قواعد اليهود مع العدو والحليف: اكذب اكذب حتّى يُصدّقك النّاس!

مع بداية الإحتلال “الإسرائيلي” لجنوب لبنان، حرص اليهود على “تطمين” الشّاميّين، بأنهم سيتجنبون الصدام معهم، وأن أهداف معركتهم تقتصر على قوات منظمة التحرير.
يذكر باتريك سيل في كتاب “الأسد الصراع على الشرق الأوسط” -الطبعة السادسة، ص ٦١٥- بأنّ “إسرائيل” طلبا من الولايات المتحدة الأمريكية أن تخبر الرئيس الأسد، بأن وحداته في لبنان لن تتعرض للهجوم، إلا إذا هاجمت هي أولاً. ترافق الطلب الإسرائيلي مع إعلان رفائيل إيتان:«إننا نبذل كل جهد ممكن، لتجنب المواجهة مع السوريين. وإن مشكلتنا مع الإرهابيين.»-باتريك سيل، الأسد الصراع على الشرق الأوسط، ص 615.
في 8 حزيران، وقف بيغن أمام الكنيست، ليعلن أن القوات “الإسرائيلية” وصلت إلى خط 40 كلم، وذكّر الأسد بأن الجيش “الإسرائيلي” ليس هدفًا لقواته، وناشده عدم التدخل في القتال.
 
لم يتطابق كلام بيغن مع مجريات المعارك في الميدان؛ فأثناء وقوفه على منصة الكنيست، كانت وحدات الجنرال إينان تهاجم القوّة السورية المرابطة في جزين، التي عُزّزت عند بدء الحرب بقوات إضافية. وقبل يوم على معركة جزين كان الطيران “الإسرائيلي” قد قصف محطتي رادار شاميّتين، الأولى في تلال خلدة -كان هذا الرادار قد قصف من قبل ولم يكن صالحًا للإستخدام- والثانية بالقرب من مطار رياق.-إسرائيل الحرب الدائمة، محمد خواجة-
يذكر زئيف شيف وإيهود يعاري في كتاب “الحرب المضللة” أن سوريا شعرت حينها بالخطر وأرسلت العماد علي أصلان إلى لبنان لتقويم الوضع، وقد  تثبت من أن هذه الحرب ليست عملية صغيرة، إنما حرب واسعة تستهدف المقاومة الفلسطينية وسورية معًا.
كما أكد شيف في نفس المرجع بأنه “لو أرادت إسرائيل تفادي الحرب مع سورية، لكان بمقدورها ذلك. لكن خطة شارون تتضمن حربًا شاملة ضد المنظمة والجيش السوري وتدمير الصواريخ.”
بالفعل، لا يمكن تفسير دفع المزيد مع القوات الإسرائيلية على القطاع الشرقي، إلا أن القضاء على وحدات الجيش السوري كان بصلب أهداف العدو؛ الذي زج خمس فرق مدرعة وعدة ألوية مستقلة، فضلًا عن وحدات النخب وسلاحي الجو والبحرية-إسرائيل الحرب الدائمة، محمد خواجة ص ٦٨-
 
جزين المعركة الأولى:
تقع بلدة جزين على مفترق طرق يربط الجنوب بالبقاع وجبل لبنان، فكانت بداية المعارك الإسرائيلية المباشرة مع القوات السورية على أراضيها لأهميتها الإستراتيجية.
يذكر الباحث محمد خواجة في نفس الكتاب، أن القوات السورية كانت قد نشرت كتيبة مشاة معززة بسرية دبابات، لحماية قواتها المرابطة في البقاع الغربي. وحين اقتربت القوات الإسرائيلية من ساحة البلدة بعد تمهيد جوي كثيف، اشتبكت الكتيبة السورية الموزع رجالها في المباني المشرفة على الساحة، وعمدوا إلى رمي الدبابات الإسرائيلية بالصواريخ والقاذفات المضادة للدروع.
قام الجيش الإسرائيلي بالسيطرة على التلال المشرفة على القرية، لحماية آلياته التي اخترقت القرية من الجنوب إلى الشمال، ومنعًا لحصاره انسحب الجيش السوري من جزين باتجاه البقاع بعد أن اختل ميزان القوى بشكل حاد.
 
بعد سقوط جزين، تلاقت القوة الإسرائيلية في ميدون، واتجهت نحو عين التينة، لضرب ميمنة القوات السورية بالبقاع الغربي؛ يذكر شيف بكتابه -ص ٨٦ – أن الجيش الإسرائيلي خاض معركة غير موفقة، بالقرب من عين التينة جنوب غرب القرعون؛ فقد حاولت قوة مدرعة إحتلال القرية، لكنها واجهت مقاومة شديدة من القوات السورية المرابطة فيها. في النهاية سقطت القرية بعدما خسرنا أربع دبابات وقتل قائد الكتيبة وعدد من الجنود.
 
أدرك الجيش الإسرائيلي أهمية إحتلال الشوف، التي تؤمن ميمنة وحداته المتقدمة الى طريق الساحل باتجاه بيروت، وتوصله الى الطريق الدولية عبر أكثر من مسلك. كما سيطر على قمم جبل الباروك لتأمين عدد كبير من قرى البقاع الغربي وجزء من سهل البقاع الأوسط، بإنزال قوة من لواء غولاني أقامت فيه محطة رصد وإنذار، فانكشفت القوة السورية المرابطة في المنطقة…
 
يذكر زئيف شيف كيف تقدمت القوات الإسرائيلية في مناطق الشوف في كتابه -ص٨٢-: “عبرت قوات الجنرال مناحيم  إينان جسر بسري، ولم تلاق مقاومة تذكر، وقد طلب منها التوقف بالقرب من كفرنبرخ للتزود بالوقود، وأثناء ذلك ظهرت في السماء طائرات هليكوبتر سورية من نوع “غازيل” الفرنسية، مزودة بصواريخ هوت مضادة للدروع، وهاجمت الطابور الإسرائيلي فأصابت أربع دبابات. عندها بدء الضغط من القيادة للتقدم بسرعة نحو عين زحلتا.
في يوم الثلاثاء ٨ حزيران أوصل شارون قواته إلى محاور الجبل، على مشارف طريق بيروت-دمشق. بعد أن طلب من عناصر حزب الكتائب إغلاق الطريق بين بلدة عاريا ومستديرة الصياد.
 
يوم المعركة-جحيم عين زحلتا:
مساء الثلاثاء ٨ حزيران، صعدت الدبابات الإسرائيلية وقوات المشاة من قرية كفر نبرخ نحو عين زحلتا التي تعتبر منطقة إستراتيجية ما بين صوفر وضهر البيدر.
كان السوريون قد جهزوا ثلاثة محاور دفاعية بين أحراش القرية بعد أن تنبهوا لهدف العدو الكامن بضرب الطريق الدولية وقطع أوصالهم.
بعد قتال عنيف وصلت الآليات الإسرائيلية إلى شوارع القرية بعد أن إتبعت تكتيك السير خلف المشاة الذين قاموا بتأمين الطريق والتنبه للكمائن.
إلا أن هذا التكتيك لم يحميهم من كمين محكم أعلنه إحتراق دبابة ميركافا قطع صوت إنفجارها إنهمار القذائف والصواريخ على الرتل الإسرائيلي الذي تبعثر في محاولة للإختباء.
أورد زئيف شليف في كتابه -ص٨٥- “لقد سقط ١١ قتيلًا و ١٧ جريحًا، ودمرت بضع دبابات”
 
أرسل الجنرال إينان كتيبة مظليين إشتبكت على عجل مع وحدات كوماندوس سورية لساعات عدة.
كان القتال قريب إلى حد الإلتحام؛ ودار القتال في زواريب البلدة الضيقة، المرصوصة بالبيوت القرميدية الجميلة من مسافات قريبة، ومن بيت إلى بيت، فانحصرت فاعلية سلاح الجو. وللمرة الأولى إستخدم السوريون طائرات الهيليكوبتر أثناء القتال لقنص الدبابات المعادية-إسرائيل الحرب الدائمة، ص ٧٣.
مساء الأربعاء ٩ حزيران كانت عين زحلتا تحت الاحتلال، لكن نجحت القوات السورية بفتح ثغرة للتسلل نحو ساحة البلدة؛ فتح السوريون نيران أسلحتهم من مسافة لا تزيد عن مئتي متر تحت غطاء كثيف من صواريخ المالوتكا المضادة للدروع.
” كان على الآليات الإسرائيلية الانسحاب من أمكنتها ولو من دون أوامر، وبدون إتجاه، بعضها أصبب مباشرة، وبعضها الآخر عطب، وسقط ثلاثة قتلى وهم يحاولون سحب طاقم دبابة تحترق”-زئيف شيف وايهود يعاري، لبنان آخر واطول حروب إسرائيل، ص١٣٨.
لحسم المعركة، زج الإسرائيليون لواء مدرع جديد بالمواجهة. تقدمت الوحدات نحو العزونية، وسيطرت عليها بعد اشتباكات مع وحدات من الجيش السوري مرابطة.
مع وصول الصهاينة إلى تخوم بلدة عين دارة الجنوبية، نجح السوريون بضرب زخم الجيش المهاجم بعد معارك إستمرت حتى ١٠ حزيران. هزم الإسرائيليون وفشلوا بإحتلال البلدة رغم تفوقهم نتيجة إستبسال القوات السورية المدافعة عنها.
يقول روبيرت فيسك بكتابه -ويلات وطن: ” أحرز السوريون نصرًا عسكريًا في غاية الأهمية، بمنعهم الإسرائيليون من الإستيلاء على أعلى نقطة تشرف على الطريق الرئيسي بين بيروت ودمشق. تصدى السوريون لهجمات الدبابات الإسرائيلية بالرغم من الغارات الجوية المتواصلة، ولم يكن لديهم غطاء جوي، وكانت قواتهم تحت رحمة الطائرات الإسرائيلية. استماتوا بكل معنى الكلمة لإبعاد الإسرائيليين عن المديرج… حين وصلنا إلى القرية عين داره كانت النيران لا تزال تشتعل بالدبابات السورية قرب طريق القرية الضيق، وكان قتلاهم وجرحاهم موزعين في الحقول غارقين بدمائهم. كانت النيران مازالت تتصاعد من بعض البيوت، وفي أسفل الطريق وقف مرضى الأمراض العقلية (العزونية) على سطح مستشفى المدمر الذي هجره الطاقم الطبي، يعولون بأصواتهم… كانت ألسنة الحرائق الذهبية البراقة، تختلط بالخضرة الداكنة في البساتين، فتأتي على الدبابات التي احترق جنودها في داخلها. حين توغلنا داخل زواريب البلدة، خرج من الفيلات المدمرة جنود ربط بعضهم رؤوسهم أو سواعدهم بالضمادات، غير أنهم كانوا لا يزالون يعتمرون الخوذ ويحملون البنادق. لقد حاربوا الإسرائيليين مدة يومين وصدوهم، وظهر الدليل على نصرهم في زاوية الشارع الرئيسي من القرية؛ فعلى إمتداد الوادي بين أشجار الصنوبر، ارتفعت أعمدة الدخان الأزرق من الدبابات الإسرائيلية المحترقة. كانت هذه الدبابات قد وقعت في كمين سوري نصبته الوحدات الخاصة التي استخدمت صواريخ المالوتكا من داخل القرية، والأحراش المحيطة بها. بذلك توقف تقدم الجيش الذي لا يقهر مرة جديدة”-ص٢٨٤-٢٨٥.
 
تكمن أهمية معركة عين زحلتا أنها بلورت جدوى المقاومة عندما سادت مقولة العين التي لا تقاوم المخرز، فكانت الدّماء السورية تمرج الأرض اللبنانية لتسقط المشروعين؛ الصهيوني الفاشي والجميّل الإنعزالي. فحمت خاصرة المقاومة وضربت عمق مشروع الاحتلال، لتمهد الطريق نحو عمليات أخرى شكلت طريقنا نحو التحرر، وكانت عيون المقاومين تلوي المخارز أمام حدقاتها اللامعة…