ترنيمة غزة في فكر الزعيم أنطون سعادة

ترنيمة غزة في فكر الزعيم أنطون سعادة

في زمننا الحالي، يظهر التوجه القومي للشعوب كمقاومة قوية ضد الاستعمار والديكتاتورية، وذلك من خلال تضامنها مع القضايا الوطنية والدفاع عن الهوية والسيادة الوطنية، بالتالي، تعكس هذه المقدمة الروح الثائرة للشعوب الساعية لتحقيق العدالة والحرية، والتي تبرز بوضوح في مواجهة فكر الاستعمار والمشاريع القمعية، إن محاربة فكر ومشروع الزعيم أنطون السعادة تجسد جزءاً من هذا التوجه القومي، حيث كان يسعى إلى تحقيق الوحدة العربية والتحرر من الاستعمار والقمع، حيث يظهر اليوم بوضوح في مأساة غزة كيف تفشل الأنظمة الوظيفية المرتهنة للقرار الغربي في الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني، وبدلاً من ذلك، تفضح تلك الأنظمة لنفسها كمتواطئة في المعاناة الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان.

هذا التوجه القومي يشكل تحدياً للأنظمة القمعية والديكتاتورية التي تسعى للحفاظ على السلطة والهيمنة على حساب حرية وكرامة الشعوب، وبالتالي، يتطلب الوقوف في وجه هذه الأنظمة التضامن الوطني والتمسك بالقيم الوطنية والتاريخية، والسعي نحو بناء مجتمعات مدنية تقوم على العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، وللتوضيح أكثر وربما لرؤيتي التي ربطت الأمس باليوم، فهذه الأحداث أعادت بي الذاكرة إلى قراءاتي الكثيرة عن محاكمة الزعيم أنطون سعادة، صاحب المشروع الحي الذي عاش رغم أن كثر أرادوا وأده ولم يكونوا ليتوقعوا أن مشروعه سيحيى وأن الحياة وقفة عز، اليوم نفس أولئك الذين حاولوا قتل مشروع الزعيم سعادة، يريدون قتل المقاومة وتجريد كل المشاريع المقاومة من هويتها، بدءاً من تجريد المقاومة الفلسطينية من هذا الحق، لكن لم يعرفوا ولن يعرفوا أن المقاومة ثقافة عابرة للأجيال، فإن ماتت، ستموت القضية الفلسطينية، ولكن محال أن تموت هذه القضية مادام نفس المقاومة موجود، بالتالي، لم أجد مقاربة توضح ما أعنيه سوى الكتابة عن مشروع الزعيم فكراً وقضية وقومية ووقفة عز، علّ المرتهنين يستيقظون من سباتهم، ويروا بأن الأمة العربية هي أمة واحدة كما كان يرى الزعيم سعادة في هوية الأمة السورية، قليلٌ من الإرادة سننجح، فإن لم يريدوا ذلك، ستبقى المقاومة بفكرها ووعيها على طريق فلسطين حتى النصر أو الشهادة دون استسلام أو رضوخ.

ولد الزعيم أنطون سعادة في بلدة ضهور الشوير بجبل لبنان في أول مارس/ آذار 1904، تنقلت عائلته بين لبنان والولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل، حيث كان والده الدكتور خليل سعادة يعمل، خلال هذه الفترة، بدأت اتجاهاته السياسية تتشكل، وهو ما أثر على مساره السياسي لاحقاً، ثم عاد إلى لبنان حيث أسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي استندت عقيدته السياسية والاجتماعية على فكرة وجود دولة معينة تحمل اسم “سوريا الكبرى”.

ما أشبه الأمس باليوم

المحاكمة والإعدام لأنطون سعادة في عام 1949 لم يكن لهما نظير في لبنان، بل كانا أكثر إثارة للجدل في العالم ككل، هذه الواقعة كانت مأساوية بشكل كبير، اتسمت بأنها كانت أقصر محاكمة وأكثرها سرية لمسؤول سياسي على الإطلاق، حكم عليه بتهمة الخيانة والتحريض على الفتنة، استناداً إلى أدلة زائفة وسوء تطبيق مُقصَد للقانون، لقد كانت محاولة صريحة للتأكيد على العقاب والاتهام، وهي صورة أقرب إلى الأيام المظلمة في التاريخ البشري، بعيداً عن الحضارة المفترضة في القرن العشرين.

تاريخ محاكمة وإعدام أنطون سعادة (1949)، وهو الحدث الأكثر تكتماً وقصراً وغموضاً في تاريخ لبنان المستقل، لم تكن أهمية هذا الحدث محصورة في سرعة إجراءاته فحسب، التي شهدت انتهاكاً صارخاً للقيم الأخلاقية والقانونية، بل كانت آثاره تمتد إلى الساحة السياسية اللبنانية والعربية بأسرها، على الرغم من أن هذا الحدث كان ضمن نمط الأحداث المشابهة في التاريخ، إلا أنه كان غير عادي تماماً في نواحي أخرى مهمة:

أولاً، بخلاف المحاكمات السابقة واللاحقة في لبنان والعالم العربي، تحدت محاكمة سعادة المنطق الإنساني والمعايير القانونية التي تحكم الإجراءات في ظروف مشابهة؛

ثانياً، على الرغم من طابعها السياسي واعتبارها إجراءً سياسياً مسبقاً، إلا أن الحكومة اللبنانية رفضت تصنيفها كحدث سياسي، واختارت تنظيم محاكمة رسمية في قاعة المحكمة، مع تأكيد الشرعية وفقاً للقانون الجنائي، لتسهيل استخدام عقوبة الإعدام. بالتالي، فإن هذا الحدث يبين كيف تعاملت الحكومة اللبنانية آنذاك، مع قضية سياسية من خلال الإجراءات القانونية العادية.

في المحاكمة المؤرخة على ورق المجد والغار أنه في الساعة العاشرة تماماً، في ليلة 6 يوليو/ تموز 1949، دخل الزعيم أنطون سعادة إلى القصر الرئاسي في دمشق لعقد اجتماع محدد مسبقاً مع الرئيس السوري حسني الزعيم، كان وحيداً، بدون حراس شخصيين أو مساعدين، وكان إبراهيم الحسيني، رئيس الأمن العام السوري، هو الوحيد الذي كان معه، فور دخول الزعيم سعادة إلى البهو الرئيسي، تحرك اثنا عشر حارساً مسلحاً لتشكيل دائرة نصفية حوله لمنع رؤيته من الخارج، لم يتحدث أحد، ولم يكن هناك حاجة للكلام، وكانت الرسالة واضحة وصاخبة، وكان أول من فهمها هو الزعيم سعادة “فهمت”، قال بابتسامة على وجهه، كان من الممكن للمرء أن يعتقد أن هذا المشهد كان جزءاً من فيلم هوليوود لولا أن الشخصيات كانت تتحدث باللغة العربية، انتهت المهمة، وغادر الحسيني بصمت، قضية الزعيم أنطون سعادة، وكما هو الحال في كل الأعمال الدرامية الممتازة، كانت قضية سعادة مليئة بالتناقضات، كانت قصيرة وسريعة وسرية للغاية، واستغرقت العملية بأكملها فقط ستة وثلاثين ساعة، انتهت قبل أن تبدأ، كانت جميع التفاصيل مرتبة مسبقاً، التهم، والأدلة، والمحكمة، والحكم، والعقوبة، وفي نهاية المطاف، كانت هناك سمات غير اعتيادية تختبئ وراء ستار من الطقوس الأسطورية والقانونية حول القضية، تم اختباؤها بعناية لكي لا تصل التقارير المفصلة عن الإجراءات إلى الجمهور، ولم يكن لدى أحد معرفة بموقف المدعى عليه أو التهم الموجهة للنظام، كانت مجرد محاكمة حيث كانت الحكومة تتردد في التركيز على المسائل الأخلاقية، ولكن فقط على المسائل القانونية المحيطة بالقانون المنتهك.

تماماً كما حدث في فلسطين، لقد باع الخونة فلسطين باعوها منذ عام 1947، باعوها برخيص، واليوم يتباكون على أشلاء الضحايا الأبرياء من الأطفال والنساء وكبار السن، باعوها وباعوا المساعدات، باعوا حتى قطرة الماء، لكن حقاً لا ألومهم، فالذكور كثر والرجال قليلون، فهل يمكن أن تُبنى المواقف على أنظمة وظيفية مرتهنة تحتمي بالمحتل الذي باع ونقض وعوده في كثير من المرات، كما حدث في ليبيا وفي مصر وتونس وغيرهم، هذا الزمن يحتاج إلى رجال بحجم الزعيم أنطون سعادة، ولا نحتاج إلى أذلاء ومن الممكن القول إنهم خونة، في ظل هول هذه الأحداث الدامية.

بالتالي، إن أفضل ما يمكن أن يُقال عن الجلسة القضائية هو أنها كانت عملية قضائية عسكرية نموذجية، وكانت كل خطوة في الإجراءات مرتجلة: القضاة كانوا إما غير مؤهلين أو غير محايدين، وكان المدعي العام يجري الحكم أيضاً، وكانت الأدلة ملفقة مسبقاً، وكان المتهم مذنباً من البداية، وعادةً ما تكون نتيجة المحاكمة العسكرية هي الإعدام بالرصاص، وكان هذا هو القرار الذي كان متوقعاً بالنسبة للزعيم سعادة، لكن حتى عملية الإعدام كانت مثل كابوس إداري، لقد حاولت الدولة آنذاك جعل الزعيم سعادة عبرة كتحذير لمن يشتركون في آرائه المماثلة بأن مصيراً مماثلاً قد ينتظرهم، ولكنها تصرفت في ذلك بطريقة مرفوضة للغاية، وكما حدث في محاكمته، فقد انتهك كل قانون بإعدامه قبل شروق الشمس، ولهذا السبب، أُطلِقت على قضية الزعيم سعادة العديد من الأوصاف الواضحة، من بينها: محاكاة ساخرة للعدالة، ومأساة متسارعة، وكوميديا مثيرة للشفقة، وصمة عار مخزية، وعمقاً نفسياً، بالتالي، إن سُرعة محاكمته وصدور الحكم بإعدامه، أثارت حيرة كبيرة لدى معظم الناس، لم يستطيعوا فهم الأسباب وراء هذا التصرف غير المألوف وغير المبرر، خاصة وأن التمرد قد تم قمعه بنجاح وبسرعة، وحتى أعداء الزعيم سعادة اللدودون لم يتمكنوا من إيجاد الكلمات الكافية لتبرير تصرفات الحكومة، وبالرغم من رغبة الحكومة في التخلص منه في أسرع وقت ممكن، خوفاً من أن يثير الرعب في لبنان، إلا أنها في أثناء تنفيذها لهذا التصرف المتهور، خلقت عملاقاً عظيماً، أقوى حتى من الزعيم سعادة في أي وقت مضى، وجعلت منه شهيداً، ليس فقط بالنسبة لأتباعه، بل أيضاً لأولئك الذين لم يتمنوا له أفضل من الموت.

وفي ظل الأحداث الجارية، يمكننا رؤية كيف تنبعث روح المقاومة والتضامن ضد الظلم من بين الشعوب، وكيف يقف القادة الطغاة كحواجز أمام تحقيق العدالة والحرية، تتجلى هذه الديناميكية بوضوح في سياق حرب غزة والتي تشهد مأساة إنسانية بسبب العمليات العسكرية والحصار المفروض على القطاع، بالإضافة إلى ذلك، أردت كما أشرت آنفاً تسليط الضوء على دور الزعيم أنطون السعادة، الذي تمت محاكمته وإعدامه بسبب مبادئه ونضاله ضد الظلم والفساد، على الرغم من رحيله، إلا أن مشروعه وفكره لا يزالان حيين وماثلين في وجدان الناس الساعين للعدالة والحرية، بالتالي، إن هذه الأحداث تعكس الصراع الأبدي بين القوى القمعية والشعوب الساعية للتحرر والعدالة، وتذكرنا بأهمية الصمود والتضحية في مواجهة الظلم والاضطهاد، وفي الواقع، تشكل حرب غزة ومحاكمة وإعدام الزعيم أنطون السعادة مثالاً حياً على كيفية تصاعد الصراع بين الشعوب والأنظمة القمعية، إذ يتجلى هذا الصراع في الصراع الدائم بين الحرية والاستبداد، حيث تعمل الأنظمة القمعية والطغاة جاهدين للحفاظ على سلطتهم ومنافعهم على حساب حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.

من جهة أخرى، يظهر الشجاعة والتضامن من قبل الشعوب المستضعفة، حيث يقفون معًا لمواجهة الظلم والتمييز. يعكس هذا الصراع الدائم بين الطغاة والمقاومين القدرة اللامتناهية للإرادة البشرية على التمسك بالقيم والمبادئ العادلة، حتى في وجه أقوى الأنظمة القمعية، فعلى الرغم من صعوبة المعركة ومخاطرها، فإن روح المقاومة والنضال تظل مشتعلة، ومعها الأمل في تحقيق تغيير إيجابي نحو عالم أكثر عدالة وسلاماً.

إن الزعيم أنطون سعادة يبرز بكونه أول وآخر شخصية سياسية يتم إعدامها في لبنان المستقل، الزعيم سعادة، الذي كان رمزاً إيديولوجياً ملتزماً، كان ينتمي إلى اليسار السياسي في لبنان وكان يعارض النظام الطائفي، الذي اعتبره غير عملي وبطيئاً جداً في تشكيل هوية وطنية مستقلة، وكانت حياته ممزوجة بروح الثورة، مما دفعه إلى رفض كل الحلول التقليدية والتردد الذي أثر على العناد الذي تمسك به لاحقاً ببرنامجه للتغيير الوطني، ولكنه كان “متمرداً”، وبما أنه كان متمرداً، فكان من المؤكد أنه سيدفع الثمن الذي يترافق دائماً مع هذا الاستقلال في الفكر والعمل، ونظراً لتقديره لتوسعه الفكري وتركيزه المخلص على القضايا الوطنية والتزامه بالمبادئ العقلانية، فقد كان مصير سعادة أن يواجه مأساة شخصية، لكن لم يكن أحد يتصور، بما في ذلك النقاد السياسيون، أن ذلك سيتم من خلال عقوبة الإعدام، لقد توقع الكثيرون أنه سيموت بدم بارد أو سيعيش بقية حياته هارباً أو في المنفى، ولكن لم يتم إعدامه خلف أبواب مغلقة كما في الأفلام، وتوقع كثيرون أن تنتصر الدولة في النهاية، ضده، ولكنهم لم يتصوروا أبداً أن ذلك سيحدث بدون أي قيود جسدية أو معنوية، وكان هذا خرقاً لا يمكن تحمله للإيمان.

التاريخ لا يموت

لبنان، الذي كان يعرف سابقاً باسم جبل لبنان قبل عام 1920، يتمتع بطبيعة خلابة تشكلت من سلسلة جبال ضخمة تمتد من الشمال الشرقي لطرابلس إلى منطقة شرق صيدا وصور في الجنوب، كان هذا الموقع ملاذاً مهماً للأقليات والمجموعات المضطهدة، بما في ذلك الأغلبية المسيحية المارونية التاريخية، والدروز الموحدين، والمسلمين الشيعة، وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك وجود لطوائف أخرى معروفة في لبنان، مثل الروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، والسريان الكاثوليك، والكلدان الكاثوليك، والآشوريون، واللاتين (الروم الكاثوليك)، والبروتستانت، والمسلمين السنة، واليهود، لقد كانت هذه الطوائف تعيش معاً، في كثير من الأحيان، بمصالح متضاربة، دون أن تتمكن من تشكيل وحدة قابلة للقياس، وكما هو الحال مع “الطوائف الصريحة”، كانت كل طائفة تدير شؤونها الداخلية وقوانين الأحوال الشخصية بشكل مستقل عن الطوائف الأخرى، وفي منتصف القرن التاسع عشر، عندما انتشرت القومية في سوريا، بدأ هذا الترتيب يواجه تحديات جديدة، ومن الناحية الوظيفية، تتعارض القومية والطائفية، حيث تمثل القومية روح جماعية يكون فيها العلاقة بين أفراد الأمة، على النظرية، علاقة متساوية بين المواطنين؛ بينما تشير الطائفية (عادة بشكل مزاجي) إلى الالتزام الصارم بطائفة دينية أو حزب أو طائفة معينة، وغالباً ما تتضمن التمييز أو الإدانة أو العنف ضد الأشخاص الذين لا ينتمون إلى الطائفة، وبالإضافة إلى ذلك، تتحدى الطوائف، بوصفها مجتمعاتٍ مغلقة، “البيئة التي تنمو فيها”، ويمتلك أفرادها إحساساً قوياً بالهوية الذي يعوق “اتصال الفرد بالآخرين واختيار المهنة التي يرغب في ممارستها”، لكن مع ظهور القومية، وجد لبنان نفسه على مفترق طرق جديد في التاريخ، حيث أصبح مسرحاً لإحياء أدبي كبيرٍ بقيادة فئة فكرية صغيرة ولكن نشطة تسعى إلى تحدي النظام الحالي للأمور.

وباستمرار توجهات الطائفية، بدأت الانتماءات الوطنية المتعددة في الظهور بمفاهيم جديدة ومطالب عالمية حول تنظيم المنطقة، من بين هذه الانتماءات البارزة:

أولاً، التيار العلماني السوري الذي ألقى بالجبل اللبناني كجزء لا يتجزأ من سوريا.

ثانياً، الحركة القومية العربية التي تركز على الوحدة الوطنية على أساس الهوية العربية المشتركة. 3

ثالثاً، الاتجاه اللبناني الذي شجع على تصوير الأحداث في الجبل اللبناني ومحيطه ضمن سياق لبناني خاص.

وفي بداية القرن العشرين، كانت هذه الانتماءات تتصارع حول ما إذا كان ينبغي التفكير في هوية لبنان من منظور قومي عربي (أو قومي سوري) أو من منظور لبناني قومي أضيق، وبينما كان المسيحيون اللبنانيون أول من نشروا الشعور بالهوية القومية العربية (السورية)، بدأوا في الشعور بالتبعية للحركة بعد أن بدأ المنظرون القوميون العرب، الذين بدأوا في اعتبار لبنان التاريخي بحد ذاته مرهوناً لانتقاد متزايد، يسيطرون عليه، لقد رأى كثيرون أن هوية لبنان لا يمكن فهمها إلا في سياق سوريا الكبرى وفي النهاية إطار عربي أوسع، وفي النهاية، تجمعت الخطوط الفاصلة تقريباً حول مجتمعات طائفية، مع تقسيم طبقي صارم وجامد، وبقيت الهوية الوطنية للبنان غير محددة، ففي الأول من سبتمبر 1920، وفي ظل حالة كبيرة من الارتباك الوطني، أعلن المندوب العام الفرنسي في بلاد الشام، الجنرال هنري غورو، ولادة لبنان الكبير أمام جمهور مختار من الزعماء الدينيين والسياسيين المحليين، شمل الكيان الجديد، بالإضافة إلى المتصرفية (المحافظة) قبل الحرب، مناطق وبلدات جديدة تسكنها غالبية مسلمة سنية وشيعية، فقد زاد عدد السكان المسلمين السنة في الدولة الجديدة بثماني مرات، والمسلمين الشيعة بأربع مرات، والمسيحيين الموارنة بثلث عددهم الأصلي في جبل لبنان، واعتبر إدراج مثل هذه المجموعات السكانية الجديدة ضرورياً للاستمرارية الاقتصادية، لكنه جلب معه تحديات خطيرة، فقد أدى التفاوت الكبير في التطور الرأسمالي والوصول إلى الخدمات والموارد بين منطقتي بيروت وجبل لبنان الأكثر تقدماً والمناطق الأقل تقدماً في شمال وشرق وجنوب لبنان إلى تقسيم المجتمع.

بالتالي، تم تشكيل الكيان الجديد رغم معارضة جزء كبير من سكانه، وكان العديد من سكان المناطق الوسطى مسيحيين، وكان العديد منهم، خاصة الموارنة، يؤيدون الدولة الجديدة، وكان هناك عدد ملحوظ من سكان الأطراف مسلمين، وكان العديد منهم، بالإضافة إلى عدد ملحوظ من المسيحيين، يفضلون الاندماج مع الأمة العربية أو السورية، فضلاً عن اختلاف توزيع الطوائف في المنطقة المركزية مقابل الأطراف الذي كان يعني أيضاً أن المسيحيين، الذين يشكلون الغالبية في المنطقة المركزية، وكان لديهم وصول أفضل إلى الموارد، بينما كان لدى المسلمين، الذين يشكلون الغالبية في الأطراف، فرصاً أقل، وتباينت هذه الفجوة في الوصول بحسب الطبقات الاجتماعية، حيث امتلكت الطبقات العليا من مختلف الطوائف الدينية في كلتا المناطق وصولاً أفضل إلى الموارد، كما أدى إدراج عدد كبير من المسلمين إلى إضعاف الكيان الجديد، حيث انخفضت نسبة السكان المارونيين إلى حوالي ثلاثين في المائة، ربما قام الفرنسيون بذلك لضعف الحركة الوطنية العربية السورية في سوريا، وفي الوقت نفسه، لضمان الولاء الماروني لفرنسا على المدى الطويل، إلا أن المشكلة الرئيسية الأولى التي واجهت لبنان الكبير كانت خلق بيئة تسمح للمجموعات الطائفية الكبيرة والعديد من الطوائف الدينية الأخرى بالعيش والعمل جنباً إلى جنب.

وفي عام 1926، تم صوغ دستور لبناني بإشراف فرنسي لتمهيد الطريق للجمهورية اللبنانية وتحولها نحو نظام ديمقراطي برلماني غربي، وفقاً للدستور، تُكفل لجميع اللبنانيين حرية التعبير والتجمع وتشكيل الجمعيات “وفقاً للقوانين”، كما أُنشئت هياكل للنظام الانتخابي والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية والبيروقراطية، لكنها اعتمدت على تمثيل سياسي طائفي بنسبة 60% للمسيحيين و40% للمسلمين، الهدف كان توفير إطار سياسي يمكن فيه المجموعات الطائفية المختلفة، في مجتمع متعدد الطوائف، من العيش والتعايش واتباع إجماع وطني، ومع ذلك، رأى العديد من المسلمين أن الدستور كان تعبيراً عن الاستعمار المسيحي للبنان والسيطرة الفرنسية، في الواقع، أوضح ممثلو المسلمين أنهم كانوا ضد فكرة توسيع نطاق جبل لبنان المسيحي لإنشاء لبنان الكبير الذي يضم المناطق الإسلامية، وأصروا على أن السجل يظهر تحفظاتهم.

ومع شديد الأسف، ورغم التطور وانقضاء أكثر من قرن على هذه الأحداث، لا يزال هذا الوضع مسيطراً على السواد الأعظم، مع شريحة لا تزال تتمسك بالقومية مفكر ونهج ومشروع حي، هو إرث الزعيم يحملونه معهم ويتم توارثه عبر الأجيال، لكن العقلية الطائفية استطاعت أن تكون الحدث الأبرز وهذا ما نشهده إلى يومنا هذا، فالولاء للزعيم السني والزعيم الشيعي والزعيم المسيحي، وأين مشروع الأمة السورية من كل ذلك؟ فكيف نبحث اليوم عن مشروع الأمة العربية الواحدة، ونحن على مستوى قطاع من فلسطين وجزء صغير منها، لم تستطع دولة عربية واحدة بكل طوائفها (هنا أستثني الشعوب وحديثي موجه للأنظمة الرسمية) أن يوقفوا هذا الدمار وحمّام الدماء المستمر من قبل الكيان الصهيوني، إن الزعيم أنطون سعادة ومن خلال قراءاتي الكثيرة له استشرف المستقبل وتوقع ما يحدث اليوم، خوفاً منه وحرصاً على أمته أراد أن يثور على هذا الوقع، أراد أن يحافظ على هذه الأمة وعلى فلسطين، لقد قتلوه ليهدموا هذا المشروع، لكنهم أحيوه دون أن يدروا، فأتباع ومحبي الزعيم هم كثرة والمقاومة نمت وتطورت، ولن يستطيع الكيان الصهيوني ولا عملائه ولا الأنظمة الوظيفية أن تقتل هذا المشروع ففي كل واحد منا روح مقاوم وفلسطيني وعربي وقومي، نحن إسلاميون وقوميون ومقاومون وجنود، نحن فلسطين من البحر إلى النهر.

بالعودة إلى المحاكمة، لقد سعت الجهود لحل الخلافات داخل النظام السياسي اللبناني، بالمثل، بدأ معظم الوطنيين اللبنانيين يدركون الحاجة إلى تعاون مع المناطق الإسلامية البعيدة وبدء عملية مصالحة وطنية تتضمن مشاركة أوسع للمسلمين في الحياة السياسية، لكن توقفت هذه العملية بسبب الحرب العالمية الثانية، وفي سبتمبر 1943، أُجريت انتخابات لمجلس جديد وسط تقسيم داخلي حول هوية لبنان “الجمهورية”. في المناقشة التي تلت ذلك، وصف الوطنيون اللبنانيون أنفسهم كمعارضين لأي تأثير خارجي، سواء كان فرنسياً أو عربياً، في حين أشاروا إلى الحاجة إلى علاقات ودية مع الدول المجاورة، استمروا في التأكيد على الجذور الفينيقية (المشرقية) للبنانيين.

بدورهم، كان الوطنيون العرب في لبنان غير متحمسين لزيادة الجهود نحو تحقيق الوحدة العربية خوفاً من الصراع، مما يمكن أن يوفر ذريعة للاحتلال الفرنسي، وبعد شهرين من الانتخابات، تم التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتنافسة لتمكين لبنان من الحصول على الاستقلال الكامل، وهذا الاتفاق، الذي عُرف لاحقاً باسم الميثاق الوطني، كان بمثابة خطوة نحو الاستقلال الكامل، على الرغم من أنه لم يوضح كيف ومتى سيتم تحقيق ذلك، وبالرغم من عدم وجود وثيقة رسمية تمثل الاتفاق، فقد أظهر الزعماء تعهدهم بالاتفاق، ولكنهم واجهوا خلافات في تفسيره.

بعد الاستقلال في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 1943، بدت الأمور وكأنها قد استقرت على أسس متينة ومقبولة في لبنان، فقد أظهر النظام السياسي اللبناني مستوى معتدلاً من التوحد ونجح في توفير أساس يتيح حرية وازدهاراً كبيراً، قدرته على القيام بذلك كانت تعتمد على طلبات قليلة للغاية، في حين شهدت بعض مناطق الشرق الأوسط زيادة في دور الحكومة، وفي بعض الحالات التدخل العسكري، بقيت الحكومة اللبنانية في هذه الفترة متواضعة ومتطورة، وكان الاقتصاد اللبناني يتحرك بشكل كبير بحد أدنى من تدخل الحكومة، أما اجتماعياً، بدا لبنان وكأنه يسير في الاتجاه الصحيح بفضل التضامن الديني الذي ظهر خلال فترة الاستقلال، وفي هذا السياق، فقد جاء تصريح من رئيس الأساقفة الماروني ومفتي لبنان للصحيفة في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر، خلال الأزمة، يشير إلى تضامن المسلمين والمسيحيين ضد الفرنسيين، بمشاركة بشارة الخوري ورياض الصلح في الحكم، كان للبنانيين دوافع قوية للاحتفال، كان الخوري قائداً منظماً وخطيباً موهوباً بشكل استثنائي، حيث شغل مناصب مهمة في الحكومة تقريباً منذ إعلان لبنان الكبير عام 1920، وعلى الجانب الآخر، كان الصلح قومياً عربياً سورياً بارزاً وعضواً في المؤتمر الوطني السوري، وتم نفيه من لبنان مرتين بسبب مواقفه ضد الحكم الفرنسي، بالإضافة إلى ذلك، تصرف كل من الخوري والصلح على أنهما بناة للدولة، وكان لديهما دعم واسع النطاق من المجتمعات المسلمة والمسيحية في لبنان.

فإن أسقطنا هذا الواقع على نهج وفكر الزعيم أنطون سعادة، نجد أن مشروع الزعيم كان يشكل تهديداً للأنظمة القائمة والهيمنة الاستعمارية في المنطقة، بالنسبة للأنظمة الحاكمة والقوى الاستعمارية، كان الحفاظ على هيمنتهم واستقرار النظام القائم هو الأمر الأول والأخير، لذا، فإن أي جهود تهدف إلى إلغاء الاتفاقيات الاستعمارية مثل اتفاقية سايكس بيكو أو تحقيق الوحدة العربية كانت تعتبر تهديداً مباشراً لمصالحهم، ومن خلال رفضه للأساليب القائمة ودعوته إلى تغيير جذري في النظام، كان مشروع أنطون سعادة يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للشعوب في المنطقة، هذا الهدف يتضمن إزالة الحواجز القائمة، بما في ذلك الأسوار الروحية والسياسية والاقتصادية، التي تعيق تحقيق هذه العدالة، لذلك، فإن الأنظمة القمعية والقوى الاستعمارية رأت في مشروع أنطون السعادة تهديداً مباشراً لمصالحهم وهيمنتهم، وبالتالي قامت بمحاربته وإعاقته بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك استهدافه شخصياً وتصفيته لتثبيت سلطتها ومنع أي تحول سلمي أو ديمقراطي يمكن أن يهدد مصالحها.

بالتالي، من يقرأ تاريخ الزعيم ، يجده أنه كان شخصاً ذكياً للغاية وكان له رؤية عميقة في السياسة، على الرغم من أن تعليمه الرسمي انتهى قبل أن يكمل تعليمه الثانوي، إلا أنه كان يقرأ بشكل واسع وكان لديه ثقافة متقدمة، وقد نال احترام الكثيرين الذين التقوا به، حيث أظهر كل الصفات القيادية والشخصية المرموقة، بالإضافة إلى ذلك، كان يتمتع بصفات قيادية وقتالية مميزة كان يظهرها بانتظام، وبعد مرور سنوات عديدة، لقد كان الزعيم سعادة جزءاً من جيل يمتلك خيالاً أكثر كثافة على الرغم من تباين معظم أعضاء هذا الجيل في الشخصية والأهداف والسياق التاريخي، إلا أنهم كانوا يتفقون في سمة أساسية واحدة، أنهم كانوا ينتقدون ويدينون الوضع الحالي للمجتمع، ومع ذلك، كانت الخلافات تنشأ حول فعالية الوسائل المقترحة لتحسين هذا المجتمع، وحول مدى استحسان التسوية مع الوضع الراهن سواء أخلاقياً أو عملياً، بالتالي، لم يمكن تصنيف الزعيم سعادة ضمن أي تيار قائم في أي وقت من الأوقات، حيث كان يعتقد بشدة أن الإطار الصحيح للنشاط الوطني هو القومية السورية المبنية على مفاهيمها المبكرة في القرن التاسع عشر.

لقد قام الزعيم سعادة بنقد قوي للأوضاع الراهنة، حيث استهدف الزعماء مباشرةً في كتابه الذي نُشر في عام 1925، وصف أوضاع سوريا بأنها تعاني من “أعظم كارثة” وهي وجود زعماء يفتقرون إلى أي من مؤهلات القيادة، لقد اعتبر أن هؤلاء الزعماء، بكل بساطة، يفتقرون إلى الخبرة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وعندما يتناولون مشكلة وطنية جوهرية، فإنهم يتصرفون بطريقة تشبه سلوك الأطفال، وبهذا الموقف المشترك، الذي يشترك فيه الغالبية العظمى من الثوريين والإصلاحيين في جميع الأوقات، اتخذ الزعيم سعادة وجهة نظر راديكالية للتغيير، لقد استخدم مصطلح “النهضة” لوصف هذا المفهوم، والذي يشير إلى التغيير ليس فقط في مؤسسات المجتمع وهياكل السلطة، ولكن أيضاً في الأسس الأيديولوجية للمجتمع، وما يتفرع عنها، بمعنى آخر، لم يكن الهدف الرئيسي للزعيم سعادة تبديل حكومة بأخرى، أو السعي لإقامة نظام جديد على وجه السرعة يمكن للمجتمع أن ينتجه في وضعه الحالي، القضية كانت بالنسبة له تغيير حياة أمة توقف تطورها منذ زمن بعيد.

أما فيما يتعلق بلبنان، إن الزعيم سعادة انتقد بشدة الوضع الراهن في بلاده، مُجادلاً بأن مؤسساتها غير مناسبة لمهمة النهضة الوطنية، وبالتالي، كان من الضروري إيجاد ترتيب بديل لتحقيق هذه الغاية، في ذهنه، كان يتخيل وجود حزب سياسي شديد الانضباط يعمل خارج الهيكل الحالي، ويعارضه إذا لزم الأمر، أسس الحزب الوطني السوري (الذي أصبح لاحقًا الحزب السوري القومي الاجتماعي) في عام 1932 بوعي مع هذا الهدف في الاعتبار، كما تناول الزعيم المخاطر السياسية بجرأة عن طريق الكشف عن الاتجاهات المقلقة بشأن حالة التفكير بين خصومه السياسيين، وكانت لهجته غاضبة وقاسية في كثير من الأحيان، حيث رفض بشدة التفسيرات السطحية للقومية والتعبير الطبقي الاختزالي للماركسية، معتبراً أن القومية تتجاوز الطبقات الاجتماعية وتمثل حالة ذهنية لكافة القوى الاجتماعية.

كما أثار سعادة الجدل بشأن المواقف السياسية المتصلة بصورته الذاتية كمخلص لبنان، منذ البداية، رفض فكرة اختراق حدود لبنان السيادية، مشيراً إلى أن القضية اللبنانية لا يمكن تبريرها إلا جزئياً، معتبراً أن الأساس الوحيد لها هو الحزبية الدينية والثيوقراطية، هذه التصريحات أثارت مشاعر الانزعاج بين اللبنانيين الذين شعروا بأن لبنان يجب أن يحافظ على استقلاله السياسي بأي ثمن لتحقيق مهمته الخاصة في الحياة، لكن تمكن سعادة من الإشارة إلى العديد من الأخطاء الواقعية في الخطاب القومي اللبناني، حيث أكد على الأطروحة الفينيقية بشكل محدد، كما عبر عن اعتقاده بأن “المسيحيين اللبنانيين”، عندما يعودون إلى كتبهم المقدسة، سيجدون أنها تشير إلى “فينيقيا سوريا”، وليس إلى “فينيقيا لبنان”، وأشار إلى أن “الموارنة”، كجزء من الشعب السوري، هم “سريانيون”، وليسوا “فينيقيين” في ثقافتهم الأصلية وتاريخهم، ومن خلال استخدامه الذكي لمعرفته التاريخية، استطاع الزعيم سعادة مساءلة الخطاب اللبناني بشكل شامل، ومن خلال رواياته البسيطة والجميلة، كشف عن مخاوف الخصوصية اللبنانية في عالم متميز بانتشار القومية العاطفية.

وإلى جانب انتقاداته المنطقية للخصوصية اللبنانية، فتح الزعيم سعادة النار على المؤسسة السياسية في عام 1936، حيث أظهر أن نظرتها للعالم قد تؤدي إلى الانتحار الوطني، كما شن الزعيم حملة قوية ضد النخبة الحاكمة والأشخاص الذين كانوا يسعون للاستفادة الشخصية في الدولة، مما كان يعرض مستقبل الحركة الوطنية للخطر ويهدف إلى خلق كيانات تابعة فقط، وبعد الانتهاء من التحدث عن اللبنانيين المسيحيين، بدأ سلسلة من المقالات التي نقلت الصراع إلى المؤسسة السياسية بكل قوة الفكر الثوري الحقيقي، فقد أكد على ضرورة وقف أي حكومة عند الخط الذي يجب عليها ألا تتجاوزه، وهو مصير الشعب، وليس مصير الحكومة، كما أشار إلى أن أي حكومة تحاول ربط مصير الشعب بمصيرها تعمل ضد مصلحة الدولة، وأدرك الزعيم سعادة أن الحكومة اللبنانية تحولت إلى جهاز استخباراتي، وأن اللبنانيين العاديين لم يعد بإمكانهم الشعور بالأمان في منازلهم أو أماكن عملهم أو في مجتمعهم.

هذا النمط من العقلية والتفكير تشرح لنا لوحدها لماذا حوكم الزعيم سعادة، لقد حوكم الزعيم أنطون السعادة بسبب تصوّره لمشروع قومي عربي يتجاوز الحدود الوطنية القائمة ويسعى لتحقيق الوحدة والتضامن بين الشعوب العربية، كما أنه كان يعارض الأنظمة الوظيفية ويدعو إلى تغيير جذري في النظام السياسي والاقتصادي، وبالتالي، كان يُعتبر تهديداً لمصالح الحكومات القائمة والقوى الاستعمارية التي تسعى للحفاظ على النظام القائم والهيمنة على المنطقة، وبالنسبة للحكومات الوظيفية اليوم الذين يبنون الحواجز ولا ينصرون شعب غزة بشكل مباشر، فقد يكون لهذا السلوك أسباب متعددة، منها الخوف من الأمريكي من عواقب الدعم المباشر لغزة، سواء كانت عواقب اقتصادية أو سياسية، وقد يكون هناك تأثير السياسات الحكومية والتحالفات الدولية التي تؤثر على مواقفهم، وهنا نتفهم خوفهم على مصلحتهم وشعوبهم لكنها موضع شك بالنظر إلى ما يحدث، كما يمكن أن يكون لديهم استراتيجيات معقدة تتعلق بالحفاظ على الاستقرار الداخلي أو الحفاظ على علاقات دولية معينة.

بصورة عامة، قد تتسبب العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إنشاء حواجز بين الشعوب العربية وبين تقديم الدعم المباشر لقضايا محددة، وقد يكون هناك أيضاً عوامل مثل الخوف من الانتقام أو العقوبات من الأطراف القوية الأخرى.

بالتالي، تشكّل المؤسسة السياسية في لبنان تحدياً فورياً أمام الزعيم سعادة بعد ظهوره السياسي الأول في نوفمبر 1935، كما أن رؤيته لأمة سورية مستقلة وذات سيادة تصطدم مباشرة مع جهود المؤسسة السياسية في تعزيز الهوية اللبنانية ضمن الحدود التي حددتها فرنسا في عام 1920، وذلك باعتبارها دولة منفصلة عن سوريا، لقد كان هذا التصادم في وقت حرج للسلطات المركزية، التي كانت تستعد لتحقيق نجاح مهم بفضل استعداد الوحدويين اللبنانيين السوريين للمشاركة في النظام السياسي بعد سنوات من المقاطعة والتحفظ، على الرغم من بعض المحاولات لاستبعاد هؤلاء “الوحدويين” من العملية السياسية، فإن هذه المحاولات، التي بدأها الفرنسيون بعد الثورة السورية الكبرى عام 1925، “لم تحرّك جهاز الدولة تجاههم”، بدلاً من ذلك، حاولوا تحييدهم وتهميشهم في الدولة، ولكن مع الزعيم سعادة، لم تحاول القيادة السياسية الفرنسية في لبنان تحييده أو تهميشه في الدولة، بل بالعكس حاولت تحييد جهاز الدولة تجاهه، لقد قاموا بذلك من خلال استخدام النظام القانوني لتخويف الزعيم سعادة وإرغامه على الخضوع، مما أظهر للعامة استعداد السلطات المفترض للالتزام بالقواعد القانونية، ومع ذلك، سرعان ما أدركوا أن التحدي الذي واجههم لم يكن مجرد انحراف عفوياً من فرد مستاء، بل كان عملاً محسوباً، كان منظماً وجزءاً من برنامج المقاومة، على سبيل المثال، في عام 1936، أصدر بياناً عاماً بعنوان “الإعلان الأزرق” أثناء وجود وفد سوري في باريس للتفاوض مع الفرنسيين، وقد أدى قيام الحكومة بإبرام معاهدة فرنسية سورية إلى زيادة المخاطر بين الزعيم سعادة والسلطات إلى مستوى أعلى، في “الإعلان الأزرق”، أكد الزعيم سعادة مجدداً إيمانه بالقومية السورية وشكك مرة أخرى في سلامة النزعة الانفصالية اللبنانية، مؤكداً أن المسألة اللبنانية هي جزء مكمل من القضية السورية الواسعة، وأنه لا ينبغي التعامل معها كمسألة مستقلة.

وبتشجيع نمو الأحزاب المذهبية، أصبح الزعيم سعادة هدفاً للاعتداء الشخصي وتشويه سمعته باعتبارها أداة للخيانة للفاشية الأوروبية، وواصلت إحدى الصحف، نشر تقارير تشهيرية عن الزعيم سعادة استناداً إلى تقارير غير مؤكدة حول نشاطه، أيضاً الفرنسيون كانوا غاضبين واتهموا الزعيم سعادة بالتحريض على التمرد، وفي الأسبوع الأخير من فبراير 1937، اشتبكت قوات الأمن الحكومية مع أنصارها في تجمع سياسي في بلدة بكفيا الجبلية، وكرد فعل على ذلك، قامت الحكومة بتوقيف الزعيم سعادة للمرة الثالثة بتهمة تحريض الناس ضد النظام العام، ومع اقتراب الانتخابات النيابية، أطلق رئيس الوزراء اللبناني سراح الزعيم سعادة بعد الاتفاق معه على احترام الدستور والدولة اللبنانية، وقد وافق الزعيم على هذا الاتفاق بشرط أن يظل مستقبل لبنان قراراً للشعب، ووافق الفرنسيون على هذا الشرط للتعامل مع المشكلات الأكثر إلحاحاً، وفي الفترة التالية من “التعايش السلمي” بين الزعيم سعادة والسلطات، سمح لزعيم الحزب الوطني بإصدار صحيفة والتحدث بشكل أكثر صراحة عن آرائه السياسية، ولكن سرعان ما أظهرت الصحيفة معاداة للانتداب الفرنسي و”عملائه” في لبنان وسوريا، وبدأت في فتح نقاش حول مستقبل لبنان، وبالرغم من أنها لم تكن معادية لفرنسا على الفور، فإن الصحيفة سارت بسرعة في هذا الاتجاه.

في أوائل عام 1938، قام الفرنسيون مرة أخرى بالهجوم على الزعيم سعادة، ومع اقتراب الحرب في أوروبا بسرعة، زادت الشكوك العامة حول اتهامات بأن الزعيم سعادة كان على قائمة النازية. على الرغم من غياب الأدلة، إلا أن ميول سعادة المناهضة لليبرالية والبرلمانية، وتركيزه على الانضباط والشباب والقومية، وحب القيادة ورمز حزبه المشابه للصليب المعقوف، كانت كافية لإدانته كعميل نازي بالنسبة للخصوم، تم طرح الاتهام كمقدمة لهجوم أشد عنفاً عليه، وتأثر سعيه بالصراع الشديد بين الأطراف، ولكنه واصل العمل بثبات بين المثقفين الشباب والمجموعات القليلة الأخرى التي شاركته اهتمامه بالمصلحة الوطنية، على الرغم من أن سيطرته على الرأي العام كانت محدودة وغير حاسمة، لكن في وقت لاحق من عام 1938، اكتشف الزعيم سعادة مؤامرة حكومية ضده وخطط للهروب، بينما ادعى البعض في لبنان أن الهدف كان القضاء الجسدي على الزعيم سعادة، إلا السلطات اللبنانية آنذاك، نفت هذه الادعاءات، وعلى الرغم من ذلك، وكإجراء احترازي، نصح المجلس الأعلى في الحزب الزعيم سعادة بمغادرة البلاد، والتي تمت سراً في عام 1938، وبعد يومين، داهمت قوات الأمن الحكومية مقر حزبه، مؤكدة ما كانت الشكوك تشير إليه طوال الوقت.

وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، شهدت لبنان وسوريا تغيرات فورية في كل جوانب الحياة، حيث اتُخذت إجراءات مختلفة لضمان سلامة البلدين وتحت سيطرة صارمة، في لبنان، أقدم المفوض السامي الفرنسي، الجنرال ويغان، على حل المجلس وإقالة الحكومة وتعليق العمل بالدستور، مما جعل الإدارة مسؤولة مباشرة أمام وزير الدولة المعين من قبل الرئيس، كما تم حل المنظمات المشبوهة وبعض المنظمات التابعة لها، واعتقال القادة وتقديمهم للمحاكم العسكرية حيث صدرت أحكام بالسجن لفترات طويلة بتهم التخريب والتآمر، ومن بين المعتقلين كان هناك أيضاً أنصار الزعيم سعادة ومساعدون له، تمت تبرئتهم من تهم التخريب ولكن وجهت لهم تهم أقل خطورة مثل العمل بدون تصريح والتسبب في الإخلال بالنظام العام، كما حُكم على الزعيم سعادة بالسجن لمدة عشر سنوات والنفي لعشر سنوات أخرى بالغياب، وتم تأييد هذا الحكم في عام 1940 من قبل المفوض السامي المعين من قبل فيشي في بيروت.

وبعد سيطرة الحلفاء على لبنان وسوريا في عام 1942، فرض الحاكم الفرنسي الجديد إجراءات قمع جديدة ضد أتباع الزعيم سعادة، كجزء من حملة عامة ضد الحركات الساعية للاستقلال، وفي الحملة الرئاسية عام 1943، انحاز حزب بشارة خوري، الذي اعتبر رمزاً للنفوذ الفرنسي، مقابل وعد بإطلاق سراح جميع معتقليه، وعندما تولى خوري الرئاسة، تم اعتقاله بتهمة محاولة إلغاء الامتيازات الفرنسية في لبنان، في هذا الصراع، أصدر الزعيم سعادة تعليمات لأتباعه من الخارج لدعم الحكومة اللبنانية، بينما أطلقت الحكومة سراح السياسيين وسمحت للأحزاب باستئناف النشاط السياسي، وعلى الرغم من حدوث تحسن في العلاقة بين الحكومة والحزب، إلا أن استخدام القمع كأداة للسياسة الداخلية ما زال مثيراً للجدل.

وبعد قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر 1947، عاد الزعيم سعادة إلى خطابه المناهض للأنظمة الرجعية الأنانية للعرب، مما دفع أتباعه إلى “حالة حرب” من أجل فلسطين، حيث بدأ التجنيد الإجباري والبحث عن أسلحة لتسليحهم، هذا أثار مخاوف في بيروت في حالة الهزيمة، على الرغم من حظر صحيفته “الجيل الجديد” ومنع تدفق الأسلحة، استمر الزعيم سعادة في نشر مقالاته وتوجيه رسالته عبر الصحف المتعاطفة، رغم الضغط المتكرر من الحكومة، رفض الزعيم التراجع عن موقفه الأيديولوجي، وفي أكتوبر 1948، عاد إلى خطابه بمقارنة استقلال لبنان بالحياة “خلف السور العظيم”، مما أثار مخاوف خطيرة حول الوضع السياسي.

في أعقاب قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر 1947، حاولت الحكومة اللبنانية إغلاق الحزب الوطني السوري، ولكن هذه الجهود باءت بالفشل بسبب صعود حسني الزعيم إلى السلطة في سوريا في مارس 1949، مما أدى إلى تفاقم الانقسام بين الزعيم سعادة ونظام خوري، خاصة التقارير الإخبارية الكاذبة عن ارتباط ضباط الحزب الوطني بالانقلاب في سوريا زاد من الحيرة في الساحة اللبنانية، كما تزايدت الشكوك بعد أن أعلن حسني الزعيم برنامج إصلاحي لسوريا يتوافق مع مبادئ سعادة الإصلاحية، ولكن بطريقة غير مطابقة لها تماماً، بالإضافة إلى ذلك، فإن توقيت الانقلاب كان حاسماً، حيث جاء بعد شائعات حول تخطيط فوزي القواقجي، قائد جيش التحرير العربي، لهجوم على سوريا، بالتالي، أصبحت سيطرة الحزب الوطني على السلطة في لبنان محتملة للغاية، مما أثار قلقاً كبيراً، بعد الإعلان عن برنامج الإصلاح، أصدر الزعيم سعادة تعليماته لفرع الحزب في دمشق لدعم الزعيم بجميع الوسائل المتاحة، لكن لم يُلاحظ ذلك من قبل الحكومة اللبنانية أو الصحافة في المنطقة، بعد ثلاثة أسابيع، دخل ضابط مخابرات سوري إلى لبنان وقتل مدنياً لبنانياً، مما أدى إلى أزمة وإغلاق الحدود بين البلدين، وبينما تبادلت الصحافة الاتهامات، شكل الزعيم سعادة فريق عمل قانوني داخل الحزب لمراجعة الحادثة، وتوصلت التوصيات الرئيسية إلى ضرورة التعامل بحزم مع الوضع الحالي والنظر في مصلحة الجيران في هذه الظروف الحرجة، وعندما عجزت الوثيقة القانونية عن ضرب وتر حساس لدى الزعيم، قام مستشاره الكبير صبري قباني بإرسال نسخة منها إليه على أمل لفت انتباهه. ورغم تقديره لانضباط وتفاني الحزب كان قباني محتفظاً تجاه الضغوط والقرارات المرهقة، وعندما فشلت المبادرة، حاول ترتيب لقاء بين سعادة والزعيم، وبدخوله إلى مكتب الزعيم، كان هذا الأخير غاضباً ومضطرباً، وهدد بالتصعيد وتهديد بلبنان بأكمله في حالة العنف.

ومن الممكن الفهم من مجريات هذه الأحداث طبيعة ما حدث والأسباب التي أدت إلى التخلص من شخص الزعيم، لقد كان كل شخص يخاف على مصالحه ولكن مع شديد الأسف يبدو أنها مصالح ضيقة أبعد ما تكون عن مصالح الشعوب، كما يحدث اليوم، الشعوب في وادٍ والأنظمة في وادٍ مختلف، يحكمون بعقلية التبعية للغرب، لأجل تخزين المشاريع الضيقة على مستوى الأفراد غير آبهين لا بشعوبهم ولا بفلسطين ولا بأمة عربية أو إسلامية أو أياً كانت سمّها ما شئت، بالتالي تتجلى محاكمة الزعيم أنطون السعادة في تاريخنا الحديث كرمز للظلم والاستبداد لترينا حقيقة ما يحدث اليوم، وكدليل على الخيانة للأنظمة الوظيفية والتآمر مع القوى الاستعمارية، كما تُظهر هذه المحاكمة كيف أن الأنظمة الوظيفية، بالتعاون مع القوى الخارجية، تستخدم أدواتها الداخلية لقمع المقاومة والحد من التغيير والتحول في المنطقة.

ومن خلال تطبيق حكم الإعدام على الزعيم أنطون السعادة، أصبحت المحاكمة رمزاً للظلم والتمييز في نظام العدالة، حيث تم استخدام القوانين والمؤسسات القانونية كأدوات لتحقيق أهداف سياسية وتعزيز الهيمنة على الشعوب، أما في الوقت الحالي، يمكن ربط هذه الحالة بواقع حصار غزة، حيث تستخدم الأنظمة العربية وسائلها لفرض الحصار على الشعب الفلسطيني في غزة، مما يؤدي إلى معاناة بشرية هائلة وانتهاكات لحقوق الإنسان، هذا الحصار يُعتبر خيانة بحق الشعب الفلسطيني، حيث تستخدم الأنظمة الوظيفية قوتها لقمع وإضعاف الفلسطينيين بدلاً من دعمهم والوقوف بجانبهم في مواجهة الاحتلال، وبهذا السياق، يبرز التناقض الواضح بين قيم العدالة والحرية التي يُدعى إليها في المحاكمة وبين السلوك السافر للأنظمة الوظيفية في دعم الظلم والقمع، يُظهر هذا التناقض الاستمرارية في استغلال القوى الاستعمارية للأدوات الوظيفية لتحقيق أهدافها، وكذلك الانخراط في أعمال الظلم والاضطهاد ضد الشعوب العربية والفلسطينية بشكل خاص.

بالتالي، إن قرار المحكمة العسكرية في لبنان بإعدام الزعيم أنطون سعادة لم يكن نتيجة لجريمة فردية أو شخصية، بل كان جزءاً من سلسلة من التطورات السياسية بين لبنان وسوريا ومصر بعد استقلالها، وقد جاء هذا القرار في سياق اضطرابات وانقلابات بدأت بإعلان الزعيم سعادة الثورة على الحكم اللبناني وتنظيمه محاولة انقلابية فاشلة، وبناءً على خطورة تحركه العسكري وتورطه في هذه الأحداث، جاء الحكم بإعدامه كجزء من الصراع السياسي الذي كان يسود في لبنان، خاصةً بينه وبين رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، ورغم الشوائب التي رافقت محاكمته والتي كان يمكن تجاوزها بطرق أكثر انسجاماً مع القوانين، إلا أن القرار بإعدامه جاء كخطوة استجابة للسياق السياسي المشحون في تلك الفترة.

لقد كان من الواضح أن أنطون سعادة، في فكره، استمر في التمسك بأفكار ومفاهيم قومية تجاوزت الوضع السياسي والجغرافي الحالي، ففي ظل الظروف الجديدة التي شهدها العالم في بداية القرن العشرين، كانت أفكاره تتناسب مع الثقافات والأفكار التي ترسخت في نهاية القرن التاسع عشر، ولم يكن من الطبيعي أن يظل الزعيم سعادة ملتزماً بدعوته إلى إقامة دولة قومية تحت حدود جغرافية قديمة لم تعد ملائمة للوضع الراهن، فقد تغيرت هذه الحدود بفعل القرارات الدولية والتحولات السياسية التي شهدتها المنطقة، وتحولت إلى دول مستقلة تتمتع بسيادتها واستقلالها، وكان من الضروري لتحقيق أهدافه وتطبيق فكره أن يتخلى عن فكرة استمرارية الدولة القومية السورية ويتجه نحو فكرة توحيد تلك الأراضي مع شعوبها في إطار دولة واحدة، لقد تمحورت نظرية الزعيم سعادة السورية القومية الاجتماعية حول منطقة الشرق الأوسط، حيث نشأت فكرة التقاطع بين اثنتين من القوميات: القومية اللبنانية التي أدت إلى إنشاء دولة لبنان الكبير وتحديد حدودها، والقومية العربية التي تمثلت في حلم بتوحيد الشعوب العربية خارج حدود الدول القائمة.

خلود القضية

وفي حوالي الساعة العاشرة ليلاً، تم رفع الجلسة ونُقل الزعيم سعادة إلى النظارة، وبعد ساعة من ذلك انعقدت المحكمة مرة أخرى وأحضر سعادة، وتم إصدار الحكم الذي قضى بإعدامه، وبموجب الإجراءات القانونية، يتعين عرض الحكم على لجنة العفو للنظر فيه قبل تقديمه لرئيس الجمهورية لاتخاذ القرار النهائي بشأنه، وتمت عملية تسريع هذه العملية عن طريق استخدام سيارة عسكرية لنقل الطلب إلى أعضاء اللجنة، وذلك بعد منتصف الليل، ورغم اعتراض البعض على هذه الطريقة، إلا أنه تم قبول الطلب وتمت الموافقة عليه.

في الفجر من الثامن من يوليو 1949، تم إبلاغ الزعيم سعادة برفض العفو عنه من قبل رئيس الجمهورية، وأن الحكم سيُنفذ فوراً، تم ربط يديه وقدمه وقدم له فنجان من القهوة، ثم نُقل بسيارة عسكرية إلى مكان تنفيذ الحكم في منطقة الرمل العالي، بعد ربط يديه إلى عمود، وعصبت عينيه، وجثا على ركبتيه، أُطلقت النيران عليه من فصيلة الإعدام في الساعة الرابعة والربع فجراً، وتم نقل جثته في نعش أبيض إلى كنيسة مار إلياس في بطينا في بيروت، حيث أُقيمت له الصلاة قبل دفنه.

بالتالي، إن عملية محاكمة الزعيم أنطون سعادة وسرعة إعدامه تكشفان عن ارتباك السلطة اللبنانية في التعامل مع الأمر. كانت السلطة ترغب في إنهاء هذه العملية والتخلص من سعادة، لكن الطريقة التي اتبعت لم تراعِ الإجراءات القانونية، مما أثار شكوكاً في الخلفيات، على الرغم من أن الجرم الذي اتُهم به سعادة، وهو الانقلاب، يمكن أن يبرر الحكم الصادر بإعدامه، في ذلك الوقت، كانت دولة لبنان تنظر إلى الانقلابات على أنها جرائم تستدعي الإعدام، لكن بعض الآراء تشير إلى أنه إذا نجح الانقلاب، ربما كان سعادة سيُعدم الأشخاص الذين يشغلون مناصب السلطة، ومع ذلك، تبقى الملاحظة على أن السلطة قصرت المسافات الزمنية، بدلاً من إعطاء المحاكمة الوقت الكافي لإزالة التشكيك فيها، يُعتبر إعدام الزعيم سعادة عملية اغتيال بالنسبة لبعض الأشخاص.

ولم تنته العملية عند حدود القبر الذي دُفن فيه، في أغسطس 1949، حدث انقلاب ضد حسني الزعيم وتم إعدامه، وبعد عامين، قامت عناصر من الحزب باغتيال الرئيس رياض الصلح، الذي كان رئيس الوزراء في وقت إعدام سعادة، لأنهم اعتبروا أنه مسؤول عن هذا القرار.

وفي نهاية المطاف، تعلمنا الحياة أن العز في التصرفات والأفعال، وليس فقط في الأقوال، إنما يبنى العز بالتصميم والنضال من أجل العدالة والحرية، فالذي يبني بناءً صحيحاً لا يعيش فقط للحظة، بل يبقى في وجدان الأجيال القادمة كتذكير دائم بوصمة العار التي تحملها الأنظمة الوظيفية والقمعية، فعلى الرغم من الظلم والمعاناة التي تشهدها مأساة غزة، فإنها تظل شاهدة على عزيمة وصمود الشعب الفلسطيني، وها هي رفح تقف على طريق الحرب، تنادينا بصوتها على أن الوقوف في وجه الظلم والاستبداد هو الطريق الوحيد نحو الحرية والكرامة، ومع ذلك، فإن الأنظمة الوظيفية ما زالت تخضع وتخاف، فهي تعلم جيداً أن قوة العزيمة والصمود تتحدى كل القيود والحواجز، ولذا، فلنبقى متمسكين بالقيم والمبادئ، ولنواصل النضال بشجاعة وعزيمة حتى ينتصر الحق وتزول ظلمة الظلم، وتشرق شمس الحرية والعدالة على الأرض.

العز يكمن في العمل، وليس فقط في الكلمات.. الحياة وقفة عز.

*كاتب ومفكر – الكويت.