قبل الغوص في أهميّة الإعلام المقاوم وكيفيّة استخدام الوسائل الحديثة في معركة المصير القوميّ، لا بدّ لنا من الإشارة إلى أن الإعلام والصّحافة لنا نحن هما «مقياس ارتقاءِ الأمم، وصورة الأخلاق فيها، ومظهر شعورها وعنوان مجدها». كما أن الإعلام بما يمثّل من وسائل هو نفسه «المرآة الّتي ترى بها الأمّة نفسها، وتنعكس عنها صورتها، ويتجلّى فيها تمدّنها كما هو، لا كما يرسم الوهم أو يصورّه الخيال». إن دور الإعلام في ارتقاء الأمم والدّفاع عن حقوقها أصبح يوازي دور القوّة الّتي هي القول الفصل في إثبات الحقّ القوميّ، فالوسائل الإعلاميّة بمختلف تقنيّاتها تلعب دورًا كبيرًا في معارك المصير.
إنّ هدف الوسيلة الإعلاميّة هو الّذي يحدّد هويّتها، وللإعلام المقاوم دورٌ كبيرٌ في نشر الوعي لدى العامّة، كما يكمن دوره في رفع معنويّات الجمهور وعدم السّماح للإعلام المعاكس في تشويه صورة المقاومة وجعلها مستهدفة من قبل بيئتها وشعبها، وهذا لا يعني ألّا يكون لدينا رأيٌ آخر أو تحفّظ اتجاه المسار السّياسيّ الّذي يسلكه تنظيمٌ مقاومٌ ما هنا أو هناك.
لقد تجلّى دور الإعلام المقاوم في حرب تمّوز 2006، بحيث حاولت الدّولة اليهوديّة الزّائلة بوسائلها الإعلاميّة (العبريّة والعربيّة) وحتى اللّبنانيّة منها، ضرب معنويّات المقاومين والبيئة الحاضنة للمقاومة بأخبارٍ زائفة، فجاء ردّ المقاومة سريعًا برسالةٍ أرسلها مجاهدوها لأمينهم العامّ مؤكّدين ثباتهم على جبهات فلسطين واستعدادهم للالتحام مع من يجرؤ من ألوية النّخبة في جيش العدوّ. وكان لرسالة الردّ من الأمين العامّ وقعها الوجدانيّ في قلوب هؤلاء الأحرار. ومن منّا لا يذكر السّيّد حسن نصر الله حين قال: «انظروا إليها تحترق وستغرق ومعها عشرات الجنود الإسرائيليّين الصّهاينة، هذه البداية وحتى النّهاية كلامٌ طويلٌ وموعدٌ والسّلام»؟ لا ريب في أنه كانت لهذا الخطاب الكلمة الفصل في قلب موازين الحرب آنذاك. والأكيد أن مصداقيّة المتكلّم جعلت من الشّارع «الإسرائيليّ» ينتظر خطابات الأمين العامّ ويبني عليها المواقف في سير الأحداث.
خلال سنوات الحرب على سوريا، استُخدم الإعلام لتشويه صورة الجيش السوريّ وإسقاطه أخلاقيًّا ومناقبيًّا من نفوس الشّعب، من البراميل المتفجّرة إلى استخدام الأسلحة الكيماويّة وغيرها من الحكايا الّتي لم يستطع الإعلام المأجور إثبات صحّتها. وفي معركة «سيف القدس»، أثبتت المقاومة في قطاع غزّة وعيها لقدرة الإعلام على التّأثير في سير المعركة. فظهور شخصيّة «أبو عُبيدة»، ذاك الرّجل الملثّم المتحدّث باسم «حماس» على الشّاشات مهدّدًا وواعدًا العدوّ بالجحيم، جعل الشّارع «الإسرائيليّ» قلقًا، ممّا أدّى للضّغط على الحكومة اليهوديّة للتّراجع ومحاولة إنهاء المعركة بأقلّ الخسائر.
اليوم نحن نخوض أشرس حربٍ عتادها الكاميرات والتّكنولوجيا والشّبكة العنكبوتيّة والقلم وغيرها من الوسائل، وعديدُها مجنّدون مأجورون يحملون سلاحًا أمضى من السّيف. وهنا لا يسعني إلّا أن أستحضر هذا القول لزعيم الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ ومؤسّسه أنطون سعادة: “بيدّ أن لكلِّ جوادٍ كبوة، ولكلِّ قلمٍ عثرة. ولكن شتّان ما بين كبوات الجِياد وعَثراتِ الأقلام، لأنّ تلك لا تُردي إلّا فوارسها أمّا هذه فتُردي كثيرين وقد تُلقي أممًا وشعوبًا بأسرِها في هاويةٍ عميقةٍ من التّعاسة والشّقاء”.
نخوض هذه الحرب مع كارتيلات الإعلام الّتي تُستثمر فيها مليارات الدّولارات لغايةٍ واحدة وهي تشويه صورة المقاومة وجعلها العدوّ الأوّل لشعبها. بيدّ أن المقاومة هي العثرة الأخيرة في وجه محاولات السّيطرة على أمّتنا ونهب ما تبقّى من خيراتها وإسقاط مشروع النّهضة في هذا المشرق. وإذا كان الإعلام وحده لا يكفي كي نحقّق انتصار قضيّتنا، فإنّنا لن ننتصر من دون تسليط ضوء الوعي السّياسيّ والاجتماعيّ والثّقافيّ على قضايانا العادلة، الوعي لهُويّتنا وحقيقتنا القوميّة مقابل محاولة العدوّ محو تاريخنا الثّقافيّ وإرثنا الحضاريّ، تارةً بتدمير آثارنا وتارةً بسرقتها ومحاولة نسبتها له وترسيخ وعي مزيّف لحقيقة بلادنا. والوعي يعني المعرفة العلميّة المُدركة لتاريخ حضاراتٍ خلت مخلّدةً إرثًا ثقافيًّا وذاكرةً اجتماعيّةً تضمن انتصار قضيّتنا في ميزان الحقّ والباطل، لا البغض الطّائفيّ والحقد وكَيْلِ الشّتائم وتشويه الحقائق.
إنّ مناضلي الإعلام المقاوم وضبّاطه المؤمنين بنصرٍ لا ريبَ فيه، هم بأخلاقهم وكبريائهم وعزّة نفوسهم يشبهون المُرابطين على الجبهات في الجنوب وجنوبِ الجنوب. عزّةٌ تعلو على صغار النّفوس اللّاهثين لتطبيع العلاقات مع الدّولة اليهوديّة الزّائلة، فلا يجوز أن يكون في كادرها ضبّاطٌ وجنودٌ يشتمون أو يكذبّون أو يشوّهون الحقائق حتى ولو كان ذلك فيه انحياز للمقاومة، فسرّ انتصار المقاومة هو بعقليّتها الأخلاقيّة الجديدة، عقليّة الإنسان المجتمع، المقاومة المجتمع.
إذا كانت القوّة هي القول الفصل في إثبات الحقّ القوميّ، فالإعلام هو وسيلةٌ من وسائل هـذه القوّة وهو القول الفصل في تسليط الضوء على هذا الحقّ. وحضور الإعلام المقاوم هو أحد أهمّ أساليب الرّدع لحملات التّشويه والتّضليل. حين يخفق إعلام المقاومة يجب عليه التّغلّب على إخفاقه، فقضيّتنا الّتي ندافع عنها بالمعنى الإنسانيّ والاجتماعيّ والقوميّ العميق ستنتصر مهما علا صوت الباطل، سوف تنتصر بوعينا للدّور الخطير الّذي يكمن في طيّات المعلومة ووسائل انتقالها، حيث يجب علينا مواجهة الدّور المباشر وغير المباشر الذّي يلعبه إعلام العدوّ في بثّ اليأس والوهن وجعل مجتمعنا يتقبّل التّطبيع والمهادنة والخنوع والذّلّ والتّبعيّة في الثّقافة والتّربية والأخلاق.
أخيرًا، نؤكّد أن إعلام المقاومة يجب أن يكون إعلامًا ينقل الحقيقة بصدقٍ وشفافيّة، يكسب ثقة العدوّ قبل الصديق، يدفع نحو التمرّد الثوري على المفاهيم الدخيلة على ثقافتنا، لا يحرّض بل وينبذ الطائفيّة والطائفيّين والمذهبيّة والمذهبيّين، ويدعو لوحدة المجتمع في مواجهة المسائل الخطيرة التي تساوي وجوده. إعلام المقاومة يجب أن يكون عصريًّا حديثًا يواكب وسائل المواجهة، علميًّا يستند في طروحاته للحقائق العلمية لا التّأويلات والمغالطات، إعلام حرٌّ يقارب الواقع بموضوعيّة وصراحة، كي ننتصر!