“إسرائيل” في قفص اتهام محكمة العدل الدولية والشعوب الحرة

حرب المئة يوم في غزة أشبه بحرب المئة عام في أوروبا في القرون الوسطى، لو لم تستدرك دولة جنوب أفريقيا وتنقذ من يزعم اليوم أنه العالم الحر إلى الاستيقاظ وإحلال القانون الرادع اللغة لمواجهة همجية دولة الكيان الغاصب، التي نشأت على الأساطير ولا زالت تعتمد الأساطير القديمة وأبعد من القرون الوسطى نهجاً، فتسير في مخطط الإبادة في محرقة حقيقية يقشعر لها بدن أحرار العالم كله.

دولة “جنوب افريقيا” الدولة ما قبل الأخيرة أي قبل فلسطين، في التخلص من نير الاحتلال ومفاعيل العنصرية   منذ وقت ليس ببعيد. كانت من أول الدول التي سارعت إلى مواجهة دولة الاغتصاب الصهيوني، التي لم تنفع معها بعد كل محاولات وقف جنونها وهمجيتها وأداة قتلها وإبادتها. وكان الخيار الأولي هو وضع “إسرائيل” في قفص الاتهام في مشهد طالما تاقت له أمتنا والبشرية وفي سابقة لم تحصل بعد. لكن ما ساعد على ذلك أن الدولتان، جنوب أفريقيا وكيان الاحتلال الإسرائيلي سبق لهما التوقيع على اتفاقية “منع الإبادة الجماعية “عام 1948.

لعل أبرز دافع لجنوب افريقيا لتساعد فلسطين، معاناتها من الحكم العنصري الذي عانت منه، عدا ما تحمل هذه الدولة من تراث القائد التاريخي نلسون مانديلا، الرجل الذي انتزع بالنضال حرية بلاده من براثن التمييز العنصري الذي أحكم قبضته عليها عقوداً طويلة، ومن إمبراطورية كانت لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا).

مانديلا، صديق فلسطين ونصير قضيتها، لطالما اعتبر أن “إسرائيل” لا يمكن ان تتحدث عن السلام طالما هي تحتل أرضاً عربية. انطلاقاً من هذا التعاطف التاريخي، وفي اليوم المئة لحرب الإبادة الجارية، استطاعت دولة جنوب أفريقيا أن تضع دولة الاحتلال في قفص اتهام محكمة العدل الدولية في لاهاي، أمام ذهول العالم وصعوبة تصديق دولة الاحتلال نفسها بأن شيئاً من هذا يمكن أن يحصل، وسط ما كانت تعتقده من دعم غير مسبوق من معسكر الامبريالية الغربية.

لقد استطاعت جنوب افريقيا أن تفرض ملفاً غنياً بالوثائق والأدلة من 84 صفحة تضمن حقائق تاريخية عن فلسطين من النكبة الى النكسة وصولاً الى معاناة الفلسطينيين، استندت فيه الى تصريحات القادة الإسرائيليين الداعية منذ اللحظة الأولى لعملية طوفان الأقصى إلى تدمير قطاع غزة واعتماد نهج الإبادة الجماعية وتشريد ونفي من يتبقى من أهل غزة إلى خارج فلسطين. بعدما نعتت الناس وأهل الأرض بـ “الحيوانات” تمهيداً لهذه الإبادة المسندة برأيهم إلى كتابهم التوراتي واصفين الشعب الفلسطيني ” بالعماليق”، ومعلنين بوضوح أنهم لن يكتفوا بحصيلة الثلاثين ألفاً وبينهم عشرة ألف أطفال، بل يريدون الوصول إلى إبادة مئة ألف وجعلها أي غزة، مكاناً غير صالح للحياة. وهذا ما فعلوه من خلال قطع إمدادات الماء والكهرباء والطعام وتدمير مؤسسات الطبابة والاستشفاء.

 كل هذا تضمنته صيغة الادعاء الجنوب افريقي، من قبل فريق بارع من القضاة الذين يحظون باحترام دولي كبير، وبينهم أيضاً ممثل عن جمهورية إيرلندا.

وتهدف الدعوى المقدمة إلى محكمة العدل الدولية إلى تجريم دولة الاحتلال بتهمة الإبادة الجماعية، وهو الأمر الذي تتخوف منه الولايات المتحدة الأميركية التي تدرك أن هذا سيكون هزيمة أخرى، لا سيما على الصعيد الإنساني، والتي ستلحق بالكيان الغاصب بعد سلسلة من هزائم أمنية وسياسية وعسكرية أدت إليها عملية طوفان الأقصى.

استطاعت المحاكمة التي استمرت ليومين، الأول للادعاء والثاني للدفاع والذي كان باهتاً هزيلا، بعدما استطاعت نتائج العملية (طوفان الأقصى) وتداعياتها أن تخترق عملية كي الوعي التي راكمتها تل ابيب طيلة خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال والقتل والتهجير والاستيطان. وكان آخرها عملية الإبادة المشهودة التي تجري دون توقف إلى الآن.

المحكمة إذاً واحدة من النتائج، إضافة إلى ما أدت اليه وسائل التواصل الاجتماعي من إيقاظ عملية الوعي باختراقها التعتيم والتزوير الإعلامي الحاصل والتي استطاعت تعزيز الوعي الشعبي عالمياً، وأن تكون صوتاً ضاجاً بحق الشعب الفلسطيني بالحياة وحقه بأرضه. كل ذلك تحت نوافذ وشرفات قادة العالم المزعوم حراً، وبما يملكه من حق” الفيتو” على قوانين لطالما قدمتها دول تطالب بوقف الحرب ووقف القتل وجرائم الإبادة.

أهمية هذه المحكمة التي وضعت دولة الاحتلال والاغتصاب في قفص ارتكاباتها، أنها فندت ما يقوله أهل الأرض وأهل الحق. نحن أهل القضية في حربنا الوجودية التي نخوضها، مما ينقض كل مزاعم الاحتلال الصهيوني بحق له في أرضنا، كما تعزز حقنا في حرب تحريرية متخطية الأكاذيب والمزاعم الاستيطانية الاستعمارية والتي تهدف إلى اغتصاب الأرض وطرد الشعب وإحلال شعوب وأعراق أخرى تزعم من خلالها أنها صاحبة الأرض لأنها تؤمن بأسطورة لا مجال للعقل أن يصدقها.

لقد استطاعت ماكينة القتل الصهيوني أن تهجر أهل فلسطين عام 1948 إلى دول الطوق ثم تتركهم لاجئين يتهجرون إلى شتات بعيد، بينما هم المستوطنون الجدد يفتحون باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد سموها أرض الميعاد أو أرض اللبن والعسل حيث الأمن والأمان.

اليوم وبعد مئة يوم على بدء هذه الحرب يصر أهل غزة على البقاء، ولو فوق ركام منازلهم المدمرة بآلة الهدم والقتل، وفي خيم لا تقيهم برد كانون. يعانون الجوع والعطش وانعدام الطبابة بفعل جبروت وطغيان دولة الاحتلال، التي دمرت المشافي بمن فيها، وكذلك دور العبادة وكل عمران وصلت اليه، معللة نفسها بمراحل ربما تأتي لها بفتات نصر. لكن ما يحصل أن الدم قد هزم السيف وأن صبرهم لا بد سيأتيهم بحقوقهم المنزوعة بعدما لم يعد بالإمكان تجاهل ما يجري.

إن صَلَف وتجبر هذا العدو يسير إلى نهايته وها هو يفتش عن حلول اليوم التالي للعملية ورغم إعلانه عن خطة ثالثة، فيما المحكمة في لاهاي، التي ستعلن بعد أسبوعين خياراتها بوقف الحرب وتقديم الإعانات وتعزيز مشاريع إعادة الاعمار، قد لا تحظى بموافقة مجلس الأمن نظراً لاستمرار الولايات المتحدة في فرض “الفيتو” على قرارات هذه الهيئة الأممية لصالح دولة العدو الإسرائيلي. ولكن يتوقع لتوجهات المحكمة التي كشفت للعالم نوايا دولة الاغتصاب الإسرائيلي، أن تكون رادعاً لاستمرار صمت العالم عن شعب قتلوه منذ عقود وإلى اليوم. أما من يبقى حياً من الأطفال والعجزة والمرضى والجرحى، قد يموت جوعاً أو عطشاً.