خواطر في تأسيس الانسان الجديد .  

                               

 يحتفل القوميون كل عام بذكرى تأسيس الحزب على أنها نقطة التحول الفاصلة في تاريخنا الحديث ، و لا أدري لماذا يغيب عن بالنا ان نولي اهتماماً موازياً لحدث يساويه  في الأهمية، هو تأسيس الإنسان الجديد، لأن تأسيس الحزب  لا يكتمل إلا بهذا المكون،  وهو تأسيس الانسان الجديد.
في النموذج المنحط  الذي قام و استمر وتمأسس خلال مئات الاعوام من الانحطاط، كان لا بد من إيجاد نموذج  بديل، نموذج  قادر على إحداث الفعل أو إحداث التحول ، أولاً على مستوى البناء الحزبي و لاحقاً على مستوى الامة. هذا المكون هو الإنسان الجديد. هو بالأصح نموذج الرد على النموذج الإنحطاطي  وهو نموذج التغيير .
بالرغم من اكتمال هذا النموذج في ذهن سعادة و كتاباته و تحليلاته  في مرحلة ما قبل التأسيس، إلا أنه اصطدم  بواقع  مؤسف ، وهو أن حتى مع  تأسيس المؤسسة  لم يكن النموذج  قادراً على حمل النهضة.  لذلك تعامل  سعادة بحزم مع هذا الحدث، فحل الحزب و أعاد االتأسيس من جديد بنموذج  جديد .
 و في الوقت الذي يتعامل  فيه القوميون  بثانوية  مع هذه المسألة المفصلية، تدفعنا المنهجية الى طرح الاسئلة التالية

 ما هي الأسس التي قام عليها الإنسان الجديد؟ ما هو الجديد في هذا الإنسان ؟ هل نجد نموذجاً  له في الحزب ؟
نعم لقد أرسى سعادة نموذجاً كاملاً جذرياً على أساس النظرة القومية إلى الإجتماع  والسياسة،  وتكمن أهمية هذا النموذج في  أنه نموذج التغيير، نموذج المبتغى، الواجب تعميمه.
أول أسس الإنسان الجديد هو الأساس  المناقبي الاخلاقي  الراقي.

إذا عدنا الى شروط العضوية  لوجدنا أن الشرط الاول بعد  شرط السن ، هو شرط الأساس الأخلاقي : أن لا يكون مجرماً ضد المجتمع. و اإذا تعمقنا  أكثر في قسم العضوية ، وجدنا الأسس و الفضائل الاخلاقية  وهي الصدق، والنزاهة، والوفاء والإخلاص والأمانة و حفظ الأسرار وتقديم المساعدة  لمن يحتاج إليها.
لعل أهم  الفضائل الأخلاقية هي التضحية والعطاء و الايثار، وهي المستوى المتدني جدا لل “ايغو” لل أنا المرضية . 

في القومية الاجتماعية، القومي لا يبغي شيئاً لنفسه ، لا منفعة ،  ولا كسباً ولا مصلحة، ولا أي نوع من أنواع المطالب. القومية لم تعده بشيئ لنفسه. هذا أساس لا لبس فيه.

  . في هذا المستوى تضمحل ال ” أنا ”  وتحل محلها الجماعة وتصبح  بديلا لها. إن ارتباط الفرد بالجماعة ارتباط جذري  وجداني.

والأهم أنه  ليس صدفة أن يقسم القومي بشرفه قبل حقيقته و معتقده، وهذا ما يمنح الأساس الأخلاقي أولوية عليا . وفي هذا القسم أيضا ، يدرج سعادة احترام القوانين و الخضوع  للانظمة، وهي من جملة الفضائل النفسية .

و حتى في المبادئ الاساسية ، تشكل خاتمتها القاعدة الاخلاقية الثابتة، أساس كل النظرة الفلسفية : مصلحة سوريا فوق كل مصلحة .

وإذا عدنا إلى تاريخ الحزب وجدنا أن سعاده تعامل بسعة صدر مع كل  الحالات الفكرية الشاذة وغبر الدستورية،  فحاور و صبر وأعطى أكثر من فرصة لأصحابها، لكنه بالمقابل كان صارماً في التجاوزات الأخلاقية .

    ننتقل الى المستوى الثاني و هو المستوى النفسي  ، فبالإضافة إلى الفضائل الاخلاقية، ثبّت سعادة  الفضائل النفسية  وهي الصلابة والعزيمة، والإصرار، والإرادة،  والثقة بالنفس، والثقة بالأمة و المؤسسات …، كل هذه الفضائل هي بأهمية  الفضائل الأخلاقية لأنها ضمانة  لحماية النموذج .

و في هذا الأساس، نجد فضيلة الصبر إذ يرى سعاده أن صبرنا هو “أعظم صبر في التاريخ” .
أما الأساس الثالث فهو الأساس الفكري، أي المعرفي المتمثل  بالتفكير و التحليل و التخطيط  والقدرة على التمييز و التحديد. في هذا النموذج يزول التشويش و التخبط و البلبلة و التعميم، ليحل مكانها الوضوح  والتعيين.  فبعد الفهم يمكن تكوين رأي، وبعد الاطلاع يمكن تكوين رأي،  وبعد كل ذلك يمكن حدوث الانتماء.

هذا هو مثلث  الإنسان الجديد و عليه لا يمكن لهذا النموذج  أن يقوم إلا على هذه الأسس .

و الأهم من ذلك، أن هذا النموذج هو أساس الفكر التربوي  لدينا. غرض التربية في القومية الاجتماعية هو  إقامة هذا النموذج. نحن نعدّ الأشبال  والطلبة والأعضاء على هذه  الأسس. كل مناهج التربية لدينا يجب أن تقوم على هذه المقاربة. بهذا يختلف نموذجنا التربوي عن كل النماذج التربوية الأخرى غير النهضوية .
و هذه الأسس متلازمة متوازنة،  فإذا سقط  أحدها،  لا يمكن قيام النموذج على الأسس الباقية . فلو سقط الأساس  الأخلاقي ، فأي قيمة تبقى لنموذج عالي الفكر وعالي النفس و لكنه  فاقد الفضائل و الأخلاق  أو يعمل  لشخصه فقط؟ نموذج يفتقد إلى الصدق أو الأمانة أو الوفاء؟ و إذا سقط الأساس  النفسي، فيسقط النموذج عند أول امتحان نفسي او ضغط. إذا فقد الانسان الإرادة والصلابة و الثبات و العزم و الإصرار،  ينهار تماماً. هذه أكتاف الجبابرة التي تكلم عليها سعاده.هي إحدى  الضمانات . و إذا سقط الأساس الفكري،  يصبح النموذج عرضة للاضمحلال نتيجة  فقدان الإتجاه و فقدان البوصلة  وفقدان القدرة على اتخاذ المواقع و المواقف الصحيحة . 

 هذا النموذج ، وبشكل مبسط ، لم يعد  يتجاوب مع الخطاب الغرائزي الذي تثيره عصبيات الطوائف أو المذاهب او الاتنيات أو غيرها .
يرفض القومي أن  ينتظم في أي مؤسسة غير نهضوية أو معادية لوحدة الأمة ، مؤسسة على الانقسام الاجتماعي .
هذا النموذج  بطل ان يمارس أي من عادات القبائل التي ورثناها، أو عادات متخلفة مخالفة لقيم  فكرنا النهضوي.

 و في هذا النموذج تخلى القومي عن كم كبير من التراث اللانهضوي، لم يعد  بندقية و لا  حربة في يد قطعان الطوائف أو المذاهب  أو الأحزاب الرجعية، لم يعد يحركه كل خطابها و لا تحريضها  ولا يتبنى أياً من مقولاتها العنصرية او الانفعالية.
في هذا النموذج  اصبح القومي يطبق مبدأ المساواة بين الذكر و الأنثى الذي يؤمن به والذي قالت به القومية الاجتماعية.
هذا النموذج هو نموذج أقام قطيعة مع كل ما هو سائد غير نهضوي، نموذج مخالف لكل السياق المتخلف .

بطل القومي أن يكون في أي موقع مخالف للنموذج القومي الاجتماعي تحت أي اعتبار .
أي أساس كان الأصعب؟ في أي أساس رسب القوميون الذين تركوا الحزب لعدم قدرتهم على احتماله؟

 هذا سؤال يفتح أفق التفكير للتحليل لا للاتهامات  . 
 برأيي  لعله الأساس المناقبي القائم على التخلي عن النزعة الفردية بشكل كامل. وقد كان سعاده مدركاً خطورتها منذ اللحظة الأولى للتأسيس .
لم يرسب القوميون في الامتحان النفسي .عانوا كل النواع  الضغوط  والاضطهادات والأحكام القضائية و التعذيب و التنكيل والسجون، ولم ينهزموا. ولكن هل كانوا على هذا المستوى أمام النزعة الفردية؟  هذا سؤال رهن التفكير الوجداني .
و يسأل الرفيق جان داية : ” السؤال الآن : ما هو سر إقبال عشرات الأمراء والمشايخ والبكوات الى حزب يدعو الى إلغاء الإقطاع؟ و يعطي امثلة كثيرة منهم البيك و الأمير و الشيخ و لعل أشهر هم  سعيد تقي الدين الذي تخلى عن المشيخة مقابل هذا الفكر“؟.

هذا النموذج  وصل في عطائه الى حالة الاستشهاد الطوعي في المواقع التي تحفظ كرامة الامة. فكانت قوافل الشهداء  والاستشهاديين حالة فريدة في تاريخ امتنا الحديث لا يمكن تفسيرها الا من هذا المدخلل. هم آمنوا و صدقوا ومارسوا وأعطوا. لم يترددوا لحظة و شكلوا الغازاً صعب فك طلاسمها بالمقاربات العادية .

في القومية الاجتماعية، و من اللحظة الأولى التي يقبل القومي عليها، يدرك أنها درب الجلجلة، لا تعده بشيء لنفسه  لا منصب و لا مكسب و لا منفعة  و لا مراتب، بل تنتظره كل أنواع المتاعب، و مع ذلك يحمل صليبه و يسير . لا يتأفف و لا يشتكي و لا يتهرب من تحمل مسؤولياتها  ولا نتائجها. هو من اللحظة الأولى يدرك هذا التحدي و ما قد يجره عليه. لذلك، هي قضية لا تحملها  إلا أكتاف الجبابرة. وقد أطلق عليها الأمين شوقي خيرالله صفة  الرسولية. وأعلى ما يمكن أن  تهبه المؤسسة للمقبل على الدعوة، أن تمنحه وساماً كوسام الثبات مثلاً بعد انقضاء خمسين سنة من النضال. فيكون قد ختم حياته في هذه النهضة رهناً لها و ربما تتوج بزوبعة  تلف  نعشه، محمولاً على أكتاف رفقائه.
نعم، سعاده أسس نموذجاً كاملاً واضح المعالم واضح المواصفات واضح المعايير، سماه الإنسان الجديد  .
لقد كان سعاده النموذج الأول الذي تحققت فيه هذه  الأسس  وكانت الأمينة الأولى  ثاني نموذج كامل، أما كل من خاض التجربة  فتختلف في  درجة و نسبة تحقيق هذا النموذج  دون التقليل من قيمة أي منهم .

هذا النموذج أهم ما فيه أنه إعادة صياغة لكامل حياتنا، و ليس في الأمر مبالغة، لعل هذا هو معنى الدين الجديد الذي عنى به القومية الاجتماعية. 
إذا كانت النهضة حالة صراعية فكرية أخلاقية، فهذا النموذج هو ناتج تلك النهضة  وسيفها و تحققها.
ظن كثيرون أن في هذا الامر  استحالة، وهو غير قابل للتشكل و الاستمرار، لكنه تشكل واستمر و صمد و بقي. تعرض لاهتزازات  واضطرابات لكنه  بقي أصيلاً يحمل هوية واضحة رغم الندوب التي يحملها.
إن إعداد هذا النموذج مسألة شاقة و طويلة تتطلب تجاوز الامتحانات و الاختبارات. في كثير من المحطات لم تتعاط المؤسسات مع هذا الشأن بصلابة، فتعرض النموذج  للميعان والتراخي ، فكانت وبالاً على النهضة و المؤسسة .

في المحطات التي اهتز فيها هذا النموذج، اهتزت المؤسسة. لا يمكن التهاون في اهتزاز النموذج. هذه مسألة جوهرية لا يمكن التراخي فيها. إذا فسد النموذج اضمحلت القضية ..

إضافة إلى هذا النموذج،أسس سعاده نماذج أخرى كنموذج المسؤول القومي الجديد، وأيضا النموذج الجديد للسلطة و الذي اختلف عن كل من سبقه. السلطة في الفكر القومي الاجتماعي نموذج كامل يفتح كل أفق التفكير و التحليل  ليعيد ترتيب الفكر الدستوري كاملا على أسس مختلفة. وأيضاً أسس نموذج النائب القومي الاجتماعي إذا وصل الى البرلمان، كل هذه النماذج هي فتح جديد في مجرى الفكر الاجتماعي، و الأهم هي نماذج نهج و ليس فقط نماذج فكر. نحن أصحاب عقيدة وقضية، لذلك لا قيمة للنموذج إذا لم يتحول إلى فعل، إلى نهج  يعبر عن الفكرة بالتجربة الإنسانية .
    لعل هذه المقاربة تجعلنا جميعاً أمام امتحان جذري يحملنا مسؤولية كبيرة  في مدى تحقق هذا النموذج في كل منا .

لعل أفضل صياغة تعبر عن هذا النموذج، هي في عبارة سعيد تقي الدين :” لمجدك يا سوريا هذا القليل “.

ابراهيم مهنا

وكيل عميد الثقافة والفنون الجميلة

One thought on “خواطر في تأسيس الانسان الجديد .  

Comments are closed.