التحركات السياسية نذير الخطر على سورية!

التحركات السياسية نذير الخطر على سورية!

كيف يمكننا فهم طبيعة التحركات السياسية والعسكرية التي تشهدها كيانات الأمة السورية حالياً؟ وماذا تعني في السياق الاستراتيجي الجديد للصراع الدولي المتجه إلى مزيد من التصعيد والاستقطاب سياسياً واقتصادياً وأمنياً؟ وهل من خيط ناظم يربط الأزمة السياسية الوجودية في الكيان اللبناني، مع الضغوط المتواصلة التي تتعرض لها الجمهورية السورية، مع التموضعات المتناقضة للقوى السياسية والطائفية العراقية، مع المخطط العنصري الصهيوني لتهويد الضفة الغربية وفرض “واقع إسرائيلي” على الأرض؟

ترتكب أغلبية القوى السياسية المحلية في هذه الكيانات خطأ فادحاً عندما تتعامل مع كل مسار سياسي بمعزل عن الإطار القومي العام. فالأزمات مترابطة، وبالتالي ستكون الحلول مترابطة، ما يعني أن المخططات المُعدة لمنطقتنا مترابطة حكماً. لقد شهد الهلال السوري الخصيب خلال العقود الماضية متغيرات جذرية على أصعدة مختلفة. ونحن نعتقد بأن الظروف العامة نضجت وباتت الكيانات القائمة جاهزة لإعادة تركيب البنى الاجتماعية والاقتصادية، من ضمن ترتيبات ربما تُفرض علينا فرضاً. وستطال تلك الترتيبات ثلاثة مجالات حيوية: الجغرافيا والديموغرافيا وأنظمة الحكم.

إذا عدنا إلى مطلع القرن الماضي، نرى أن الحرب العالمية الأولى (1914 – 1919) أحدثت تغييراً جذرياً شاملاً على كل الأصعدة. ففي خضم المعارك، وبعد انتصار الحلفاء، كان عالم قديم يتهاوى وعالم جديد يتكوّن. ومن بين ركام المجازر والمجاعات برزت حقائق جديدة، وقفت أمامها الشعوب وقد أصابتها الصدمة. بعض الأمم استطاع استيعاب الواقع المستجد، وبعضها الآخر ظل عاجزاً عن استغلال الفرص المصيرية المتاحة، فكان أن دفع الثمن باهظاً… وما زال يدفعه حتى بعد مرور أكثر من قرن على تلك المرحلة المفصلية.

ومن بين كل المتغيرات العاصفة المُرافقة للحرب العالمية الأولى، ثمة ثلاث قضايا هي الأكثر إنطباقاً على واقع الأمة السورية، وما تزال تأثيراتها راهنة وفاعلة حتى يومنا هذا. وأقصد بذلك: عامل الجغرافيا وعامل الديموغرافيا وعامل أنظمة الحكم السياسية. ولا يُقلل هذا الرأي من أهمية القضايا الأخرى، إلا أن هذه العوامل الثلاثة تحكّمت بأوضاعنا القومية منذ أن أعادت القوى المنتصرة في الحرب رسم مصير الشعب السوري بمعزل عن إرادته الحرّة. إن العاملين الأولين مترابطان عضوياً بحيث أن تضعضع أحدهما يعني بالضرورة تضعضع الآخر. أما العامل الثالث فيخضع لاعتبارات زمنية وفي أحيان كثيرة ينشأ عن إرادات خارجية أو عن تواطؤ إرادات محلية مع الخارج… وغالباً ما يكون ذلك على حساب المصالح القومية.

خرجت منطقة الهلال السوري الخصيب من الحرب العالمية الأولى بكارثة التغيير الجغرافي على يد البريطاني سايكس والفرنسي بيكو. وكانت المجازر التي ارتكبها الأتراك العثمانيون قد سبقت التقسيم الجغرافي ومهّدت له. ثم توسعت عمليات التغيير الديموغرافي من خلال سياسة التهجير الطوعي أو القسري بعدما فرضت فرنسا وبريطانيا “الواقع” الجغرافي الجديد. وأخيراً عملت الدولتان الاستعماريتان على إنشاء أنظمة حكم تتناسب مع المتغيرات الحاصلة، وتكون في الوقت نفسه ضمانة لحماية المصالح الاستعمارية في الوطن السوري.

ويبدو أن تلك التركيبة الثلاثية قد أصابها خلل مصيري بعد مرور حوالي المئة سنة على وجودها، ولم تعد قادرة على مواكبة متطلبات العصر لا على المستوى القومي ولا على المستوى الكياني. وما شهدته بلادنا خلال العقود القليلة الماضية، وبالتحديد منذ مطلع القرن الحالي، ليس إلا أحد مظاهر التغيير الجغرافي الناجم عن التغيير الديموغرافي. ونحن نعرف أن الجغرافيا والديموغرافيا هما في حالة تفاعل مستمر، وقد يسبق أحدهما الآخر في ظرف معيّن، غير أن النتيجة واحدة في نهاية المطاف. وإذا نظرنا إلى الخارطة البشرية للأمة السورية تتأكد لنا حقيقة خطيرة ومفجعة: هناك تغيير ديموغرافي واسع في العراق والجمهورية السورية ولبنان وفلسطين… وأخطر ما فيه أن الحراك البشري نادراً ما يعود إلى أوضاعه السابقة.

وكان من الطبيعي أن تترك المتغيرات الديموغرافية بصماتها على الحيز الجغرافي، فنشأت حالات جغرافية إنقسامية في العراق، كما انتشرت في لبنان دعوات التقسيم والفيدرالية والإدارة الذاتية وما شابه. ولا يتوقف المشروع الصهيوني عند حدٍ في ابتلاعه الأراضي الفلسطينية، وفي تهويد ما تبقى من الضفة الغربية. وفي حالة الجمهورية السورية، نجد النموذج الأفظع للتشرذم الجغرافي: إحتلال أميركي في الشرق، وهيمنة تركية في الشمال والشمال الشرقي، والعديد من الجماعات المسلحة والإرهابية التي تسيطر على مساحات من الأراضي السورية… وغيرها!

والظاهر الآن أن العاملين الجغرافي والديموغرافي قد حققا الغاية المتوقعة منهما، على الأقل من وجهة نظر القوى العالمية والإقليمية المهتمة بالمسألة السورية. وعلى هذا الأساس نقترح مقاربة الحراك السياسي والعسكري الذي تواجهه بلادنا في هذه الفترة. إن منطق التطورات يشير إلى خطة لإحداث تغيير سياسي يطال أنظمة الحكم القائمة كهدف أول، أو إلى تبديل آليات انبثاق السلطة بما يكفل إسقاط الممارسات السياسية للدولة. إن المتغيرات الديموغرافية والجغرافية التي تعيشها الأمة السورية حالياً، يتم التخطيط لها لكي تصبح قاعدة لنهج سياسي يعزز النزعات الفئوية ويؤسس لصراعات داخلية تحت شعارات عرقية ودينية ومذهبية.

لقد دخلت الأمة السورية دائرة الخطر الشديد. وهذا ما يتطلب من الجميع فهم طبيعة المرحلة، والالتفاف حول المشروع القومي الاجتماعي الواضح المعالم.