بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي في أوائل التسعينات، أصبحت الولايات المتحدة الاميركية تشكل القوة “الأعظم”، دون منازع، مما فرض واقعاً جديداً في العالم، جعل من الولايات المتحدة تتحكم في الأنظمة الدولية وتفرض نظاماً عالمياً جديداً، مبني على أحادية القرار، فإنصاعت الكثير من الدول لمشيئتها، وأصبح نظام العالم الاقتصادي مبني على المصالح التي يؤمنها اقتصاد الولايات المتحدة الاميركية، ولعل الأسباب الرئيسية التي أدت الى إنهيار الإتحاد السوفياتي هي ذاتها التي تحدث اليوم والتي ستؤدي، بفعل الواقع وليس الضرورة، إلى إنكفاء الولايات المتحدة الاميركية عن السيطرة على العالم وربما إلى التقهقر إلى داخل الحدود.
إن الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إنهيار الاتحاد السوفياتي تتعلق بالبنية الاقتصادية وفاعليتها، والأيديولوجيا الجامدة، وتعدد القوميات، والمستوى المعيشي الموجه والمتدني، وفقدان القيادة، إن هذه الأسباب مشابهة في مضمونها، لما تعانيه الولايات المتحدة اليوم، من تدهور متسارع في الاقتصاد، ومن أيديولوجيا تخدم كل شيء سوى الدولة، ومن تعدد القوميات والثقافات المتناحرة، إضافة الى تدني المستوى المعيشي والتقديمات الاجتماعية نتيجة بنية الرأسمالية المتوحشة، ومؤخراً فقدان مركزية القيادة وإختلاف حاد في إستراتيجيات الدولة العميقة.
إنهيار اقتصاد الولايات المتحدة:
إن تنامي الدين العام للولايات المتحدة الاميركية ينبأ بإنهيار الاقتصاد، فبعد أن كان أربعة تريليون دولار في العام 1990 أصبح اليوم يناهز 31 تريليون دولار في العام 2022، مع نسبة تسارع متزايدة، فمن العام 1990 حتى العام 2008 كانت نسبة التسارع تقارب الـ 15 بالمئة، أي زيادة الدين مليار دولار يومياً. بينما تزايدت نسبة التسارع بعد العام 2008 وحتى العام 2019 إلى الـ 20.5 بالمئة، أي زيادة الدين 5.6 مليار دولار يومياً. هذا وإذا نظرنا إلى تزايد التسارع في نمو الدين العام لوجدنا أن نمو الدين العام من 22.5 تريليون في العام 2019 الى 31 تريليون العام 2022 بنسبة 46 بالمئة، أي زيادة الدين العام ما يقارب 8 مليارات دولار يومياً، من جهة أخرى، ووفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي، لم يواكب ناتج الدخل القومي سرعة تزايد نسبة نمو الدين، فبقيت تترواح بين 1 بالمئة في العام 1990، 4.7 بالمئة في العام 2000، و-2.7 بالمئة في العام 2019، و5.7 بالمئة في العام 2021. مما يعني أن تسارع نسبة نمو الدين العام ستتزايد بسرعة فائقة لتتخطى عتبة الانهيار.
السؤال الذي يأتي على ذهننا هو هل تستطيع الولايات المتحدة الخروج من هذه الأزمة الحقيقية؟ الجواب يكمن في الأدوات الاقتصادية التي تُستخدم لتأمين السيولة من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة هي خمسة: تضخم العملة، أي طبع العملة لتأمين السيولة، وقد تم إستهلاك هذا الخيار بشكل كبير، الإستدانة، وهذا يعني تنامي الدين، وقد وصل إلى نسبة لم تعد هناك قدرة للسيطرة عليه، التخلف عن الإيفاء يشكل سبباً رئيسياً في تدني التصنيف المالي وبالتالي زيادة المخاطر وزيادة كلفة خدمة الدين، إضافة إلى أزمات سياسية حقيقية قد تنشأ مع الجهة الدائنة، داخلية كانت أو خارجية، إعتماد سياسة الإنكماش الاقتصادي وتقليل الإنفاق العام، وهذا يؤدي إلى إنكماش في ناتج الدخل القومي مما يعزز نسبة الدين على نسبة الناتج الدخل القومي ويزيد من تسارع تضخم الدين. أخيراً زيادة الضريبة وهذا يقابله غلاء الأسعار من جهة، ويخلق بيئة تسرب للإستثمارات التي تعزز بنية الاقتصاد. عليه فإن الأدوات التي يمكن إعتمادها غير متوفرة أو صعبة المنال.
أيديولوجية الولايات المتحدة:
تقوم أيديولوجية الولايات المتحدة الاميركية على شراكة المحافظين (Conservatives) 34%، والوسطيين (Moderates) 29%، والليبراليين (Liberals) 16%، وتقدميين (Progressives) 2%، وعند إجراء إستفتاء الوسطيين والتقدميين الى أية جهة يميلون، تبين أن الشعب الاميريكي في المحصلة العامة ينقسم يساراَ ويميناَ، أي 48% محافظين مدعومين من الحزب الجمهوري الذي يؤمن بتدخل أقل للدولة، و47% ليبراليين مدعومين من الحزب الديمقراطي ويدعو إلى تدخل أكثر للدولة في البنية الاقتصادية. ولكن الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية مبني على شراكة من نوع آخر، فهي تقوم على تحالف بين المراكز المالية العليا والمراكز الصناعية العليا، وأي تشكل في تحالفها مركزية صنع القرار. إن هذه المصالح لا تخدم ذاتها، وإنما تخدم أيديولوجية واحدة تقوم على تحقيق غاية دينية عنصرية، (WASP (White Anglo-Saxon Protestant العرق الأبيض الانجلوساكسوني، التي تؤمن بتحقيق دولة “إسرائيل” من أجل الاسراع في ظهور المسيح. إن تحقيق هذه الغاية كان وما يزال على حساب إزدهار اقتصاد الولايات المتحدة الاميركية، ولعل بُعد عامة الشعب، بغالبيتها، عما يجري على مستوى صنع القرار هو نتيجة الرفاهية العالية التي يقدما النظام الاميركي لشعبه على حساب الشعوب الأخرى. إن الأزمة الاقتصادية الحادة التي دخلت فيها الولايات المتحدة ستنعكس على قدرة التحكم، وبالتالي ستنشأ ثورة على الدولة العميقة تُدخلها في حلقة الموت.
تعدد القوميات وتفكك “المجتمع”:
إن الشعب الأميركاني لا ينتمي إلى مجتمع واحد، وذلك بسبب تعدد القوميات التي تقطن الولايات المتحدة. ولعل الثقافات المتعددة لهذه القوميات أتت من بيئات مختلفة وبقيت طوال القرنين الماضيين تعمل على الحفاظ على هويتها الاساسية، المقولة الأساسية التي إعتمدت عليها الثقافة الاميركية هي التطلع إلى “الحلم الاميركي”، بغض النظر عن مصدر الهجرة، ولكن هذا الحلم إعتمد بشكل أساسي على عنصرين هما الشهرة والمال. بفقدان تأمين الفرص التي تتأثر كلياً بالنظام الاقتصادي الاجتماعي، يتحول هذا الحلم الى واقع مرير يطرح من خلاله إشكاليات عدة، وتظهر العنصرية بشكل أكبر مع تدني الموارد، فيذهب “المجتمع” الفسيفسائي إلى التفكك وبالتالي إلى فقدان الإتجاه الواحد.
تدني المستوى المعيشي والتقديمات الاجتماعية:
إن معاناة الاقتصاد الاميركي، وبعد إستنفاذ الأدوات الاقتصادية الاخرى، ستدفع الدولة إلى قطع برامج المساعدات والتقديمات الاجتماعية، مما يؤدي إلى الإستئثار بالموارد من قبل العنصر الأبيض على حساب الشرائح الأخرى من الشعب. ولعل الإتيان في المرحلة السابقة بباراك أوباما، كان بهدف تخفيض حجم المساعدات للأميركيين الأفريقيين، إذ لا يمكن لرئيس أبيض أن يقوم بهذا العمل نتيجة تفشي العنصرية، وبالفعل قام باراك أوباما بتخفيض حجم المساعدات، ولكن ذلك لم يكفِ، إذ واكب عهد دونالد ترامب جائحة كورونا حيث تدنى نمو الناتج الدخل القومي الى ناقص 2.7، فإزداد حجم الدين بشكل متسارع مما يتطلب تخفيض جديد سيكون له الأثر الأكبر على المستوى المعيشي.
فقدان مركزية القيادة وإختلاف حاد في إستراتيجيات الدولة العميقة:
نتيجة الأزمة الحقيقة التي تعيشها الولايات المتحدة، بدأت تظهر أصوات من داخل الحكم، تتحدث عن تأثير الدولة العميقة في تقرير سياسة الدولة، ففي 22 آب 2020 إتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعضاء من “الدولة العميقة” في إدارة الغذاء والدواء (أف.دي.إيه)، بالعمل على إبطاء إختبارات لقاحات فيروس كورونا وتأخيرها إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني. ويأتي هذا التصريح بعد أن نقلت “رويترز”، عن مسؤول كبير في إدارة الغذاء والدواء قوله “إنه سيستقيل من منصبه إذا صرحت الإدارة الأمريكية بإستخدام لقاح قبل أن يثبت أنه آمن وفعال”. وعادة ما يلجأ ترامب إلى تويتر لإنتقاد الوكالات الاتحادية، وأحياناً ما يتهمها بأنها تقع تحت سيطرة “الدولة العميقة” في إشارة واضحة إلى الموظفين الذين يخدمون منذ فترة طويلة والذين يرى ترامب أنهم مصممون على تقويض برنامجه. وما يخفى اليوم على الإعلام هو تنامي الحالة “الترامبية” في وجه سياسات الدولة العميقة. هذا لا يعني معارضة ترامب للأيديولوجيا المركزية للدولة العميقة، وإنما يأتي إعتراضه نتيجة إختلاف حاد في الإستراتيجيات وفي سياق الصراع على السلطة والمال في إدارة البلاد.
بعد عرض الأسباب الموجبة لتقهقر الولايات المتحدة اليوم، لا بد من الإستنتاج من سياساتها في العقدين الآخرين، سبب الخروج عن القوانين والمواثيق الدولية من أجل نجاتها على حساب العالم أجمع. ولعل سياساتها الوقحة في الإستيلاء على مقدرات وثروات البلدان الأخرى يأتي من باب حقها كدولة إستعمارية عظمى في سلب الثروات وإفقار الامم من أجل إبقاء الهيمنة الاميركية، ومن أجل تحقيق غايتها الاساسية المستندة الى الفكر الصهيو-أميركي.
إن نتائج غطرسة الولايات المتحدة الأميركية ستدخل العالم في حرب كونية، تنشر فيها الفوضى المدمرة، لإعادة رسم عالم جديد تتحقق فيها النبوءة التي لطالما عملت على تحقيقها.