ندوة للأمين إدمون ملحم في الكورة

بدعوة من منفذية الكورة في الحزب السوري القومي الاجتماعية وبرعاية عمدة الثقافة والفنون الجميلة وقّعَ رئيس الندوة الثقافية المركزية الأمين الدكتور ادمون ملحم كتابيه: “الفلسفة الرواقية: من زينون إلى سعاده” و “أنطون سعاده: رجل سابق لزمانه Antun Sa’adeh: A man ahead of his time”.

شارك في الحفل عميد الثقافة الرفيقة الدكتورة فاتن المر وعضو المجلس الأعلى الأمين الدكتور جورج البرجي ورئيسة مؤسسة سعادة للثقافة الرفيقة ضياء حسان ومنفذ عام الكورة الرفيق جهاد فارس ومعه هيئة المنفذية وجمع من الأمناء والرفقاء القوميين الاجتماعيين وأصدقائهم.

أفتتح الحفل بكلمة لعريفة الحفل الرفيقة نجوى خشخجي. وأولى الكلمات كانت لرئيسة مؤسسة سعادة للثقافة تلتها قصيدة للشاعر القومي الأمين صباح عبدالله ومن ثم كلمة لعميدة الثقافة والفنون الجميلة.  الكلمة الأخيرة كانت للأمين ادمون ملحم الذي شكر الحضور ومنفذية الكورة التي دعت ونظّمت هذا الحفل كما شكر عمدة الثقافة لرعايتها لهذا النشاط الثقافي. وفي الختام قدَّمَ منفذ عام الكورة الرفيق جهاد فارس درعاً للأمين الدكتور ادمون ملحم تكريماً له وعربوناً لنضاله وجهوده البحثية. وبدورة شكر الأمين ملحم منفذية الكورة لمبادرتها الجميلة وقدَّمَ مجموعة من الكتب هدية لمكتبتها. وفي مايلي الكلمات التي تليت:

كلمة رئيسة مؤسسة سعاده للثقافة الرفيقة الدكتورة ضياء حسان اليومَ، يشرفني أن أتحدثَ إليكم من مكانٍ يحتلُ مكانةً خاصةً في قلبي، مكانٌ يلتقي فيه الفكرُ والتاريخ، مكانٌ كان له دوراً فعالاً في تعزيزِ القضيةٍ التي نعتزُ بها.الكورة، ليست مجردُ موقعٍ جغرافيٍ؛ إنها رمزٌ للنضالِ والتاريخِ والالتزامِ الذي لا هوادةَ فيه بفكرِ سعاده والقيمِ التي نعتزُ بها. في الكورة، لا نتمتعُ فقط بالمناظرِ الطبيعيةِ الخلابة، بل نسمعُ شوارِعَها ترددُ صدى خُطى عددٍ لا يحصى من المناضلينَ والمثقفينَ وأصحابِ الرؤى والقادةِ من تلامذةِ سعاده الذين كرسوا حياتَهُم للسعي لإعلاءِ شأن حزبِه وفكرِه كالأمين الدكتور عبدالله سعاده والأمينين عبدااله قبرصي وجبران جريج وغيرِهم كُثر. هنا، في الكورة نشعرُ أننا في بيتِنا، لا نجدُ الداعمينَ فحسب، بل نجدُ رفقاءَ متعاطفين يدركُونَ أهميةَ قضيتِنا، ويتشابكُ تاريخُ الكورةِ وحزبُنا في نسيجٍ جميلٍ من النضالِ والقيمِ المشتركة. لقد أنارت مساعيكُم الفكريةُ طريقَنا إلى الأمام بالمساهماتِ القيمةِ التي قدمها أهلُ الكورةِ لحزبِنا والقضيةِ التي نعملُ من أجلِها. ولهذا نحن ممتنونَ لكم إلى الأبد. ماذا عن مؤسسةَ سعاده للثقافة؟ إن مؤسسةَ سعاده للثقافة شهادةٌ حيةٌ على التزامِنا بالحفاظِ على تراثِنا الحزبي الثقافي الغني وتعزيزِه ونشره. فنحن مدفوعونَ بإيمانٍ عميقٍ بأن الثقافةَ هي حجرُ الزاوية في حزبِنا وفي هويةِ المجتمع، ولديها القُدرةُ على إلهامِ التغييرِ الإيجابي. ونحن ندركُ أهميةَ الرعايةِ والدعم للعقولِ المبدعةِ والباحثينَ من تلامذةِ سعاده مثل د. ادمون ملحم الذين يلعبونَ دورًا حاسمًا في تصويبِ البوصلةِ في حزبِنا نحو الثقافةِ لإعلاءِ شأنِ حزبِنا في مجتمعِنا ومن أجلِ مستقبلٍ أكثرَ إشراقًا لأمتِنا.  إنه لمن دواعي الفخرِ والاحترامِ العميقِ أن نسلطَ الضوءَ اليومَ على أعمالِ باحثٍ تمت رعايةُ أحدثِ أعمالِه من قبل ِمؤسسة سعاده للثقافة وهو الفلسفةُ الرواقيةُ من زينونَ الى سعاده. هذا الباحثُ هو عضوٌ عزيزٌ في مؤسستِنا الثقافية كرسَ حياتَه للنهضةِ والمساهمةِ في إعلاءِ صوتِ القضيةِ فأضاءت مساهماتُه الفكريةُ الطريقَ نحو التغييرِ الذي نؤمنُ به وندعمُه. الدكتور إدمون ملحم وهو باحثٌ غزيرُ الإنتاجِ في فكرِ المعلمِ والتزامِه الثابتِ بقضيتِنا المشتركة يتجاوزُ الكلمةَ المكتوبة. وكانت فأعمالُهُ شهادةً على التفاني الذي لا يتزعزع والعاطفة التي لا تنضب من أجل قضيةٍ يترددُ صداها مع كلِ روحٍٍ حاضرةٍ في هذه القاعة.  

في كتابِه سعاده رجلٌ سبقَ عصرَه باللغة الإنكليزية يتعمقُ دكتور إدمون ملحم في حياةِ وفكرِ أنطون سعاده ويعطينا لمحةً عن شخصيتِه ونظرتِه للحياةِ ومشروعِه الطموح. سعاده، هذا الزعيمُ الملتزمُ، الملتزمُ بالاخلاقِ والمثلِ والقيمِ، الشجاعُ الذي كرّسَ حياتَه من أجلِ بلادنا سورية ومن أجلِ العدالةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والمساواةِ والإنصاف. يصفُ سعاده بصاحبِ رؤيةٍ حقيقيةٍ ألهمَ الناسَ للعملِ، وغيّرَ المفاهيمَ، وقدمَ طريقًا للخروجِ من ويلاتٍ عاشتها أمتُنا عبر عصورٍ طويلةٍ. ويشرحُ لنا رؤيةَ سعاده لحياةٍ أفضل في عالمٍ أجمل تهيمنُ عليه القيمُ العليا. هذا الزعيمُ الذي سبقَ عصرَه، والذي مُنح هبةَ الحياةِ من أجلِ خدمةِ هدفٍ سامٍ. يركزُ د. ملحم في هذا الكتاب على يقينِ سعاده المطلق بهدفِهِ الأسمى ورؤيتِه ويوضحُ استراتيجيَتهُ لتحقيقِ المبادىء التي وضعَها فهو زعيمٌ ذو رؤيةٍ تتمحورُ حول أمتهِ سورية كما وعلى الإنسانيةِ جمعاء. فسعاده يطلبُ من أبناءِ أمتهِ التضحيةَ بأنفسهِم من أجلِ الصالحِ العام. وقد طلبَ هذا من نفسهِ أولاً، وترجمَ تفاصيلَه حرفياً، قولاً وفعلاً. أما في كتابِ الدكتور إدمون ملحم الفلسفةُ الرواقيةُ من زينونَ الى سعاده نشعرُ أننا في رحلة، رحلةٌ تأخذُنا عبر الممراتِ الفكريةِ للتاريخ، وترشدنا إلى قلبِ حكمةِ الرواقي السوري العميقةِ ورؤاه الخالدة. فزينونُ الرواقي كان فيلسوفاً تجاوزت أفكارُه حدودَ الزمنِ وما زالت تُلهِمُنا حتى اليوم. إن بحثَ دكتور إدمون الدقيق، وفهمَهُ العميق، ونثرَه البليغِ قد بثَّ عمقاً جديداً لفهمِنا فلسفةَ الرواقي التي تعبرُ عن النفسيةِ السوريةِ، مما سمحِ لنا بتقديرِ الأهميةِ الدائمةِ لأفكارِه في عالمِنا الحديث.في صفحاتِ هذا الكتابِ يعرفُنا د. ملحم على الفلسفةِ الرواقيةِ لزينونَ وتلامذَتِه السوريينَ الذينَ تركت مساهماتُهم الفكريةُ بصمةً لا تُمحى في عالمِ الفكرِ والفلسفةِ. لم يكن زينونُ الرواقي، المولودُ في قبرص، مجردَ فيلسوفٍ، بل كان صاحبَ رؤيةٍ تجاوزت أفكارُهُ عصرَه. وفي هذا الكتاب يطلِعُنا د. ملحم على أهميةِ الرواقيةِ كونها فلسفةً أخلاقيةً – تربويةً، علميةً نادت بفكرةِ المواطَنةِ العالميةِ حيثُ أن جميعَ البشرِ هم إخوةٌ وأن الخيرَ يجبُ أن يكونَ الغايةَ المنشودةَ لجميعِ المواطنينَ في المدينةِ الكونية. كما وتركزُ فلسفتُه على المساواةِ بين الناسِ وتحريرِ الإنسانِ من أي سلطةٍ جائرةٍ فالحريةُ حقٌ للجميع. ومن مساهماتِ الرواقي الأكثرَ ديمومةٍ في الفلسفةِ كانت أطروحَتُه حول الأخلاق. فهي الأساسُ لمجتمعٍ عادلٍ ومتناغمٍ. فالفلسفةُ عند الرواقيينَ هي فنُ الفضيلةِ وهي وحدُها تؤدي الى السعادة. والفضيلةُ عندَهم، كما يقولُ د. ملحم، هي سعادةُ الإنسانِ الحقيقيةِ وهي الخيرُ الأعظمُ وهي نتاجُ الإرادةِ الواعيةِ المعتمدةِ على العقل. أما العقلُ فهو العقلُ الكلي المتبصرُ هو القانونُ الذي يحكمُ جميعَ الكائناتِ. فالكونُ كلُه مسيّرٌ بالعقلِ العام. فالالتزامُ بالسعي وراءَ الحقيقةِ من خلالِ العقلِ والعقلانيةِ هو ما يشكلُ جوهرَ فلسفةِ زينون الرواقي. كذلك يطلعُنا د. ملحم على مساهماتِ الرواقيينَ في نظريةِ المعرفة وأهميةِ الشكِ كمحفزٍ للنموِ الفكريِ وضرورةِ البحثِ عن المعرفةِ من خلالِ فحصٍ صارمٍ ومنهجي للأدلة. وفي مفهومِ الواجبِ يذكرُ د. ملحم أن زينونَ هو أولُ من استخدمَ مصطلحَ الواجبِ وعممَ فكرةَ أن الإنسانَ عليه واجبٌ يحيا من أجلهِ. وركزَ على أهميةِ الإرادةِ ومحلِها الفلسفي. وآمنَ بالإنسانِ المجتمعِ فاعتبرَ أن الحياةَ الإجتماعيةَ لها قيمةٌ عاليةٌ وفيها يتأمنُ انتصارُ العدالةِ، والحكيمُ الرواقيُ هو إنسانٌ إجتماعيٌ يهتمُ بخيرِ المجتمعِ وإحياءِ فضائله.في الختامِ أودُ أن أشكرَ د. إدمون ملحم على مواضبتِه وتفانيهِ في الإضاءةِ على فكرِ سعاده ونشرهِ في جميعِ أنحاءِ العالمِ من خلالِ كتاباتِه باللغةِ الإنكليزية، وكذلك على مساهمتِه المتميزةِ في الإضاءةِ على أهميةِ الفلسفةِ الرواقيةِ وأثَرِها مما يساهمُ في إنصافِ الفكرِ السوري وتأثيرِه الإيجابي على المدارسِ الفلسفيةِ والمفكرينَ في العالمِ. هذا الفكرُ الذي تعرضَ دورُه الحضاري لكثيرٍ من التهميشِ والتشويهِ لطمسِ أثرهِ الكبير والأساسي في تطويرِ وتثقيفِ الفكرِ الإنساني. كذلك نشكرُهُ لتنفيذِ وصيةِ سعاده لنا بوجوبِ الإهتمامِ بزينونَ الرواقي والتنقيبِ عن الفلاسفةِ السوريينَ وإظهارِ آثارِهم وتعريفِ مذاهِبِهم خاصةً وأن زينونَ لم يحظ بالاعترافِ الواسعِ النطاقِ الذي يستحِقُهُ خلالَ حياتِه.كأعضاءٍ في مؤسسة سعاده للثقافة، يشرفُنا وجودُ د. إدمون ملحم بيننا، ونتمنى أن تكونَ مساعيه المستقبليةِ مليئةٌ بمزيدٍ من العطاءِ الفكري والنجاحِ وألا يجِفَ قلمُهُ أبدًا. ونحن نتطلعُ إلى مواصلةِ رحلتِنا الجماعيةِ نحو نشرِ فكرِ سعاده والإضاءةِ على السوريينَ الخالدينَ الذين كان لهمُ فضلٌ كبيرٌ على الإنسانيةِ.

كلمة عميد الثقافة والفنون الجميلة الرفيقة الدكتورة فاتن المر

كيف نتكلم وفي القلب جمرة وفي الحناجر لهيب؟ كيف نكتب والدماء تسيل فوق أوراقنا وأرواحنا؟ كيف نصوغ رسالتنا الثقافية في زمن الحديد والنار؟

إن الأمر لعسير، فمهامنا تتجاوز الحدث السياسي والأمني، تسبقه وتليه، تخلق تياراً من الوعي يحيي جسد الأمة المرهق، تشد العزائم، تشير إلى الطريق الصحيح، ذلك الذي يؤدي إلى نهضة المجتمع، مجتمع مقاوم، مدرك هويته ومصلحته. إن العمل الثقافي المنظّم يراقب ويدرس ثم يضع خططاً طويلة الأمد، يمد جسوراً بين أرجاء الوطن، يستقطب العاملين في مجالات الثقافة، يسهم في خلق جيل مثقف واثق من انتمائه الوطني ومن أهدافه. إن البناء الثقافي طويل ومضن، بينما الخراب سريع ويتفشى كالوباء. وقد أدرك أعداء هذه الأمة أهمية هذا البناء فوضعوا الخطط لتقويضه، سخروا لذلك المال والإمكانيات البشرية، واستبدلوا ثقافة الشعب الحقيقية بثقافات مزيفة تخدم مصالحهم.

ولكن بالرغم من كل خططهم لم ينجحوا في تشويش تفكير الأنقياء الذين حملوا هم بلادهم في فكرهم وكتاباتهم ولم يغب يوماً اسم فلسطين عن نتاجهم، نزعوا السياج الذي قسم به الاستعمار أرضهم. لم يبالوا بأصوات النشاز التي علت معارضة، فانحيازهم للحق ثابت، نهائي. لم يحبطهم عدم فهم الآخرين لرسالتهم، فلم يكن يوماً عبر الأزمنة والأماكن إجماع حول المقاومة. والمقاومة الثقافية تحمل هم خلق بيئة ثقافية تسند المقاومة العسكرية وتدافع عن حق الشعب في أرضه وفي حياة كريمة فوقها.

في هذه الأيام العصيبة حيث يصارع قبس النور جيوش الظلام، نرسل تحيتنا إلى أرض فلسطين المباركة وأهلها، ونقول لغزة وأهلها إننا مجرد تلامذة يتلقون منهم دروساً في الإرادة والصمود ويحنون الرؤوس والقلوب أمام إيمانهم وجبروتهم ويعدونهم بإكمال الطريق بتنظيم أكبر وخطط أنجع. ولنكن أقوياء فوحدها القوة تقرر حقنا القومي ومصيرنا.

أما في ما جمعنا اليوم، في اللقاء الذي طالما انتظرناه مع الأمين إدمون ملحم، رغم تواصله الدائم معنا، فهو محطة نضالية ثقافية جديدة، سلاح من أسلحة المواجهة يمتشقها الكاتب في وجه المتآمرين الذين سعوا ويسعون إلى تغييب فكر سعاده عن وطن لا خلاص له إلا باللجوء إليه، كما يواجه، سياسة التغريب الثقافي التي تطمس تاريخنا الثقافي، ذلك الذي قال عنه سعاده في المبدأ الأساسي السابع إن الأمة تستمد روحها منه، فيلقي الكاتب الضوء على مادة من أجمل تجلياته، الفلسفة الرواقية، مشيراً إلى استمرارية تربط فكر سعاده بالفيلسوف السوري زينون الرواقي.

تساءلت في البدء عن أي ناحية من شخصية الأمين إدمون سأتكلم. أعن رئيس الندوة الثقافية المركزية الذي لا يكلّ ولا يمل ولا يشتكي من كثرة الأعباء، بل هو، إذا اشتكى، يعترض على تباطؤ وتيرة العمل؟ أم أتكلم عن الباحث الذي يسهر الليالي، ويقرأ عشرات المراجع ويغوص فيها قبل أن يكتب حول الموضوع الذي اختاره؟ أم أصف المثقف الذي يحمل هم بثّ الثقافة كإشعاع يطال الجميع ولا يكون حكراً على مجموعة من المثقفين المنعزلين عن مجتمعهم؟ كل هذا وأكثر، وبشكل أكثر تحديداً، أود أن أتحدث عن الأمين إدمون الإنسان. أبحث عن كلمة ألخص بها كل الصفات التي أراها أمامي حين أفكر في الدور الذي أصبح له في حياتنا الحزبية، فتلمع أمامي صفتا الطيبة والتسامح، وهما صفتان نحن أحوج ما نكون إليهما إن كان في حياتنا الحزبية أو في الحياة الاجتماعية بشكل عام. ففي الأزمات، إذ يضيق الإنسان ذرعاً بالكم الهائل من المشاكل والصعوبات التي تعترض يومياته، يميل لأن يكون قاسياً مع من يخالفونه الرأي، غير متسامح حتى مع الهفوات الصغيرة، مغتاظاً من الجميع حتى من نفسه، رافعاً سوطه في وجه الكل ومحترفاً جلد الذات. في الأزمات، نحتاج دائماً إلى من يشكل لنا مثالاً إيجابياً نقتدي به. هذا هو الدور الإنساني الأهم الذي يؤديه حضرة الأمين بيننا، فهو، بابتسامته الطيبة، وبلطفه يذكرنا أن كل المعوقات والأخطاء والاختلاف في الرأي لا يجب أن يمنعوا التواصل الهادف إلى تأمين المصلحة العامة، والانفتاح الذي يشكل غنى، والاحترام المتبادل الذي يجب أن تبنى عليه كل العلاقات الاجتماعية. هكذا هو رئيساً للندوة الثقافية المركزية، عضواً في الهيئة الإدارية لمؤسسة سعاده، رفيقاً وصديقاُ للكثيرين على اختلاف أعمارهم وأطباعهم.

شكراً حضرة الأمين على كل ما تقدمه لنا كل يوم من جهد وتفان قل نظيرهما، وشكراً على المنتجين الفكريين الأخيرين اللذين سيغنيان مكتبتنا الحزبية.

كما أتوجه بالشكر إلى منفذية الكورة لتنظيمها هذا الحفل الراقي ولإتاحة الفرصة لنا للتعبير عما نكنّه للأمين إدمون ملحم من تقدير.

ولتحي سورية

كلمة رئيس الندوة الثقافية المركزية الأمين الدكتور ادمون ملحم

بدايةً أعبّرُ عن سروري بوجودي بينَكم اليومَ، بين أهلي ورفقائي في بلدةِ أميون – في الكورةِ الخضراءِ الّتي ترعرتُ في ربوعِها، والّتي أحِنُّ إليها دائمًا، أنا وعائلتي في مغتربٍ بعيدٍ عنِ الوطن. ولكن على الرُّغم من بُعدِ المسافاتِ وسنواتِ الاغترابِ الطّويلةِ الّتي تجاوزتِ الأربعينَ عاماً، ما زالَ هذا الوطنُ الجميلُ يسكنُ في قلوبِنا وعقولِنا وما زلنا على القَسَمِ باقين….

أشكرُ منفذيةَ الكورة، وحضرةَ المنفذِ العامِ الرّفيق جهاد فارس، وهيئةَ المنفذيّة، لدعوتِهم وتنظيمِهم لهذا الحفلِ الثّقافيِّ العامرِ بوجوهِكُم الطيّبة، وأشكرُ عمدةَ الثقافةِ والفنونِ الجميلةِ لرعايتِها لهذا الحفل.. والعمدةُ عوّدتْنا على نشاطاتِها المتنوّعةِ والمميّزة. ونحنُ، بحكمِ مسؤوليّتِنا في النّدوةِ الثّقافيّةِ المركزيّة، نعملُ بإشرافِها ومعَها على إحياءِ النّشاطاتِ الثّقافيّةِ، إيماناً منّا بأنّ الثّقافةَ هي فعلٌ حضاريٌّ وعملٌ عقليٌّ راقٍ يُحقّقُ يَقْظةَ الشّعبِ ونهضتَهُ، ويخدُمُ المجتمعَ وارتقاءَهُ. أشكرُكِ حضرةَ العميدة الرفيقة الدكتورة فاتن المر لحضورِكِ مَعَ زوجِكِ حضرةِ منفّذِ عام زحلة الرفيق زياد معدراني1 وأقدّرُ كلماتِكِ الرّاقيةَ والصّادقةَ، فَهْيَ شهادةٌ أعتزُّ بِها.

أشكرُ رئيسةَ مؤسّسةِ سعاده للثّقافة الرفيقة الدكتورة ضياء حسّان لحضورِها أيضًا من ضهور الشّوير مَعَ زوجِها حضرةِ الأمين محمّد غملوش الجزيلِ الاحترام، وقدْ سُرِرتُ بلقائِهما وباستقبالِهما لي وللدكتور عادل بشارة ولأخي غسان في منزلِهما في ضهور الشّوير الأسبوعَ الماضي. كلماتُكِ رفيقة ضياء هيَ شهادةٌ أيضاً أعتزُّ بِها، وإنّي لمَحظوظٌ بالعملِ مَعَكِ في مؤسّسة سعاده الثقافيّة الرّاقية، بحكم مسؤوليّتي في هيئتِها الإداريّة.

والشّكرُ الكبيرُ أيضًا لحضرةِ الأمينِ الشّاعرِ صباح عبدالله لكلمتِهِ ولقصيدتِهِ الوجدانيّةِ الرّائعة، والأمين صباح هوَ المناضلُ المشهودُ لهُ في ساحاتِ الاغترابِ ونحنُ وإيّاهُ نناضلُ معًا في خدمةِ قضيّتِنا القوميّة.

وشكر كبير للرفيقة نجوى خشخجي عرّيفة الاحتفال لأدائها المميز.

أغتنمُ هذهِ المناسبةَ لأُحيّي شعبَنا المقاومَ في فلسطينَ المُغتَصبة، وفي جنوبِ لبنانَ والجولان وفي سوريانا بأسرِها.. وباسمِكم أوجّهُ التحيّةَ لغزّةَ الأبيّة، لغزّةَ الصّمودِ الجديرةِ بالحياة، والّتي تتعرّضُ للإبادةِ الجَماعيّة.. سلامٌ عليكِ يا مَنْ قاومْتِ الطُّغاةَ المُجرمينَ، وسطّرْتِ ملاحمَ البُطولةِ ووقفاتِ العزّ. ألفَ تحيّةٍ وسلامٍ لآلافِ الجَرحى والأسرى ولأرواحِ الشُّهداءِ الأبرار.. للنّساءِ والشُّيوخِ والأطفالِ الّذينَ دُفِنوا تحتَ الأنقاضِ، والّذين تناثرتْ أجسادُهم أشلاءً وأشلاءَ، بفعلِ الهمجيّةِ الإسرائيليّةِ والصواريخِ المُدمِّرةِ الأميركانيّةِ الصُّنع.

قد يتساءلُ بعضُكم كيفَ نقيمُ حفلَ توقيعِ كتابٍ ونحنُ في حالةِ حربٍ يتعرّضُ فيها شعبُنا للعدوانِ والإبادةِ الجَماعيّةِ، ولأبشعِ المجازرِ الوحشيّةِ الّتي يرتكبُها عدوٌّ بربريٌّ لئيمٌ يظنّ ُأنَّهُ شعبٌ مميّزٌ عن باقي الشُّعوبِ، منحَهُ إلهُهُ العبقريَّةَ واختارَهُ ليحكُمَ الأرضَ ولتكونَ الشعوبُ الأخرى في خدمتِهِ!

نحنُ أيُّها الحضورُ المحترمون، نخوضُ الحربَ مَعَ هذا العدوِّ العنصريِّ على كلّ الجبهاتِ العسكريَّةِ والإعلاميّةِ والثّقافيّةِ والنّفسيّةِ، لأنَّ حربَنا معَهُ هيَ حربُ مصيرٍ تتناولُ وجودَنا الحضاريَّ بأكمَلِهِ.. هذا العدوُّ يُهدِّدُ حياتَنا ويمنعُنا مِنَ العيشِ بهناءٍ، ولا يكفُّ عنِ ارتكابِ المجازرِ والجرائمِ البَشِعَةِ بحقِّ شعبِنا، بدعمٍ وغطاءٍ غربي… فهْو، كما تعلمونَ، يمارسُ إرهابَهُ علينا باستمرار.. يقتلُ الرجالَ والشُّيوخَ والنّساءَ والأطفالَ.. يغتالُ القادةَ والعلماءَ والصَّحافيينَ والنُّخبَ الثّقافيّةَ والعلميّة.. يسرقُ ثرواتِنا وكنوزَنا وآثارَنا الخالدة.. يُزوِّرُ تاريخَنا وأساطيرَنا الجميلة.. يُدَنِّسُ مقدّساتِنا، ويحطُّ من قِيَمِنا الأخلاقيّةِ والدّينيّة.. يشوّهُ معالمَنا الحضاريّة.. يقصُفُ المستشفياتِ ويدمّرُ المَرافقَ والمباني والمنازلَ بمَنْ فيها، ويستولي على الممتلكاتِ والأراضي ليبنيَ عليها المستوطنات.. هذا العدو العنصريُّ الحَقودُ يَشنُّ الحروبَ التّدميريّةَ علينا بُغيةَ القضاءِ على إرادةِ الحياةِ فينا واجتثاثِ وجودِنا، وتهجيرِنا من أرضِنا. فمشروعُهُ شرّيرٌ خطيرٌ، هوَ مشروعُ عدوانٍ دائمٍ وتوسُّعٍ واستيطان. مشروعٌ يطاردُ سوريةَ أمةَ العقلِ والخلقِ والإبداعِ، ويطاردُ أجيالَها الحاضرةَ في حياتِها على أرضِ الوطنِ وحيثُما وُجِدَتْ في العالمِ ويطاردُ في الوقتِ ذاتِه آلافَ السنينَ من وجودِنا الحضاريِّ الإبداعيِّ في قلبِ التّاريخِ الانسانيّ.

في هذه الحربِ المصيريّةِ وإزاءَ ما يتهدّدُ حياتَنا منَ المخاطرِ الزاحفةِ إلينا من كلِّ اتّجاهٍ والّتي تستهدفُ طمسَ هويّتِنا القوميّةِ وتفتيتَ مجتمعِنا إلى دويلاتٍ عِرقيّةٍ ومذهبيّةٍ عاجزةٍ ومستسلمةٍ.. نرى منَ الواجبِ علينا أنْ نستنفرَ كلَّ طاقاتِنا الماديّةِ والرّوحيّةِ وكلَّ مواهبِنا العقليّةِ وكلَّ إمكانيّاتِنا الانسانيّةِ لندفعَ بها، من دونِ تردّدٍ أو تحفُّظٍ، إلى ميدانِ الصّراعِ في تنازعِ البقاءِ والمصير. لذلكَ أخذْنا على عاتِقِنا، منَ النّاحيةِ الشّخصيَّةِ، أنْ نكرّسَ جهدَنا لإنتاجِ المؤلّفاتِ والأبحاثِ الّتي تساهمُ بترقيةِ الوعي لوحدةِ حياتِنا ومصيرِنا ولتاريخِنا الغنيِّ بالمآثرِ والمُنجَزاتِ، والزّاخرِ بالعباقرةِ والعظماءِ والقادةِ النّوابغِ والحكماءِ.

كتبْنا عن أخلاقِ سعاده ومواقفِهِ وبطولتِهِ.. هذا الرجلُ الّذي ظهرَ في هذا الوجودِ كهِبةٍ كبيرةٍ جادَتْ بها السّماءُ على هذا الوطنِ الخصيبِ والّذي امتلأتْ نفسُهُ العظيمةُ نورًا ومعرفةً وحكمةً وعزيمةً وطفحَتْ روحُهُ الكبيرةُ حبًّا وإيمانًا وإخلاصًا ومقاصدَ نبيلةً.

كتبْنا عن نبوغِ هذا الرجلِ وعن شخصيّتِهِ القويّةِ والصّريحةِ، والمُحِبّةِ، الّتي ترى في عينيْها بريقَ الصّدقِ وتقرأُ على جبينِها حروفَ العزِّ والشّموخِ والعنفوان..  هذه الشّخصيّةُ الفريدةُ، المتميّزةُ بإيمانِها وحيويّتِها وثقتِها بنفسِها، والغنيّةُ بالعواملِ النّفسيّةِ الّتي “يحتاجُ درسُها إلى مجلّداتٍ.”[1] وكتبْنا عن فلسفتِهِ المدرحيّةِ ورؤيتِهِ الانسانيّةِ التوّاقةِ لحياةٍ راقيةٍ تستهدفُ العودةَ بسوريةَ إلى أصالتِها وجوهرِها ونفسيَّتِها الحقيقيَّةِ… إلى دورِها الحضاريِّ، أمةً خلّاقة ًومُشِّعةً ومتألقةً بفكرِها وقيَمِها وفضائِلها، وشاعرةً بمسؤوليّاتِها الانسانيّةِ، أمّةً معلّمةً وهاديةً للأُممِ.

وكتبْنا عن زينون الفينيقيّ العظيم، مؤسسِ المدرسةِ الرّواقيّةِ، الّذي دعا إلى تحكيمِ الفكرِ والعقلِ في جميعِ الأمورِ، وقالَ بمبدأِ الواجبِ الأخلاقيِّ وبالأخوَّةِ والمساواةِ بينَ البشرِ، وأرشدَ الناسَ إلى طريقِ الخيرِ والفضيلةِ ودعاهُم إلى الحياةِ الرُّوحيَّةِ – الأخلاقيّةِ للتّخلّصِ منَ الشّقاءِ، وكان واحدًا منَ العباقرةِ الخالدينَ الّذين لهم فضلٌ كبيرٌ على الانسانيَّةِ والّذينَ سرقَهُمِ الغربُ منّا وطمَسَ هُوِيَّتَهُم الأَصليّة.

نحنُ، أيُّها الحاضرونَ الكرام، لا نعني في الحياةِ لهوًا وتسليةً بل نعني فعلًا وتصميمًا وبناءً.. نحن لسنا جماعةً تخضعُ لمشيئةِ العدوِّ وتقبلُ بحياةٍ الذُّلِّ والخُنوعِ والاستسلامِ، بلْ نحنُ جماعةُ صراعٍ، جماعةٌ تعشقُ حياةَ الحرّيّةِ والعِزِّ وتتحمّلُ أعباءَ الحياةِ وآلامَها، وترفضُ أنْ تتنازلَ عن مقاصدِها الكُبرى في الحياة، لأَّنها تؤمِنُ إيمانًا شديدًا بحقيقتِها ومبادئِها ومُثُلِها العُليا.. لذلكَ نحنُ مَعنيّونَ بتحصينِ مجتمعِنا بالثّقافةِ القوميّة، نعملُ لوحدتِهِ وللإخاءِ القوميِّ، نعملُ لفرحِ النّاسِ وسلامَتِهِم، نعملُ لأُلفَتِهِم وتآخيهِم، ونعملُ لمستقبلِ الأجيالِ الصّاعدةِ، ولحياةِ الأمَّةِ بِأَسْرِها، لتكونَ لها حياةُ العِزِّ والرُّقيِّ والفَلاح.


[1] أنطون سعاده، “عيب الحزب السوري القومي”، الزوبعة، بوينس آيرس، العدد 31، 1/11/1941