أُمةٌ عانت وقاست مرارات الغزو والاحتلالات والفتوحات على مدى آلاف السنين، أُمةٌ تخضَّب تُرابها بقاني دمائها، وتجلّى إرثها بفعل أجيالها، تمرُّداً على واقعها وكبوتها، قامت فقاومت، منتصرةً لحقّها في الحياة، مُصرَّةً على الصراع في روعِ الوجود، رافضةً القبر مكاناً لها تحت الشمس، مستمدةً من مخزونها الحضاري والثقافي، ونفسية شعبها، الأمل بحياةٍ تليق بالأحرار.
وكان فجر أملها الموعود على يدي سعاده، ليُعلن بدأ حقبةٍ جديدة من نضالات السوريين، الذين ما لبثوا أن أقبلوا على الدعوة مؤمنين ناهضين، مستعدين للبذل والعطاء والفداء في سبيل سورية، فكان لهم الحزب السوري القومي الاجتماعي .
وها نحن اليوم، نقف بمهابةٍ يكللها الكبرياء، في يوم شهداء النهضة السورية القومية الاجتماعية، نستلهمُ منهم العزيمة والقوة والقول بالفعل، والفداء بالشهادة، والرّد بردِّ الوديعة، مستذكرين من مآثرهم، محطاتٍ من نارٍ ونور، وقد تعددت فيهم أساليب البذل، فكانوا القادة القدوة. تماماً كما كان، وكما أرادهم سعاده .
ففي ريعان هذا الحزب العظيم، أطلَّت بواكيرُ الشهداء في العام1936 يوم ارتقى شهيدنا الرفيق حسين البنا، على ثرى بلعة / نابلس، في الجنوب السوري، وقد أعلنه سعاده « أول شهيدٍ من الحركة السورية القومية الاجتماعية، يسقط في الصراع القومي المسلّح المباشر ضد اليهود» . وقد أبَّنهُ يومها ، ومن خطبتهِ الشهيرة قائلاً : « …. إنهم سقطوا ليُثبتوا، ويُثّبتوا حياتنا القومية الاجتماعية، فثبّتوها بالفعل، وأثبتوا للملأ أن القوميين الاجتماعيين، ليسوا بمتراجعين عن عقيدتهم، وأنهم ماضون ليحققوا آخر غرضٍ من أغراضها وآخر حرفٍ من حروفها، هي عزيمةٌ ليست بمرتدةٍ عن غرضها الأخير، هي عزيمةٌ تطلب الموت متى كان الموتُ طريقاً الى الحياة. هي عزيمةٌ قد عبَّر عنها شهداؤنا الخالدون، وبصورةٍ خاصة شهيدنا الذي نحتفل ذكراهُ تعبيراً صادقاً لا يُمحى. من أجل ذلك، ومن أجل أن شهيدنا وباقي شهدائنا عملوا لمبادىء النهضة القومية الاجتماعية الراسخة وبذلوا نفوسهم في سبيل إحيائها وأعطوا حياتهم كلها لها، من أجل ذلك هم يثبتون بثباتها ثباتاً خالداً. هم خالدون لا يزولون ولا يضمحلون، لأن هذه النهضة العظيمة خالدة. إن لهم تقديرنا الكُلي واحترامنا وشُكرنا» .
أيها السوريون القوميون الاجتماعيون
هل تكفي السجلاّتُ ومدادُ الحبر لتدوين أسماء شهدائنا؟ من جبال الخضر في بيت لحم واللد وعكا ويافا في ثلاثينيات القرن الماضي، أو في الأربعينيات منهُ على الجبهة الشاميّة وفي قلب المواجهة الكُبرى داخل الكيان اللبناني، التي توّجها سعاده بدمه، وقافلة شهداء الثورة القومية الاجتماعية، أو في وقفات العز يوم الاستقلال، أو تلك في غياهب السجون ووطأة التعذيب، حتى تملّح الجرحُ نزفاً بالاضطهاد والتصفيات والمؤامرات والظلم وأحكام الاعدام والنفي في الخمسينيات والستينيات منه، أو في جسارة التصدي المباشر والعمليات الفدائية ضد اليهود في الجنوب، وجنوب الجنوب، أو ضد يهود الداخل، أو على أيدي عملائهم في السبعينيات منه، أم في منارة الاستشهاديين والقادة المُفتدين ومعارك الوجود الحزبي في الثمانينيات منه، أم شهداءُ العقد الأول من هذا القرن، إن في الداخل الفلسطيني أو في قلب الشام، يوم غرس التنينُ أنيابه فاقتلعتها مخالبُ نسور الزوبعة مع بقية الأحرار أم في حلبا، دمنا المُهرق على مذبح الأمة ؟ وما ذكرنا إلا نافل القول، ففعلُ الشهداء أعظمُ وأعز.
وفي الوجه الآخر للفداء، ثمة شُهداءٌ أحياء، تحمّلوا وحملوا جراحاتهم على مدى السنوات، ثابتين على اليقين، لا يطلبون مكافأةً أو عطية، منهم من انتقل بالوفاة، ومنهم مازال في آتون الصراع يودّي الواجب دون هوادة، فكانوا مثالاً يُحتذى في الصبر والإرادة وصدق القسم .
في ذكرى شهدائنا، نكررُ على أنفسنا القسم الحزبي، الذي تعاقدنا مع سعاده بموجبه، بالشرف والحقيقة والمُعتقد، أن نصون حزبنا ونهضتنا وأمتنا، لذا كان نداءُ حزبكم « الى ساحِ الجهاد » وليس العودة إليه، فما خرجتم يوماً لكي تعودوا ، بل أقعدتكم المؤامراتُ نيّفاً من الزمن، فلا هذه أو سواها سيقصينا عن أداء الواجب، فلا التقسيم نال من وحدتنا الروحية، ولا خنجر الغدر نال من ثباتنا، ولا الترسيم سيلغي حقنا، ولا الجدرانُ سترسمُ لنا حدوداً . فما رسمهُ شهداؤنا بدمائهم لصون الأمةِ وتحرير أرضها، لن تلغيه الخرائط والصفقات، ولنتذكر جميعاً وصية المُعلم بأن « القوة هي القول الفصل في إثبات الحقِ القومي أو إنكاره » ولسنا بمتنازلين .
مكرم العريضي