “الأتم”، متى تكونت شخصية للجماعة، يعرّف عنها بشكلها،بلغتها، بثقافتها وبنفسيتها.

   إذاً الوجود الأمثل للفرد هو ضمن جماعته، والوجود الأمثل للجماعة هو ضمن بيئتها، وديمومة وإستمرار هذين الوجودين بتطلبان قانون وعدالة،يحفظان للإنسان الفرد حقه الطبيعي في الحياة، تعبيراً واعتقاداً وعملاًوتقدماً، وتسمح له بإطلاق كل إمكانياته التي تتضافر مع إمكانيات الآخرين في تحقيق النهوض العام في المجتمع.

   إن اقتصاد الإنتاج هو الاقتصاد الوحيد الذي يؤمن للأمم استقراراً لها، وللعالم طمأنينته ويبعد شبح الكآبة وسيطرة الإنطوائية الناتجين عن تلك النظرة المادية، البحت في صياغة فلسفة المجتمع وقوانينه، ويطلق العنان لسيادة العلاقات الإنسانية الاجتماعية الخلاقة عوض النزوع إلى التوحد تحت عنوان الحرية الفردية.

شوقي يونس

2022/11/5