بين حزيران 1916 وحزيران 2023 الذي أظهر أن قسما كبيرا من الشارع العربي احتفى بفوز أردوغان صاحب النزعات العثمانية التوسعية المعلنة، من حقنا أن نسأل: هل خرجنا من العباءة العثمانية أم أن هذه العباءة ظلت موجودة بأشكال مختلفة رغم محطات الصراع المريرة بيننا وبين الاحتلال العثماني.
قبل أن نعيد قراءة حزيران الأول 1916 فإن المقاومة العربية لهذا الاحتلال أبعد وأعمق من ذلك، فعلى خلاف ما هو شائع اصطدم العرب والأتراك في محطات عديدة قبل الحرب العالمية الأولى، ومن ذلك:
- الصدام الأول في نهاية العهد الأموي وبداية العهد العباسي، وكان مع الأتراك اليهود أو ما يعرف بدولة الخزر بعد تهوّد بلاطها، وهو ما يذكره ابن فضلان في رحلته إلى ملك البلغار لدعمه ضد ملك الخزر بتكليف من الخليفة العباسي.
- استهداف السلاجقة وقتل وزيرهم الأكبر، نظام الملك من قبل أشياع الإسماعيلية النزارية بقيادة الحسن الصباح، الذين وضعوا السلاجقة والأيوبيين وملوك وقادة الصليبيين هدفا لهم.
- وقف الانتصارات التركية في المنطقة العربية التي بدأت عام 1516 في مرج دابق شمال سوريا، وذلك حين تمكن إمام اليمن الزيدي من إلحاق هزيمة كبيرة بالأتراك 1546 وطرد اليهود بعد ذلك والذين كانوا يوصفون بعيون تركيا العثمانية في صنعاء.
- ثورة حاكم عكا، ضاهر العمر الزيداني على الأتراك وهزيمتهم بالتحالف مع قبائل من جبل عامل الشيعي وجبل الشوف الدرزي قبل أن يتمكن الأتراك بدعم الاسطول البريطاني من هزيمة العمر.
- ثورة حاكم مصر، محمد علي على السلطنة العثمانية وهزيمة جيوشها وحصار إسطنبول نفسها قبل أن تتحالف بريطانيا وامبراطورية النمسا والمجر وروسيا القيصرية ضده بتمويل من اليهودي روتشيلد وتجبره على الانسحاب إلى مصر.
- ثورة حلب آواخر القرن التاسع عشر وقصف المدينة بالمدفعية من قبل الأتراك.
- ثورة الكرك جنوب الأردن بالتزامن مع ثورة جبل العرب والدروز 1910 وقد أخمدتا باستخدام المدفعية وإعدام العشرات من قادة القبائل.
الثورة العربية أم الثورة السورية الكبرى
يختلف المؤرخون في تقييم الثورة العربية الكبرى عام 1916 ضد الاحتلال التركي، فبالإضافة إلى ما هو معروف وشائع عنها وعن اسمها وعنوانها، الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي، هناك من يرى أنها ثورة سورية كبرى بغطاء ديني من شريف مكة مقابل الغطاء السلطاني للدولة التركية، وأن برنامج الثورة وحدودها وقياداتها العسكرية يسمح بالقول أنها إرهاصات دولة سوق قومي برجوازية للبرجوازية السورية وحدود أسواقها التي لم تمتد إلى أفريقيا العربية، شأنها في ذلك شأن كل الثورات القومية البرجوازية التي انبثقت من إمبراطوريات إقطاعية متفسخة، وكانت في الوقت نفسه جزءا من تجاذبات المراكز الأوروبية المتصارعة واقلام الاستخبارات فيها.
يشار كذلك إلى اعتبارات أخرى منها:
- دخول السعودية على خط تنسيب الثورة لها من خلال مسلسل سفر برلك الذي عرض في الدورة الرمضانية السابقة.
- سياسات التتريك العنصرية ضد العرب وغيرهم من الشعوب المغلوبة.
- بخلاف ما هو شائع في أدبيات الجماعات الإسلامية أنها ثورة ضد خلافة إسلامية، فالجماعة الحاكمة والمتنفذة في إسطنبول آنذاك كانت جماعة الاتحاد والترقي العلمانية.
- أن تركيا ليست دولة خلافة أصلا، بل سلطنة، ولم يتصرف أي سلطان من سلاطينها كخليفة للمسلمين، بل أن هؤلاء السلاطين لم يحجوا أبدا إلى مكة ولم يسدلوا الكسوة على الكعبة.
في المحصلة:
أولا، الثورة العربية الكبرى، سواء كانت سورية بغطاء ديني أو كانت مشروعا لأشراف الحجاز، وسواء قاموا بذلك بالتنسيق مع الانجليز لغايات عامة أو خاصة، فالملاحظة الأساسية حولها هي وهم البحث عن استقلال أو سلطة على مستوى الأمة بالاعتماد على الاستعمار بدل ثورة تستلهم خطابها من استقلال وطني وقومي حقيقي.
ثانيا، بسبب نمط الإنتاج الإقطاعي الشرقي ممثلا بالنمط العثماني، لم تتوفر الشروط الموضوعية لثورة برجوازية قومية على غرار ثورات العصر القومي البرجوازي في أوروبا، وهو الأمر الذي سهل على المستعمرين والمحتلين الأوروبيين الجدد تحويل الولايات العثمانية إلى كيانات قطرية وهويات مشرذمة تابعة للمتروبولات الرأسمالية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
هل خرج العرب من العباءة العثمانية
تحت هذا العنوان نتساءل في إطار النموذجين التاليين، العسكري والإسلاموي:
أولا، النموذج العسكري ممثلا بتجربة مصطفى كمال أتاتورك والذي يستدعي أيضا مقاربة (القبيلة والجيش) سواء في الحالة التركية، قبيلة ال عثمان والجيش التركي ما بعد السلطاني أو في الحالة العربية، قريش والجيش وموقع الشرعية في الحالتين.
مقابل دور الجيش ومصطفى كمال في تركيا كان أول انعكاس عربي لذلك في العراق، سواء في حالة حركة الجيش بقيادة بكر صدقي في ثلاثينيات القرن الماضي أو في حالة الانقلابات العسكرية السورية عامي 1949 و1950 (الزعيم، الحناوي والشيشكلي).
أما التعبير الأوضح لهذه المعادلة الذي يتعلق بالصراع على الشرعية التاريخية فهو حركة الجيش المصري في 23 يوليو (تموز) 1952 وحركة الجيش العراقي في 14 يوليو (تموز) 1958.
ثانيا، النموذج الإسلاموي في عصر رأسمالي، تلازم هذا النموذج في كل مرة مع معطيات إقليمية ودولية، تموضع فيها هذا النموذج مع الغرب الأوروبي والأمريكي مقابل الاتحاد السوفييتي وحركة التحرر العربية، وتعود جذوره إلى ما قبل ذلك في اصطفاف مماثل حين دعمت بريطانيا الملك فؤاد في مصر لإعادة إنتاج شكل من الخلافة دخل في تجاذبات محلية أسقطته عمليا رغم أن بطلها الشيخ علي عبد الرازق طرد من الأزهر لأنه واجه دعوة الملك وقال في كتابه الإسلام وأصول الحكم أن لا خلافة سياسية في الإسلام، وكان الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ رشيد رضا قد حاولا تعميم فكرة مماثلة لفكرة الملك فؤاد.
يشار كذلك إلى ولادة تنظيمين من رحم هذه الأفكار، هما حزب التحرير وجماعة الإخوان المسلمين التي اتهمها خصومها بتلقي أموال من قلم الاستخبارات في شركة قناة السويس البريطانية، كما يشار إلى أنه حيث فشلت بريطانيا في الشرق العربي، نجحت في اختراق الرابطة الإسلامية في الهند والرد على حركة التحرر الوطني الهندية بقيادة غاندي ونهرو بدعم خروج الباكستان عنها.
ويشير خصوم محمد أسد، أحد أبرز المدافعين عن استقلال الباكستان أنه لم يكن سوى (يهودي متخفي) بالنظر إلى تحوله المتأخر من يهودي نمساوي باسم ليوبولد فايس إلى مسلم باكستاني.
على الصعيد التركي، فإن العودة إلى التوظيف السياسي للإسلام بدأت مع وفاة مصطفى كمال وتفسخ حزب الشعب العلماني وصولا إلى تأسيس حزب جديد هو الحزب الديموقراطي الذي أخذ يغازل الإسلاميين السابقين في تركيا وخارجها من مواقع أطلسية أمريكية إسرائيلية صريحة، فبعد فوزه المتكرر بقيادة عدنان مندريس في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، اعترف بـ (إسرائيل) وفتح تركيا للقواعد العسكرية الأمريكية وحلف الناتو والبنك الدولي وأطلق مع حليفه نوري السعيد في العراق حلف بغداد – أنقره، الذراع الجنوبي لحلف الأطلسي.
وبالإضافة لحليفه العراقي المذكور، كان العهد الجديد في تركيا آنذاك يسعى لاستعادة النفوذ التركي السابق في الوطن العربي، سواء بإنعاش الرجعية ضد موسكو وحركة التحرر أو بإطلاقه فكرة مؤتمر إسلامي من طينته.
المحطة الثانية، من النموذج الإسلامي في تركيا، هي المحطة الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية وذلك باعتماد إسطنبول مركزا لهذا النموذج والمنصة الإعلامية المعروفة في الخليج والشارع الإخواني، وذلك انطلاقا من تفكيك الهوية القومية لصالح هويات طائفية ومذهبية متناحرة تسمح لإسطنبول بأن تكون مركزا لأكبر الهويات المذهبية في الوطن العربي.