نحو منهجية موحدة لكتابة تاريخ سوريا القديم… السُّبُل والتحديات

  نحو منهجية موحدة لكتابة تاريخ سوريا القديم… السُّبُل والتحديات

مقدمة:
كان تاريخ سوريا القديم -ولم يزل- عرضةً لعمليات التهويد التي تلجأ أولاً إلى التغطية على الحقائق التاريخية التي تتعلق بممالك سوريا القديمة ومدنها في مختلف عصورها، سواء وردت ضمن مؤلفات المؤرخين الكلاسيكيين والعرب، أو ضمن معلومات كتاب التوراة، أو من خلال المكتشفات الأثرية، أما جل تفاسير التوراة بخصوص سوريا القديمة، فذو طابع لاهوتي متواضع، منحرف في الكثير من الأحيان، لا يخرج عن الإطار الذي حددته له المدرسة التوراتية، كما ويفتقر إلى الدقة في الإحاطة بالمعلومات، ووضع السليم منها في إطاره الصحيح والصريح.
ويضاف إلى ذلك أن هذا التاريخ لا يحظى بالاهتمام المطلوب من قبل الأكاديميات العربية ومراكز البحوث المتخصصة، أما جل الكتب المؤسِّسة لتاريخ سوريا القديم، أجنبية كانت أم عربية، إنما يستقي معلوماته الأولى من روايات التوراة وتفاسيرها الغربية غير الحيادية واللاعلمية بشكل عام، ودون أدنى نقاش، ويحاول إعادة بناء ذلك التاريخ استناداً إلى الأساس التوراتي، أما تكرار تلك المعلومات، فيدخل في إطار الأخطاء الشائعة الخطيرة لأنها تستند إلى مؤلفين فرضوا نظريات الغرب على جمهور قُرّائهم ضمن قوالب خاطئة ومخادعة، تخفي مصالح شخصية بغلاف “الموضوعية”، وتستغل الشهرة الشخصية وثقة الجمهور.
حدود “الكيان اليهودي”، من شعار إلى سياسات على الأرض:
تجلّى شعار المدرسة التوراتية/الصهيونية (حدود “إسرائيل” من الفرات إلى النيل –أي كل بلاد الشام القديمة) في مجموعة من السياسات الاسرائيلية المدعومة من قبل اليهودية العالمية، اتخذت على أرض الواقع –بعد احتلال فلسطين عام 1948- أشكالاً متعددة، منها محاولة اكتساح المنطقة بواسطة المد اليهودي وخلق التناقضات لصالح هذا المد، وتهويد الفكر الدولي من أجل بقاء “الكيان اليهودي” وإثبات شرعيته، وذلك بواسطة الغزو الثقافي وتزوير التاريخ وتجيير نتائج المكتشفات الأثرية لصالح “إسرائيل” التوراتية…
وتعتبر “هيئة الآثار” في الأرض المحتلة من أكثر مؤسسات الآثار نشاطاً في العالم، وهي هيئة تعمل على ضوء ألف وثمانمائة صفحة، هي عدد صفحات “التوراة”، ومن الباحثين الكبار فيها من كان يعمل في جيش الاحتلال الاسرائيلي، مثل “ييجال يادين” القائد السابق لأركان جيش الاحتلال… فالمسألة بالنسبة إليهم مسألة واجب، ولا تنفصل الأهداف العسكرية السياسية لديهم عن الأهداف “الثقافية”، وكلا النوعين من الأهداف يُكتَسب عبر الاكتساح.
احتلال الأرض والتاريخ معاً:
منذ عام 1948، لم يكن احتلال التاريخ أقل شراسة من احتلال الأرض من قبل الاسرائيليين، الذين أعدّوا دراسات ضخمة جداً لتهويد مدن الأرض المحتلة وقراها في فلسطين والشام، وتعد “موسوعة التنقيبات الأثرية في الأرض المقدسة”:
Encyclopedia of Archaeological Excavations in the Holy Land, 4vols, Jerusalem,1976
من أكثر الموسوعات الاسرائيلية انتشاراً في العالم، أعدّها باحثون إسرائيليون استناداً إلى قراءات مسيّسة مقصودة لكتاب التوراة، علماً أن معلوماته لا تشير إلى “يهودية” المدن والقرى المذكورة، لا من خلال أسمائها (وهي كنعانية الأصل) ولا من خلال الأحداث التي شملتها في الرواية التوراتية…
بعض مجلات الكيان اليهودي المتخصصة بالتهويد:
في الستينات من القرن الماضي، تأسست المجلة اليهودية العالمية الناطقة باسم الآثار، وهي مجلة “الآثاري التوراتي”BIBLICAL ARCHEOLGIST الممولة من قبل “مؤسسة الأبحاث الصهيونية “Zion Research Foundation، وبعدها “مجلة الآثار التوراتية” ARCHAEOLOGY REVIEW BIBLICAL التي أضحى اسمها فيما بعد “مجلة دراسات الشرق الأدنى”NEAR EASTERN STUDIES، ومجلة “متحف إسرائيل “Israel” Museum Journal” ومجلة “الاستكشاف الإسرائيلي” Israel Exploration Journal ومجلة “قدمونيوت” Qadmoniot ومجلة “الأدب التوراتي” Journal of Biblical literature ومجلة “الدراسات اليهودية” Journal of Jewish studies .
ويحرص المسؤولون عن هذه المجلات، المتخصصة في زج ما يسمى بـ “إسرائيل” في تاريخ سوريا القديم وخلق وجود إسرائيلي في وثائقه الأثرية والكتابية، على إيصالها إلى كل مكتبة في العالم، ولدى حدوث أي اكتشاف في مواقع سوريا القديمة يسرع التوراتيون لمطابقته مع روايات التوراة بالتحايل ومغالطة القرّاء والربط القسري لمعطيات الاكتشاف بمعطيات التوراة، والمحاولات الجدية أكثر من أن تُحصى في هذا المجال، ومنها مكتشفات الشام ولبنان وفلسطين، التي خصصت لها عشرات الأعداد من تلك المجلات صفحات عدة بين محتوياتها، فتعرضت مكتشفات “ماري” و”أوغاريت” و”إبلا” و”قَطْنا” و”القدس” و”بيت لحم” و”حاصور” و”مجدّو” و”صيدا” و”صور” و”جبيل” و”يافا” و”غزة” و”عسقلان” وغيرها من المواقع الشامية اللبنانية الفلسطينية إلى المطابقة والربط القسري وغير العلمي مع مرويات التوراة، بشكل لم يعد بالأمر السهل تداركه أمام حجم ما نُشر في العالم حول هذا الموضوع…
أما هذا الكم الهائل من النشر الذي يستغل معطيات مواقع المشرق ويستهدفها، فلا يقابله مجهود رسمي لتفنيد ادعاءاته أو دحض مقولاته، وإذا ما تمت محاولة حقيقية للرد العلمي فإنها لا تلقى الاهتمام المطلوب.
مدن فلسطين في العصر الكنعاني نموذجاً:
هنالك أكثر من خمسين مدينة كنعانية رئيسية يمكن الحديث عنها في فلسطين، تكوّن صورة كبيرة عن تاريخها القديم، وهي مدن مركزية في الحضارة الكنعانية، حيث لا تكتمل المعلومات عن مدن كنعانية أخرى في العالم، دون العودة إلى “داتا” المعلومات الخاصة بها…وقد استمر الكثير من هذه المدن في العصور اللاحقة، ولكن الأكاديميات والمؤلفات العربية غيّبت أهم محطاتها التاريخية، وقدّمت بعضها منقوصاً مشوّهاً من خلال النقل الحرفي عن المراجع التوراتية والصهيونية، ففي إطار سعيهم لاحتلال التاريخ الفلسطيني وتهويده بعد احتلال الأرض، أشرف مؤرخو الكيان الإسرائيلي على “دراسات” جعلت الكثير من المدن الكنعانية مدناً في دائرة التهويد، مستغلّين بعض روايات التوراة المختلقة، ومبتعدين تماماً عن روايات من نفس الكتاب تنقض مزاعمهم وتفنّدها، والأمثلة في هذا الصدد كثيرة، وللإشارة فالكثير من هذه المدن الكنعانية مجهول في المراجع العربية ذات الصلة، وفي المراجع الغربية لا تُذكر على أنها كنعانية، أما هي فكنعانية أصيلة، وما زالت تحتفظ بأسمائها القديمة الدالّة على هويتها الأصلية، كما أن العديد من المعلومات المميزة يمكن أن يندرج تحت أسماء تلك المدن، فبأسلوب غير مباشر أحياناً، يعطي كتاب التوراة معلومات هامة جداً ونادرة عنها، أكّدت كونها منبعاً للتقاليد الحضارية الكنعانية ومخزناً لأفكار العالم الكنعاني الكبير، وفي نفس الوقت، وباعتبار التوراة مصدر المعلومات عنها، أكّدت دراسة هذه المدن عدم جدوى المساعي الإسرائيلية إلى خلق وجود “لإسرائيل” بالصورة التي يبرزونها للعالم، تلك الصورة التي تُخفي خلفها حقائق لا يريد لها الصهاينة الانتشار، فكل الأدلّة التي يقدّمها التوراة كوثيقة وحيدة حول اليهودية، تؤكّد أنه لا توجد “حضارة” أو “دولة” قديمة تحمل اسم “إسرائيل” أو “يهودا”.
الاستهداف الممنهج للتاريخ السوري عبر المشاريع والمنشورات:
وننوّه فيما يلي إلى أخطر تلك المشاريع خلال السنوات السابقة، فهدفها هو وضع تعاريف جديدة للحقب التاريخية المختلفة، تُقصي مراحل حضارية بأكملها –وعلى رأسها الكنعانية- بغرض خلق وجود تاريخي لما سمي بـ”إسرائيل” في المنطقة، مع إنجاز قواعد بيانات تتضارب مع أية قواعد بيانات يُفترض أن تكون موجودة سابقاً، وعلى سبيل المثال –لا الحصر- المشروع الدولي الخطير ARCANE(2002-2011) بمشاركة ضخمة من قبل الكيان اليهودي:
Associated Regional Chronologies for the Ancient Near East and the Eastern Mediterranean. الذي هَدَفَ إلى وضع تسلسل زمني {“توثيق”–كرونولوجي-} لمنطقة “الشرق الأدنى القديم” وشرق المتوسط انطلاقاً من الألف الثالث ق.م، مع ملاحظة أنه تم استثناء المواقع الكنعانية في الساحل السوري وإقصاؤها من التسلسل الزمني للشرق القديم بشكل مقصود!…
وكان ثمة مشروع لتهويد مدينة يافا الكنعانية، أطلقه الكيان اليهودي بدعم أميركي أوروبي، وهو “مشروع التراث الثقافي ليافا” Jaffa Cultural Heritage Project (JCHP) ويحتوي هذا المشروع على كثير من مفردات التهويد، فيما تدحض معطيات مدينة يافا الأثرية كل المزاعم الصهيونية، وتقدّم أدلة هامة على وحدة عناصر الحضارة التي جمعت مدن سوريا القديمة وممالكها، وثبات تلك الحضارة قروناً طويلة من الزمن، الأمر الذي يتصدى لطروحات خطيرة قلّصت الجغرافيا التاريخية لسوريا القديمة وعملت على فصلها عن محيطها الطبيعي والحضاري، كبلاد الرافدين وفلسطين القديمة، وهذا ما سعى إليه عالما الآثار “بيتر أكرمانز” و”غلن شوارتز” اللذان قدّما سوريا القديمة -في كتابٍ عن “الآثار السورية”-THE ARCHAEOLOGY OF SYRIA, CAMBRIDGE,2003 – كأقاليم منعزلة حضارياً، وابتعدا تماماً عمّا يجمع السوريين القدماء من عناصر حضارية ثابتة ومستمرة منذ أقدم العصور، كما لم يأتيا على ذكر الحضارة الكنعانية أو الكنعانيين ضمن عصور سوريا القديمة، ولم يقدّما “الفينيقيين” على أنهم استمرار للكنعانيين في سوريا، بل على أساس الشراكة المتوسطية مع الإغريق، أما المملكة السورية الكنعانية “أوغاريت”، فيعرّفها المؤلفان بأنها مدينة على البحر الأبيض المتوسط كانت تتبادل التجارة مع “قبرص” و”سوريا”–وكأنها ليست سوريّة!
ومن ناحية أخرى يسلّط المؤلفان الضوء على أبجدية أوغاريت المسمارية على أنها تعبّر عن “لغة سامية محلية”، دون الإقرار بأنها كنعانية وأنها الأبجدية الأولى في التاريخ التي طوّرت النظام الكتابي القديم، وصولاً إلى الأبجدية الهجائية الكنعانية ثم سائر حروف أبجديات العالم القديم.
إسهام بعض المؤلفات العربية في استهداف الحقائق الكنعانية:
وملخص ما قمنا بضبطه في بعض المؤلفات المذكورة، هو ادعاءات تغطي على الحقائق الكنعانية في سوريا، مثل اعتبار ما يسمى بـ”المملكة العبرانية” أو “إسرائيل” أو “يهودا” ممالك حقيقية في المنطقة على غرار الممالك الكنعانية، فتم إدراجها بشكل مؤسف في خرائط بحثية تخص سوريا القديمة- بل إن بعض المناهج أغرق في الحديث عن “إسرائيليين قدماء” في فلسطين، وأسهب في تكريس نموذج الإله الخرافي القومي لليهود “يهوه”، كإله على غرار الآلهة الكنعانيين، بالرغم من عدم تمثيله في التركة الأثرية والكتابية في المنطقة…وكذلك الأمر بخصوص بعض شخصيات ملوك التوراة الوهميين، فقد اعتبرهم بعض المناهج والمؤلفات ملوكاً حقيقيين، كما درج بعض الأكاديميين على اعتماد التسميات التوراتية لمناطق جغرافية في فلسطين، فيما اعتبر بعض تلك المؤلفات اللغة العبرية أصيلة في المنطقة على حساب الكنعانية، وتلك مخالفة خطيرة لكل المعلومات التي تدحض تلك المزاعم، وفي مقدمتها معلومات كتاب التوراة نفسه.
بعض الدراسات المحلية الرسمية الحديثة –الصادرة عام 2015- ارتكب خطأً حين أقصى الكثير من المدن الكنعانية المنتشرة على طول الساحل الشامي اللبناني من قائمة الألف الأول ق.م (سيميرا، طرطوس، أرواد، عرقاتة، سيانو، جبلة، تل سوكاس، تل تويني، رأس إبن هاني، أوشناتو، صور، صيدا، طرابلس، جبيل، البترون، بيروت) كما أخطأ حين أغفل ذكر هوية مدينة أوغاريت كمدينة كنعانية سورية تقع على الساحل السوري، مستبدلاً ذلك بوصفها “ميناءً عالمياً”، ذلك أن أي تعريف للمدينة يغفل سوريّتها وكنعانيتها، يعتبر منقوصاً ولا يعبّر بشكل صحيح عن هوية المدينة التي بلغت عالميتها من خلال كونها مملكة كنعانية سورية أبدعت إنجازاتها في ضوء الإبداعات السورية القديمة وعبر مراحل طويلة شهدتها الأرض السورية.
استهداف تاريخ سوريا القديم من قبل تيارات ثقافية حديثة:
يتعرض تاريخ سوريا القديم منذ سنوات –وفي أهم أقاليمه الحضارية- إلى التشويه من قبل تيارات ثقافية مغرضة ومأجورة، من خلال تحويل هذا التاريخ إلى مجموعة من الروايات القصصية، ولا أدل على ذلك من طرح مصطلح “السردية” على هذا التاريخ، ذلك المصطلح الأدبي الحديث والذي يجعل من التاريخ الحقيقي مجرّد ضرب من ضروب الأدب، مع ما يرافق ذلك من خيال وطروحات غير منطقية تنسف الواقع التاريخي والأثري واللغوي.
وقد غصّت الساحة الثقافية والاعلامية العربية مؤخراً بالطروحات المسيئة للتاريخ السوري، والمنطوية على شطب الهوية “الكنعانية” لسوريا، وهنا لا بد من التصدي للإساءة إلى “الكنعانية”، وإبراز الجهود الحقيقية لكتابة تاريخ سوريا على أيدي المختصين، أنّى تواجدوا، والسير بتلك الجهود قُدُماً ودعمها وتعميم الموضوع على الجهات والمؤسسات العربية المعنية، الرسمية منها وغير الرسمية، وبشكلٍ صارم، وذلك حمايةً لتاريخ سوريا وتكريس وضع أسس علمية صحيحة وناجعة لكتابته، لا سيما وأن العالم اليوم، والغربي خاصةً، يشهد انقلاباً على موضوع المبررات الخرقاء للاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، والمتمثلة في الادعاءات الزائفة بملكية الأرض والتاريخ، استناداً إلى تفسير خاطئ مقصود للروايات التوراتية، وتغييب الوثائق الأثرية واللغوية الحقيقية في المنطقة، وتكثيف الأضواء بشدة على خرافة ما سمي بـ “الوعد الإلهي”، وبدعة ما يسمى بـ “الديانة الابراهيمية” التي تدحضها مجموعة من الحقائق.
خاتمة:
لا شيء تقدّمه مواقع سوريا القديمة بخصوص السرديات التوراتية واستثمارها الخاطئ والمسيس، سوى نقض هذه المغالطات، وخاصة المواقع الفلسطينية التي عبثت السلطات الصهيونية بمعطياتها وأجرت تغييرات على هويتها الأصلية لتحويلها إلى أماكن مقدسة يهودية، بل وتجاوزت تلك السلطات مواقع فلسطين لتصل إلى مواقع أخرى في المشرق، وبناءً على ذلك فإنه لا مناص من كتابة تاريخ حقيقي لسوريا القديمة، يُبنى على المعطيات الأثرية والتاريخية واللغوية الحقيقية، وذلك كخطوة ملحّة لمكافحة التهويد، ذلك الخطر الذي يهدد مكونات الهوية السورية بالفناء.