ابتداء، بات واضحا أن العدو الصهيوني ومعه الامبريالية الأمريكية أعجز من يكسرا إرادة الشعب العربي الفلسطيني ومقاومته الباسلة، ومعهما محور المقاومة الذي راح يتشكل كلاعب إقليمي متقدما على عواصم ودول معروفة رغم ما تملكه من النفط والغاز أو ترسانات الأسلحة.
إلى جانب ذلك، لا تزال واشنطن وأتباعها الصهاينة والعرب تتبنى النظرية المتهالكة والمتهافتة المعروفة بعقيدة الصدمة، وملخصها تصعيد أزمات دموية إلى حد الدمار والخراب، ومن ثم إعادة السيطرة عليها من خلال (إعادة إعمار) تشكل بحد ذاتها مدخلا لترويض وإعادة إنتاج الهيمنة الإمبريالية وشركاتها من نمط “بكتل” بعد العدوان على العراق.
انطلاقا من ذلك، ورغم الآفاق المسدودة بالنار والمقاومة وصلابة أهل غزة، بدأت أوساط أمريكية – نفطية تتحدث عن مشاريع اقتصادية لطي صفحة المقاومة وإدخال غزة في لعبة العقيدة المذكورة، وبحيث تؤسس لبيئة اقتصادية – اجتماعية مضادة بعد الحرب، كما تتوهم وبدون الاكتراث بالنتائج الوخيمة التي أسفرت عنها هذه العقيدة حيث طبقت في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية وروسيا والعراق كما سنرى.
بعد كتاب اعترافات قاتل اقتصادي لجون بيركنز، أحد مهندسي ورجال البنك الدولي الذي فضح فيه دور البنك في تحويل الدول والاقتصادات التابعة بما في ذلك الغارقة في الديون ولعبة المصارف إلى دول فاشلة تحت رحمة القناصل والسفارات الأطلسية، ثمة شهادة أخرى من قلب العالم الرأسمالي ولا سيما الأمريكي عبر كتاب عقيدة الصدمة ورأسمالية الكوراث للكاتبة نعومي كلاين.
فإذا كان إغراق الدول بالديون وفلسفة البنوك الرأسمالية، مدخل المتروبولات الرأسمالية للسيطرة عليها، فإن عقيدة الصدمة مع استخدام كل الأشكال الإجرامية والفاشية وبالعلن وشيطنة أي تدخل اجتماعي – اقتصادي للدولة لصالح الفقراء والطبقة الوسطى، تحت عنوان (الشمولية) هو مدخل المتروبولات الرأسمالية لهذه السيطرة وفق نعومي كلاين، ومن نماذج ذلك:
تشيلي
يعود تحالف مدرسة شيكاغو للسوق الحرة المطلقة وفيلسوفها فريدمان مع المخابرات الأمريكية إلى خمسينيات القرن العشرين، عندما لاحظ الأمريكيون صعوداً للقوى المناهضة لهم سواءً من اليسار الراديكالي أو من مدرسة التنمية وفك التبعية، فراحوا يدربون ويعدون موجات من الطلاب في الجامعة الكاثوليكية 1956 ثم يرسلونهم لاستكمال دوراتهم في جامعة شيكاغو بدعم من مؤسسة فورد رغم ذلك ظلت المناخات العامة في تشيلي معادية للإمبريالية الأمريكية وعبرت عن ذلك في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت عام 1970 وفاز فيها الوطنيون برئاسة الشخصية اليسارية سلفادور الليندي.
رداً على ذلك تشكلت في واشنطن برئاسة كيسنجر (اللجنة الأمريكية الخاصة بتشيلي) بالتعاون مع مدرسة شيكاغو وفريق فريدمان ومع شركة الهواتف والتلغراف أي.تي.تي، وقامت هذه اللجنة بالتنسيق مع قيادة الجيش بزعامة بيوشت بانقلاب عسكري في الحادي عشر من أيلول 1973 أدى إلى اغتيال الرئيس المنتخب الليندي، بعد مقاومة مع 32 موظفاً وجندياً فقط كانوا معه في قصر لامونيدا.
بعد الانقلاب مباشرة وعلى طريقة الصدمة والترويع، حشد جنرالات الجيش والمستشارون الأمريكيون عشرات الآلاف من العمال والطلاب والمثقفين في ملعبين لكرة القدم وراحوا ينفذون فيهم حكم الإعدام، ومنهم الموسيقي وأستاذ الفنون فكتور غارا بعد تقطيع أصابعه.
عاشت تشيلي بعد تلك المذابح طفرة اقتصادية في مجال الاستثمارات الخاصة بإشراف فريدمان ومدرسة شيكاغو، ومقابل السيارات الحديثة والمولات والأسواق الكبرى، كانت مدن الصفيح تتسع كل يوم بالإضافة إلى فساد غير مسبوق كان نصيب بينوشت وحده 125 حساباً سرياً في مصارف خارجية وفق تقرير لمجلس الشيوخ الأمريكي 2005 ولم تمض سنوات على طفرة مدرسة شيكاغو ونصائحها الاقتصادية، حتى دخل الاقتصاد التشيلي مرحلة انهيار مدوية بلغت ذروتها في العام الذي توفي فيه بينوشت (خارج الرئاسة) في 2006 بعد شهر من وفاة فريدمان نفسه.
الأرجنتين
كما تم إسقاط الحكم الديمقراطي المنتخب في تشيلي على يد تحالف شيكاغو والمخابرات الأمريكية والشركات على طريقة الصدمة 1973، جرى إسقاط إيزابيل بيرون في الأرجنتين بانقلاب عسكري مماثل شهد كل أشكال وتعبيرات الصدمة والترويع: اختطاف وقتل وتعذيب آلاف المعارضين للسياسات الأمريكية مع إضافة جديدة هي عزل الأطفال الذين يولدون في السجون عن أمهاتهم وتحويلهم إما إلى مختبرات بيولوجية، وإما إلى مدارس لإعداد المرتزقة.
بولندا
في تصريحين لزعيمين من زعماء حركة تضامن البولندية بعد نجاح الثورة المضادة في ذلك البلد، قال فاليسا رئيس الحركة الذي صار رئيساً لبولندا: من سوء حظنا أننا فزنا في الانتخابات.
وقال نائبه: إن أسوأ ما في الشيوعية المرحلة التي تلتها.
وقد أظهرت التطورات اللاحقة أنهما كانا يدركان تماماً ما يقولان، وأن ثورة الصدمة المضادة التي أدارتها المخابرات الأمريكية لن تنتهي على خير، إذ تبين أن القائد العمالي فاليس كاز على صلة وثيقة مع جيفري ساكس من تلامذة مدرسة شيكاغو وجورج سوروس معاً (مهندس الثورات الملونة) فضلاً عن علاقة ساكس مع المخابرات الأمريكية ودوره كمستشار متنقل للرؤساء (فاليسا ثم يلتسين) في روسيا وقبلها رئيس بوليفيا وهكذا..
في المحصلة، إذا كان فاليسا قد نال جائزة نوبل، فإن بولندا بسبب ثورة الصدمة التي أدارها الأمريكيون ومدرسة شيكاغو وفيلسوفها فريدمان نالت ما هو أسوأ:
تدهور الاقتصاد وانخفاض الإنتاج الصناعي بنسبة 30% وارتفاع نسبة البطالة بمستويات مماثلة ووصول خط الفقر إلى 55% وهو ما أدى في أول انتخابات غير مزورة (لم تتكرر) إلى فوز اليسار بنسبة 66%.
روسيا
بصرف النظر عن الظروف التي أدت إلى صعود غوربا تشوف في روسيا، فإن العنوانين اللذين طرحهما من أجل روسيا جديدة، جزء من القاموس الليبرالي لمدرسة شيكاغو ومهندسها اليهودي ميلتون فريدمان، وهما الغلاسنوست أي الانفتاح (يذكرنا بالشعار الذي طرحه السادات بعد توليه السلطة إثر وفاة عبد الناصر) والبيروستريكا أي إعادة الهيكلة، الشعار المفضل للبنك الدولي ومدرسة شيكاغو، وعندما لم يظهر غوربا تشوف (غوربي) بسب الصحافة الأمريكية حماسه لترجمة مشروعه على طريقة الصدمة المتبعة عند مدرسة شيكاغو المفرطة الليبرالية في دعوتها للخصخصة والسوق الحرة المطلقة، كان يلتسين المدمن جاهزاً أكثر إلى جانبه مستشاره الجديد رسول مدرسة شيكاغو والمخابرات الأمريكية (جيفري ساكس) الذي جهز المسرح الروسي لفريق يهودي كامل من مدرسة شيكاغو راح يقضم الموارد الروسية بأسعار متدنية للغاية:
إيغور غيدار.
شوبايس وزير الخصخصة.
خودوركوفسكي الذي اختلق شركة يوكوس للنفط ومصرفاً تابعاً لها (اعتقله بوتين وزج به في سجن سيبيريا).
بيريزوفسكي، هرب إلى لندن.
يوري سكوكوف لإدارة الجيش والأمن وغيرهم.
لكن الصدمة التي أرادها فريدمان وفريقه مقدمة للمزيد من وضع اليد على روسيا تحولت إلى صدمة مضادة من حيث رد الفعل الشعبية في ضوء:
انخفاض معدل الاستهلاك بنسبة 40%.
إفلاس 80% من المزارعين.
إغلاق 70 ألف مصنع.
ثلث السكان تحت خط الفقر.
مليون طفل مشرد.
زيادة جنونية في نسب الانتحار والجرائم والإدمان والإصابة بالإيدز وانخفاض عدد السكان.
وهو ما عبرت عنه شعارات الجدران ونفق مترو موسكو، التي تحولت في غضون سنوات قليلة من الترحيب بغورباتشوف ويلتسين إلى حملة عليهما والحنين إلى الاشتراكية السابقة، سرعان ما انعكست على (أول برلمان منتخب ديمقراطياً) فدعا إلى رفض شروط صندوق النقد الدولي، وإلى استقالة غيدار (لا يذكر الكتاب الحملة ضد الفريق اليهودي في إدارة الدولة وإعادة طبع روايات دوستويفسكي وانتشار موسيقى الألماني الكبير فاغنر المعروف بأفكار تشبه أفكار دوستوفيسكي من الليبراليين واليهود).
لكن يلتسين بدلاً من تفهم هذه المطالب قام بدعم الغرب (الديمقراطي) بحصار البرلمان وقصفه بالدبابات، مما تسبب في مقتل 500 شخص وجرح ألف تقريباً في معركة مع النواب والحراس الخاص بالبرلمان، وهو ما أدى إلى دكتاتورية يلتسين بلا برلمان سمحت بسرقة معظم الموارد الروسية على يد فريق مدرسة شيكاغو وبأسعار شبه مجانية.
فقطاع النفط الذي بلغت مبيعاته 2006 عشرات المليارات من الدولارات بيع بـ80 مليون دينار، وقطاع النيكل الذي كان ينتج خمس الإنتاج العالمي وبأرباح سنوية بحدود 2 مليار دولار بيع بـ 170 مليون، وقطاع واسع من الأسلحة بيع بـ 3 مليون دولار.
وللمرة الثانية لم يسفر قصف البرلمان بالدبابات وسط تأييد مدرسة شيكاغو والأوساط الليبرالية عن صدمة في خدمة هذه المدرسة، بل أدت إلى العكس وصعود بوتين من قلب الفريق نفسه قبل أن يتخطاه، وكان أفضل تعبير عن فشل الليبراليين والأمريكان ومدرسة شيكاغو قول الكاتب الروسي غريغوري غورين: العيش تحت رحمة دكتاتورية رجال الأعمال لم يكن أفضل من ديكتاتورية الشيوعيين.
جنوب إفريقيا
رغم عقود طويلة من الكفاح ضد نظام الاستعمار الرأسمالي العنصري الأبيض، وترجمة هذا الكفاح في ميثاق الحرية بقيادة المؤتمر الوطني الإفريقي من عام 1955 (يدعو إلى إعادة الثروات الوطنية للسكان الأصليين وإلى ربط الحرية والسلطة السياسية بإعادة توزيع الثروة على المجتمع كله) إلا أن مدرسة شيكاغو عبر شخصيات مثل تابومبيكي اخترقت المؤتمر الوطني الإفريقي وفريق مانديلا وفتحت شعار تأجيل الموضوعات الاقتصادية.
وأطلقوا تسوية سياسية رغم سقوط النظام العنصري، حافظ فيها البيض الرأسماليون على وزارة المالية وإدارة البنك المركزي. وكانت النتيجة ازدياد نسبة البطالة بين السود (48%) وطرد الملايين من المزارعين وازدياد نسبة الجريمة.
آسيا
منذ البداية تم تصعيد النمور الآسيوية كفضاء إلكتروني وخاصة عبر البورصات مما سهل ضربها بالصدمة انطلاقاً من شائعة حول تايلند وعجزها عن توفير ما يكفي دعم عملتها، تلتها حالات ذعر واسعة واختفاء مئات المليارات من الدولار في غضون أشهر فجاءت الصدمة الثانية مع الهيجانات الشعبية التي اجتاحت الأسواق والمولات (خلالها سقط حكم سورهاتو الفاسد الدموي في اندونيسيا)، وإغلاق عشرات الآلاف من الشركات الصغيرة، وبدلاً من مراجعات واسعة لما جرى ارتبطت الصدمة الثالثة بتجريف اجتماعي لأي شكل من التدخل الاجتماعي للدولة، فانخفض حجم الطبقة الوسطى وارتفعت معدلات البطالة وتم وضع اليد في كوريا الجنوبية على شركات ناجحة مثل دايو، هونداي، وسامسونغ.
اندونيسيا
مقابل مدرسة شيكاغو ومشاركتها المعروفة في ترجمة فلسفة الصدمة والإدارة الدموية لها في أكثر من مكان، عرفت اندونيسيا شكلاً مماثلاً هو مافيا بيركلي في جامعة كاليفورنيا التي أنتجت طبعة منها في جاكارتا بدعم فورد.
وقد أشرفت هذه المافيا إلى جانب قائد الجيش سوهارتو وميلشيات إسلامية على تنفيذ أكبر مذبحة في التاريخ المعاصر تراوحت بين نصف مليون وبين مليون شخص بحسب الروايات المختلفة كانوا في مناطق نشاط الحزب الشيوعي.
سيرلانكا
انتهزت مدرسة شيكاغو وتشبيكاتها القوية مع الإدارات والمؤسسات الأمريكية كارثة تسونامي لتحويلها إلى صدمة تأخذ سيرلانكا إلى الاقتصاد المفتوح وإلى التخلص من مدن الصيادين وأكواخهم لصالح عالم من الفنادق والمولات وملاعب الغولف، وقد قوبلت هذه السياسة ولا تزال بمقاومة شعبية متزايدة.
جزر المالديف
وبالمثل ما جرى مع جزر المالديف (200 جزيرة مقابل الهند) التي تحولت إلى افتقاد السياحة الترفيهية.
العراق
كانت العراق أول دولة عربية وضعت على قائمة الاستهداف بعد الانهيار السوفياتي باعتبارها من آخر (الدول الشمولية) إلى جاب إيران وكوريا الشمالية والمغرب وسوريا وليبيا والجزائر، إضافة إلى احتياطي النفط الكبير فيها.
وقد تراوحت القراءات الأمريكية بشأها بين تحطيمها واختصارها إلى مركز استخباراتي نفطي في المنطقة الخضراء، وبين التعاطي معها كمصدر للنفط وإزاحة المنافسين مثل توتال النونسية وغاز بروم الروسية وبين تقاسمها بين الشركات الأمريكية بكتل وهاليبرتون وأكسون موبيل. كما ظهر تيار صغير يدعو إلى اعتبارها محطة لكل المنطقة وفق النموذج التشيلي 1973 في أمريكا اللاتينية.
إلى ذلك تم إدخال العراق في السيناريو المتكرر لمدرسة شيكاغو والمخابرات الأمريكية حول الصدمات المتسلسلة: صدمة القوة والترويع باستخدام 20 ألف صاروخ كروز في الضربة الأولى وكذلك أم القنابل (950 كيلو غرام) وغيرها في عرض تلفزيوني أمام العالم كله.
كما في صدمة الخوف والهلع العام والكشف عن تفاصيل التعذيب في السجون، كما في حالة سجن (أبو غريب) وفق دليل كوبارك الذي تستخدمه المخابرات الأمريكية في التعذيب وبالإضافة لأكبر عملية نهب في التاريخ قام بها المستعمرون، دخل العراقيون في مسلسل دموي جماعي من القتل والخطف والتجويع وافتقاد الحد الأدنى من خدمات الصحة والكهرباء والمياه والأمن في بلد نفطي يمر فيه نهران كبيران.
لبنان
تكررت محاولات إدخال لبنان في عالم الصدمة ومن ثم إعلانه دولة سوق مفتوح دون أي تدخل اجتماعي من قبل الدولة، وارتبطت هذه المحاولات بالأزمات المتعاقبة التي عاشها هذا البلد ومنها محاولة إدخاله في عقيدة الصدمة بعد عدوان 2006 تحت عنوان (إعادة الإعمار) فطرحت دعوات خصخصة ما تبقى من قطاعات الكهرباء والهاتف وزيادة أسعار المحروقات وتخفيض الإنفاق الحكومي والدعم الاجتماعي وإنقاذ سوليدير بالمقابل وبحسب الكتاب (ص615-617) فقد جاء الرد من حزب الله من خلال:
توفير بدائل اجتماعية واقتصادية.
توظيف 30 ألف مهندس في إعادة الإعمار.
دفع لكل عائلة متضررة بدلات إيجار عام كامل أكثر مما تلقته العائلات الأمريكية المتضررة من إعصار كارولينا.