إثر لقاء باريس الأسبوع الماضي الذي ضم قادة أمنيين أميركيين و”إسرائيليين” ومصريين ورئيس الوزراء القطري لبحث موضوع حرب تشرين الثانية وإمكانيه التوصل الى هدنة او الى وقف لإطلاق النار، صدر عن اجتماعهم ما يفيد بنجاح اللقاء في التوصل الى اتفاق إطار، وأنّ الهدنة سوف تسري بعد أيام قليلة، مما أثار أجواء احتفاليه عند من أسعدتهم هذه الأخبار التي أكّدتها مصادر قطرية رسمية وروجت لها قناة قطر الإعلامية.
حسب ما أوردته الانباء، فإنّ الاتفاق ينص على هدنة من مراحل، يتم في كل مرحلة منها الإفراج عن قائمة من الأسرى “الإسرائيليين” لدى المقاومة مقابل الإفراج عن أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، واتسم ما نشر بالعموميات وامتلأ بالثغرات التي تفترض حسن النية “الإسرائيلية”، وهذا ما يذكّرنا بصفقة تبادل الأسرى المعروفة باسم صفقة وفاء الأحرار أو (شاليط) عام 2011، حيث تم الافراج عن “الإسرائيلي” المذكور مقابل الإفراج عن أسرى فلسطينيين سرعان ما أعاد الاحتلال اعتقالهم دون توجيه أي تهمة جديدة لهم.
أثار ما تقدّم شيئًا من العجب والاستغراب وتولّدت عنه مجموعة من الملاحظات:
الملاحظة الأولى أنّ من اجتمعوا في باريس ووضعوا اتفاق الإطار يمكن تصنيفهم عمليًا على أنهم ينتمون الى صنف واحد وينتمون الى ذات المعسكر الغربي، وإن رأى آخرون نظريًا أنّهم فريقان، الأوّل هو الأميركي- الإسرائيلي باعتباره طرفًا صريحًا ومباشرًا في الحرب فيما المصري والقطري هم أطراف محايدة، ولكن الاتفاق تم بغياب أي طرف مباشر أو غير مباشر يمثًل طرف الحرب الآخر، أي المقاومة.
الملاحظة الثانية أنّ المجتمعين في باريس بدوا وكأنّهم لا يقرؤون الأخبار ولا يتابعون مجريات الحرب اليومية، فهم يفترضون أنّ المقاومة قد هزمت، وأنها مستعدّة للقبول بإذعان لما يعرض عليها، أو أنّها لا تزال كما كانت في السابق، تدخل المصيدة وتلدغ من ذات الجحر المرة تلو المرة.
الملاحظة الثالثة أنّ قرار الحرب قد اتخذته قياده المقاومة في غزة، وتحديدًا قيادة حركة حماس، دون التنسيق لا مع شركائها في محور المقاومة ولا مع قياداتها في قطر، لا من ناحية قرار الحرب ولا من ناحية توقيت ضربة السابع من تشرين الأوّل. ولمّا كان قرار الحرب في غزّة، فإنّ قرار الهدنة أيضًا في غزّة، كما أي قرار آخر يتعلّق بالحرب لن يصدر إلّا بموافقه من خطّط لها وأعلنها وقاد معاركها. والمقاومة وإن كانت قد حقّقت ضربة مدهشة في ساعات الحرب الأولى، إلّا أنّها لا زالت تدهش الصديق والعدو على حد سواء، إن بقدرتها على استعمال أدواتها الفقيرة والمتواضعة في مواجهة جيش من أقوى جيوش العالم تسليحًا وتكنولوجيًا، إضافة الى ما يملكه من قدرات لوجستية هائلة يقابلها صفر في قدرات المقاومة اللوجستية بسبب الحصار.
الملاحظة الرابعة أنّ حكومة الاحتلال، وبالرغم من تلعثمها الإعلامي الذي يتحدّث عن انتصارات وهميّة وعن تدمير 16 كتيبة أو 18 كتيبة من كتائب المقاومة، وأنّ شمال غزّة قد تمّ إخراج المقاومة منه نهائيًا، وهي أخبار تكذبّها الوقائع على الارض، إلا أنّ الإعلام “الإسرائيلي” من جانب آخر يؤكّد أنّ قدرات المقاومة لا زالت عالية. هذا والحكومة “الإسرائيلية” لا زالت تعلن أنّ هدفها الأوّل هو القضاء على المقاومة وعلى إعادة تركيب قطاع غزه بإخراج السكان من شمال القطاع وإبقائه منطقة مكشوفة لا بشر فيها ولا شجر ولا أبنية سكنية، وعلى أنّ قطاع غزة يجب ألّا يمثّل أيّ تهديد لسكان غلاف غزة في المستقبل.
المسافة بين ما تطرحه المقاومة وما يطرحه “الإسرائيلي” تقارب المسافة بين مشارق الأرض و مغاربها، فالمقاومة تطرح شروطها التي تتضمّن وقف إطلاق النار والانسحاب الشامل من قطاع غزة وإطلاق سراح جميع الأسرى في سجون الاحتلال، وإنهاء الحصار المفروض على غزّة وإعادة إعمارها، ثم تنتقل مطالبها الى القدس والضفة الغربية مطالبة بإجراءات لحماية المسجد الأقصى من التوغّل التلمودي ووقف الاستيطان بالضفة الغربية ووقف عمليات الاجتياح والاقتحام والاعتقال والاغتيال اليومية، فيما يطرح “الإسرائيلي”، وكما أعلن نتنياهو أوّل أمس السبت وكرر ذلك أمس الأحد في جلسة مجلس الوزراء، أن لا وقف لإطلاق النار ولا انسحاب للجيش “الإسرائيلي” من غزة ولا لإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في السجون “الإسرائيلية” وأنّ حكومته وجيشه سيحررون “الإسرائيليين” المحتجزين لدى المقاومة بالقوة.
في واشنطن يقول مستشار الأمن القومي جاك سوليفان: يجب نزع سلاح المقاومة وعودة جميع الأسرى الذين تحتجزهم من أجل وقف إطلاق النار، فيما يتوجّه وزير الخارجية الأميركي الى منطقتنا لدعم هذا الاتفاق الهزيل متحدثًا من جديد عن إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية في رام الله وممارسة الضغط على أصدقاء واشنطن لإقناع المقاومة الضغط عليها للقبول بالدخول في هذا الاتفاق العجيب.
الذي يريده الإسرائيلي ولا يعلنه هو تهجير أعداد كبيرة من أهل غزة الى سيناء، الأمر الذي سيضطره لارتكاب مزيد من المجازر، فيما استقبالهم في مصر سيكون تحت حجة إنسانية، ولكن ما لا يعرفه “الإسرائيلي” والأميركي وأصدقاؤهم، أو ما لا يريدون معرفته أنّ المقاومة هذه المرة غير ما ألفوه في المرّات السابقة وتحقيق الهدنة في هذه الشروط غير وارد، وإنّما الوارد هو استمرار الحرب واتساع رقعتها.
سعادة مصطفى ارشيد
جنين- فلسطين المحتلة