مقدمة عامة
يمكن الاشارة الى هذا القانون باسم “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019”. وهو قانون اميركي المنشأ والصياغة؛ فلقد تمّ اقراره بصيغته النهائية من قبل مجلس النواب بأغلبية ساحقة في 22 كانون الثاني 2019، وصادق عليه مجلس الشيوخ بأغلبية 86 صوتاً مقابل رفض ثمانية اصوات في 17 كانون الاول 2019، ووقعه، اخيراً، الرئيس الاميركي دونالد ترامب في 1 حزيران 2020 ويستمر تطبيقه لمدة خمس سنوات من تاريخ انفاذه.
أعطى قانون قيصر صلاحيات واسعة للجان في الكونغرس للتحقق من تطبيق بنوده. وعليه، فإن مصطلح “لجان الكونغرس المناسبة” تعني:
- في مجلس النواب: لجان الشؤون الخارجية والخدمات المالية والمخصصات.
- في مجلس الشيوخ: لجان العلاقات الخارجية والخدمات المصرفية وشؤون البناء والقضاء والمخصصات.
كما منح هذا القانون للرئيس الاميركي صلاحيات واسعة للتعليق الكلي او الجزئي للعقوبات، وأجاز له السماح بتأمين المساعدات الانسانية للتجمعات المدنية السورية عن طريق المنظمات الدولية الانسانية. ومن الاحكام العامة لهذا القانون فإن العقوبات المفروضة على الحكومة السورية تطال ايضاً حكومتي روسيا الاتحادية والجمهورية الاسلامية الايرانية واي شخص او مجموعة اجنبية.
يسلط هذا البحث الضؤ على شرح قانون قيصر ومندرجاته السياسية والاقتصادية والمالية، وصولاً الى رؤية القانون الدولي له، وتأثيره على مسار العلاقات الدولية. ولا بأس من البدء بدراسة تاريخ العقوبات على سورية وتداعياتها على دول الجوار، وبخاصة على لبنان الذي يشكل رئة الاقتصاد السوري، وسوريا التي تمثل بوابة عبور المنتجات اللبنانية الى البلدان العربية.
تاريخ العقوبات الاميركية على سوريا:
تبدأ حكاية العقوبات الاميركية منذ 1979، حين وضعت وزارة الخارجية سورية على لائحة الإرهاب. وبناء عليه فرضت عليها العقوبات بموجب قانون المساعدة الأمنية الدولية وضبط تصدير الأسلحة، وبموجب قانون الطوارىء الدولي للقوى الاقتصادية (وقف المساعدات)، والقانون الإداري للصادرات الذي يفرض على وزيري التجارة والخارجية اعلام الكونغرس قبل السماح بتصدير البضائع التي تزيد قيمتها عن 7 ملايين دولار الى اي دولة داعمة للإرهاب، حيث أدرجت سورية عام 1980 في عداد تلك الدول. وقد مارست الولايات المتحدة الاميركية بموجب هذا القانون بداية حظر على الشركات الاميركية وخاصة النفطية في التعامل مع الحكومة السورية، ثم حظراً تكنولوجياً على سورية شمل كافة السلع والتجهيزات التي تحوي مكوناً اميركياً بنسبة 10% فأكثر. وفرضت اميركا في عام 1981 حظراً على استفادة سورية من المساعدات الاميركية.
بدأت العقوبات خاصة بعد رفض القيادة السياسية في سورية لمطالب كولن باول في عام 2003 والتي كان أهمها التخلي عن المقاومة، فكانت العقوبات بدءاً من تمرير قانون محاسبة سورية والسيادة اللبنانية لعام 2003، وهو عبارة عن مجموعة من العقوبات الاقتصادية التي تفرض حظراً على معظم الصادرات الى سورية، ما عدا الطعام والدواء، وحظراً على الشركات الأميركية التي تعمل او تستثمر في سورية، وحظراً على سفر الأميركيين على متن طائرات سورية، وخفض العلاقات الدبلوماسية، ومنع الأشخاص الأميركيين من الدخول في أي معاملات ملكية مع الحكومة السورية، ووضعت قيوداً على سفر الدبلوماسيين السوريين الى الولايات المتحدة، ومنع التحويلات للممتلكات السورية، وفرضت حظراً على الناقلات الجوية السورية الإقلاع والهبوط والطيران فوق الولايات المتحدة، وتنفيذ الحظر الذي قرره الكونغرس لتصدير الذخائر والمواد ذات الاستخدام المزدوج. وينص القانون على الإعفاء من هذه العقوبات اذا قرر الرئيس ان من “مصلحة الأمن القومي” للولايات المتحدة القيام بذلك. ويقدم الرئيس تقريراً الى الكونغرس يوضح اسباب هذا القرار. وقد بدأ تطبيق هذا القانون في ايار 2004. وتتالت لاحقاً العقوبات الاميركية حتى تلوي ذراع سورية قبل وبعد غزو العراق وتلبية لمصالح ما يسمى “اسرائيل” وكمحاولة لمنع الدعم للمقاومة في لبنان.
وهناك عقوبات تشمل قرارات تنفيذية رئاسية بموجب امر تنفيذي من الرئيس الامريكي والتي تمنع مواطنين سوريين من الدخول الى النظام المالي للولايات المتحدة. فقد سمت وزارة الخزانة في حزيران 2005، مسؤولين سوريين رفيعي المستوى متهمة اياهم بالتورط في لبنان. وفي نيسان من العام نفسه أقرّت الخزانة تجميد اصول ما تزعم بأنهم المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وفي آب 2006 جرى تجميد اصول مسؤولين رفيعين في كل من لبنان وسورية ومع عام 2010 كان هناك ما يقارب 20 مواطناً سورياً تقع اسماؤهم ضمن العقوبات الأميركية. وفي كانون الثاني 2007 أقرّت الخزانة عقوبات على ثلاث شركات سورية هي: المعهد السوري العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، والمعهد الالكتروني، ومختبر المعايير الوطنية. كما فرضت في العام نفسه حظراً على ممتلكات الأشخاص الذين اتهمتهم بانتهاك السيادة اللبنانية او مؤسساتها الديمقراطية.
وهناك حزمة من العقوبات الناجمة عن قانون باتريوت الأمريكي الذي فرض خصيصاً ضد المصرف التجاري في سورية 2006، بحيث يمنع هذا القانون البنوك الأميركية او فروعها من التعامل مع البنك السوري في مقابل هذه العقوبات. ثم عاد واصدر الرئيس الاميركي باراك أوباما في 29 نيسان 2011، أمراً تنفيذياً يفرض عقوبات جديدة على سورية، وسّع العقوبات المفروضة عليها بموجب القرارات المتخذة في ايار 2004 في إطار قانون محاسبة سورية، وكذلك القرار المتخذ في نيسان 2006 والقرار التنفيذي في شباط 2008. وتشمل العقوبات الجديدة مسؤولين سوريين ومؤسسات عامة. وقد تضمنت ايضاً تجميداً للأموال وحظراً للتعاملات التجارية مع الشخصيات المادية والمعنوية المشمولة بالعقوبات. وفي 18 ايار 2011 وسّعت تلك العقوبات لتستهدف افراداً ومؤسسات ولتشمل القيادات العليا في سورية. وجمدت وزارة الخزانة الأميركية لاحقاٌ وفق تفويض قرار الرئيس أوباما الأصول المملوكة للأفرع الرئيسية الأربعة لقوات الأمن السورية والواقعة في إطار السلطة القضائية الأميركية، وحظرت على الأميركيين اي تعامل مع تلك الأفرع. وقد توسعت تلك العقوبات لاحقاً لتشمل رجال الأعمال والمصرف التجاري السوري والمصرف التجاري السوري اللبناني التابع له.
قانون قيصر:
ينص قانون قيصر على فرض عقوبات اضافية وقيود مالية على المؤسسات والافراد الذين يتعاملون مع سورية. تجدر الاشارة الى ان هذه العقوبات موجودة وقائمة منذ سنوات، والجديد اليوم هو تهيئة ارضية مختلفة لهذا الموضوع. وبات الوضع اصعب بسبب اغلاق المصارف اللبنانية، ومنع التحويلات المالية. فلبنان كان متنفساً للكثير من رجال الاعمال السوريين بعد بدء العقوبات على سورية. وبالتالي اصبحت الظروف اصعب بعد اغلاق المصارف في لبنان إذ زاد الضغط على الليرة السورية، وتدهور سعر صرفها بشكل سريع.
من جهته، ربط جيمس جيفري، المبعوث الأميركي الى سورية بين التطورات السورية واللبنانية، مؤكداً ان “النظام السوري لم يعد باستطاعته تبييض الاموال في البنوك اللبنانية التي تعاني من أزمة. كما ان قانون قيصر يفضي الى تشديد الحصار البرّي على دمشق، خصوصاً من الحدود اللبنانية لعزل سورية والمقاومة معاً.
وكذلك فإن الازمة في لبنان، وعلى مراحل، حرمت سوريا ولبنان من كميّات من الدولارات كانت تمرّ عبر المصارف اللبنانية، اذ ان المعدّل اليومي لحركة دخول وخروج الدولار من لبنان الى سوريا وبالعكس تراوحت خلال سنوات الحرب، بين مليونين الى ثمانية ملايين دولار في اليوم، إما من ودائع سورية في البنوك اللبنانية او من أموال تحويلات عمّال سوريين في لبنان الى سوريا، او من عمليات شراء من الخارج كانت تتم عبر لبنان ويدفع السوريون ثمنها في بيروت. مع بدء شحّ الدولار في السوق اللبنانية والانهيار الحاصل في السنة الأخيرة ومنع سحب المودعين اموالهم، لم يعد يتجاوز حجم التبادل بالدولار بين البلدين عتبة ال 100 الف دولار يومياً.
وعليه، فإن الساحتين اللبنانية والسورية مرشحتان للتصعيد عبر “لعبة” الدولار” ودفعهما تدريجياً نحو الفوضى العارمة.
هناك من يرى ان الازمة المالية برمتها هي تضليلية لأن الحدث السياسي هو في فلسطين. فواشنطن وتل ابيب تعدّان العدّة لتنفيذ “صفقة القرن” عبر ضم الضفة الغربية اولاً ومن ثمّ غور الأردن الى الكيان الصهيوني. وهذا من شأنه سيترك تداعيات خطيرة على منطقة الشرق الأوسط. وعليه، فإن قانون قيصر جاء في لحظة حرجة لأن هدفه غير المعلن هو خلق اجواء احباط لدى جبهة المقاومة النتصرة على الارهاب في سورية ولبنان.
أيضاً، فإن قانون قيصر هو جزء من مشروع اميركي- اسرائيلي يهدف الى فدرلة الدولة السورية. وهذا الامر يبدو واضحاً من خلال الدعم الاميركي المتزايد لما يسمّى ادارة المنطقة الذاتية في شمال شرق سورية، ويمكن تطبيقه من خلال احتجاز الثروات السورية، ومنع وصول القمح والنفط من المناطق الكردية، ومحاولة تأخير العملية العسكرية في ادلب ريثما يتم تجذير الادارة الذاتية اكثر. وكل هذا يعني العودة الى مشروع برنارد لويس الذي اطلقه في اذار 2003 والذي يهدف الى تقسيم المشرق العربي الى دويلات مذهبية كي يتسنى لإسرائيل تبرير وجودها كدولة يهودية.
عقوبات قيصر في ميزان القانون الدولي:
- الإطار القانوني:
وفق ميثاف الأمم المتحدة، تمثل المواد 39 و 41 و 42 الإطار القانوني الذي تستند اليه الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحديداً في فرض عقوبات اتصادية على دول معينة. فوفقاُ للمادة 39 يقرر مجلس الامن ما اذا كان قد وقع تهديد للسلم او إخلال به او كان ما وقع عملاً من اعمال العدوان، ويقدّم في ذلك توصياته او يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير طبقاً لأحكام المادتين 41 و 42 لحفظ السلم والأمن الدولي او إعادته الى نصابه.
وتنص المادة 41 على انه لمجلس الأمن ان يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلّحة لتنفيذ قراراته، وله ان يطلب من أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ويجوز ان يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً او كليّاً وقطع العلاقات الدبلوماسية.
أما المادة 42 تنص انه اذا رأى مجلس الأمن ان التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض او ثبت انها لم تف به، جاز له ان يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الاعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي او لإعادته الى نصابه. ويجوز ان تتناول هذه الاعمال المظاهرات والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية او البحرية او البرية التابعة لأعضاء الأمم المتحدة.
القيود على العقوبات بمقتضى ميثاق الأمم والقانون الدولي:
عند وضع الحدود القانونية لفرض عقوبات اقتصادية في اوقات النزاع المسلّح، لا بدّ من النظر الى احكام القانون الدولي الإنساني والأحكام غير القابلة للانتقاص في قانون حقوق الإنسان. وعند وضع الحدود القانونية لفرض عقوبات اقتصادية في زمن السلم، لا بدّ من النظر الى قانون حقوق الانسان. واستناداً الى قانون حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني والى الاعتبارات الأولية للإنسان. فإن نظام العقوبات ينبغي ألا ينزل بمستوى معيشة شريحة كبيرة من السكان الى ما دون مستوى الكفاف ولا يجوز للعقوبات ان تحرم الناس من الحقوق الانسانية الأساسية في الحياة والبقاء.
الحق في المساعدة الإنسانية:
يمتلك المدنيين الحق في تلقي المساعدة الإنسانية، وهذا الحق مضمون بأسلوبين وهما الاحكام التي تطلب من الدول السماح بمرور مواد الإغاثة بشروط معينة، والأحكام التي تسمح للوكالات الإنسانية بتقديم المساعدة بشرط موافقة الأطراف. وتختلف الأحكام طبقاً لما اذا كان النزاع المسلح دولياً او غير دولي.
- تطوّر العقوبات:
شهد العالم العقوبات الاقتصادية منذ حقب غابرة. فقد كانت الإمبراطوريات والجيوش تلجأ الى فرض انواع من “الحصار” الاقتصادي على الدول والجهات التي تتوافق معها، او كوسيلة للتمدّد وبسط الهيمنة الخارجية.
وفي العصر الحديث استعمل سلاح العقوبات الاقتصادية في الكثير من الحالات، حيث استعملته عصبة الأمم بحق ايطاليا في العام 1935 بعد غزوها اثيوبيا. وخلال الحقب التالية تدخل مجلس الأمن في العديد من الحالات وأقر عقوبات اقتصادية تفاوتت حدّتها وتأثيراتها وأسبابها وخلفياتها. وخلال العقود الأربعة الاولى بعد قيام الأمم المتحدة لم تصدر قرارات عن مجلس الأمن الدولي بشأن العقوبات الاقتصادية الا في حالتين هما روديسيا (1966) وجنوب افريقيا (1977).
لكن وبعد انتهاء الحرب الباردة لجأ مجلس الأمن بصورة متزايدة الى فرض العقوبات الاقتصادية الجماعية، فقد فرضت عقوبات على العراق ويوغوسلافيا السابقة وعلى هايتي والصومال وليبيا وليبيريا وانغولا ورواندا والسودان، حيث يوفر الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الإطار الذي يجوز فيه لمجلس الامن الإنفاذ في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان وآلية تفعيل قرارات مجلس الأمن. ويوجد عقوبات من قبل دولة او مجموعة دول على دولة اخرى خارج الإطار الأممي.
ج– كيفية فرض العقوبات في مجلس الأمن الدولي:
بإعتباره الجهاز الرئيسي لإدارة الأزمات في الأمم المتحدة يمكن لمجلس الأمن ان يستجيب للتهديدات العالمية بقطع العلاقات الاقتصادية مع الجماعات الحكومية وغير الحكومية، ويجب ان تمرر قرارات العقوبات في المجلس المكون من خمسة عشر عضواً بأغلبية الأصوات شرط عدم استخدلم حق النقض (الفيتو) من أي من الأعضاء الخمس الدائمين وهم الولايات المتحدة والصين وفرنسا وروسيا وبريطانيا.
وأهم انواع العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة (وهي ملزمة لجميع الدول الأعضاء): تجميد الأصول وحظر السفر وحظر توريد الأسلحة. وعادة ما تدار نظم الجزاءات (العقوبات) التابعة للأمم المتحدة من قبل لجنة خاصة وفريق مراقبة، وتساعد المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الانتربول) بعض لجان العقوبات (لجان مهمتها الإشراف على تنفيذ قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالعقوبات) لا سيما اللجان التعلقة بتنظيم القاعدة وحركة طالبان. الا ان الأمم المتحدة ليس لديها وسائل مستقلة للتنفيذ، وتعتمد كثيراً على الدول الأعضاء التي لا يملك الكثير منها سوى موارد محدودة وحافز سياسي ضئيل.
د- العقوبات خارج الأمم المتحدة:
لا تقتصر العقوبات الدولية على مجلس الأمن فقط، فقد تفرضها منظمات دولية (كالاتحاد الأوروبي او جامعة الدول العربية)، كما تفرضها دول على دول اخرى كالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية ضد روسيا في عام 2015، والعقوبات التي فرضتها روسيا على تركيا بعد اسقاطها طائرة السوخوي شمال سورية في العام ذاته. ولا يخفى عنا العقوبات الأميركية على الصين من خلال الإعلان الأميركي عن عقوبات جمركية جديدة على القيمة نفسها من المنتجات الصينية في 18 ايلول 2018 حيث فرضت واشنطن رسوماً جمركية مماثلة على 16 مليار دولار من المنتجات الصينية السمتوردة. كما ان اميركا لا تكل ولا تمل وهي تتهم الصين باتباع ممارسات تجارية غير نزيهة، وهذا بسبب حرب السباق التكنولوجية بينهما. وتم الاستمرار بزيادة حجم العقوبات بفرض رسوم جمركية اضافية على واردات من الصين بقيمة 200 مليار دولار دخلت حيز التنفيذ في 24 ايلول من العام نفسه. وحالياً، وتحت وطأة ازمة الكورونا، كان العمل على فرض عقوبات جديدة بشكل أوسع ضد الصين تحت ذريعة الرئيس الأميركي بأن الصين هي المتسبب بخلق ونشر الفيروس في العالم.
هـ- كيفية ايقاف تفعيل العقوبات الدولية:
هناك عدة طرق لإزالة وحل العقوبات التي تمّ تنفيذها على دولة ما، مع العلم ان إزالة العقوبات تتطلب وقتاً كبيراً وتعاوناً دولياً بشكل مؤثر، وتذكر بعض طرق إزالة العقوبات:
قرار عكسي من مجلس الأمن يلغي العقوبات. كالعقوبات المفروضة على العراق (منذ عام 1990) التي لم تلغ إلا بموجب قرار معاكس صدر في 16 كانون الاول عام 2016.
تطبيق الحدود الزمنية للعقوبات، أي تحديد أجل للعقوبات المفروضة على الدولة المستهدفة. فالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد البلدان كانت تحدد بأجل لمدة عام ومن ثم تجدّد تلقائياً، وبعد عام إما تمدد العقوبات لعام آخر او تخففها او تلغيها. وكمثال على تخفيف العقوبات قرار الاتحاد الأوروبي تخفيف العقوبات عن ايران في أعقاب الاتفاق النووي الإيراني في 1 آب 2015.
العقوبات الاقتصادية وادارة العلاقات الدولية:
النظام الاقتصادي العالمي، كالنظام السياسي العالمي، هو بطبيعته فوضوي، والدليل على ذلك يكمن في العقوبات التي تفرضها الدول الكبرى في مواجهة بعضها البعض، او في مواجهة بعض الدول الاقل اقتداراً، لتحقيق استراتيجياتها الكبرى. وهذه العقوبات، اقل ما يقال فيها انها غير شرعية وغير قانونية وغير انسانية، ضحاياها فقراء. العالم المهمشون القابعون على رصيف الكولونيالية الجديدة حيث المنفعة المالية هي المعيار.
وأحدث مثال حول تأثير العقوبات على النظام العالمي هو لجوء الادارة الاميركية الى فرض عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب تصدّي هذه الاخيرة للتوسّع الاطلسي في اوروبا الشرقية، والتدخّل الاميركي في اوكرانيا وجورجيا. من جهتها، استمرّت القيادة الروسية في مقاومة تلك العقوبات، فوطّدت علاقاتها الاستراتيجية آسويّاً، وخصوصاً مع الصين والهند.
هذا يعني، بشكل او بآخر، ان العقوبات ساهمت في احداث تغييرات في هيكلية النظام العالمي الذي يتجه نحو تعددية قطبية. ويبقى السؤال: الى أي مدى يعد اللجوء الى العقوبات الاقتصادية أمراً مشروعاً في العلاقات الدولية؟ وما الآثار التي قد تترتّب على استخدامها كسلاح في عملية ادارة السياسة الخارجية للدول؟
في مجال مشروعية استخدام العقوبات، هناك ما يثير بعض الجدل او الالتباس. فمن جهة، تنص الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على ضرورة “امتناع الدول الاعضاء في الأمم المتحدة عن التهديد باستعمال القوة في علاقاتها الدولية، او استخدامها ضد سلامة الأراضي او الاستقلال السياسي لأية دولة، او على اي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”.
من جهة اخرى، يرى بعض شارحي ميثاق الأمم المتحدة ان الحظر المقصود في هذه الفقرة يعني القوة العسكرية وحدها دون غيرها من وسائل القوة، الناعمة منها او الخشنة، كالقوة الاقتصادية التي ما تكون احياناً أشد فتكاً وضرراً من القوة العسكرية ذاتها. وفي تقديرنا ان هذا الفهم لا يأخذ بعين الاعتبار نصوص فقرات ومواد اخرى وبروح الميثاق نفسه. ويمكننا تفنيد ذلك على النحو التالي:
- الفقرة الثانية من المادة الاولى من الميثاق تضع “انماء العلاقات الودية بين الشعوب” في مقدمة الاهداف التي تسعى الأمم المتحدة الى تحقيقها.
- ان الافراط في استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية لا يساعد على انماء العلاقات الودية بين الشعوب والأمم.
- 3- إن العقوبات الاقتصادية التي تفرض خارج مجلس الامن (كما ذكرنا سابقاً) تعد غير مشروعة، وتنطوي على انتهاك صارخ للقانون الدولي والشرعية الدولية.
بجانب هذا المنحى القانوني، لا بدّ من دراسة المسألة من منظار سياسي، بحيث ان اللجوء الى سلاح العقوبات الاقتصادية لتحقيق اهداف سياسية سوف يزيد من حالة الفوضى على الساحة الدولية؛ وذلك للأسباب التالية:
- سلاح العقوبات الاقتصادية لا يمكن استخدامه إلا من قبل الدول الاقتصادية الكبرى.
- الدول الضعيفة سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً لا تجروء على استخدام العقوبات كسلاح لتحقيق اهدافها السياسية لأنها سوف تتعرّض بسهولة لردود فعل انتقامية مكلفة من جانب الدول الكبرى.
- ان سلاح العقوبات الاقتصاديّة هو بطبيعته “تمييزي” لإنه ينسف قاعدة “المساواة السيادية” التي هي اساس التعامل في العلاقات بين الدول. ففي معظم الاحيان يستخدم سلاح العقوبات ضد الدول الضعيفة لتكريس تبعيتها للدول الكبرى.
- عندما يستخدم سلاح العقوبات الاقتصادية من جانب الدول الكبرى في صراعها على قيادة العالم، فهذا ما يثير حالة الفوضى في كافة جوانب العلاقات الدولية: الأمر الذي ينعكس سلباً وبالمباشر على الدول الضعيفة. ومن المؤسف القول ان الدول الكبرى المعنية اولاً في تعزيز الأمن والسلم الدوليين تلجأ الى استعمال السلاح (روسيا في حرب اوكرانيا) او العقوبات الاقتصادية الاميركية ضد موسكو، تمّا خارج نطاق الامم المتحدة.
- اذا كانت روسيا قادرة على تجاوز الآثار السلبية لهذه العقوبات، خصوصاً على المدى القصير والمتوسط، فإن دول العالم الفقيرة سوف تدفع الثمن بسبب عجزها المادي عن تأمين المواد الأولية (النفط، الغاز، القمح، الاسمدة) التي ارتفعت اسعارها بشكل هائل. ولقد أشار الأمين العام للأمم المتحدة الى ان هناك 326 مليون نسمة لا يستطيعون تأمين وجبة غذاء واحدة في اليوم.
لا يعلم احد متى سوف تصمت المدافع في اوكرانيا، ولكن يومها سوف نكون امام عالم مختلف سياسياً واقتصاديّاً وعسكريّاً، ولسوف تبقى الفوضى هي السمة الغالبة على طبيعة هذا النظام الجديد. في حينها على الدول الكبرى العمل على تنظيم علاقاتها على قواعد جديدة تأخذ بعين الاعتبار حق الشعوب في تقرير مصيرها. بتعبير آخر، على عواصم القرار العمل على ما يلي:
- اعادة التفكير في تفسير “حظر استخدام او التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدولية”.
- ان يتوافقوا على انسب الوسائل لتطبيق الحظر دون التسبب في مجاعة الشعوب.
- 3- العمل على اعادة الاعتبار لمجلس الأمن كجهة وحيدة لها الحق في مراقبة استخدام القوة في العلاقات الدولية. ولكن، كيف نعيد لمجلس الأمن دوره في حفظ الأمن والسلم الدوليين من دون موافقة الدول الخمس الكبرى؟ وهناك من اقترح، مثلاً، العمل على الحد من استخدام حق النقض (Veto) الذي اتاح للأقطاب الرئيسيين تعطيل القرارات الدولية. ولقد أشار الى ذلك الامين العام السابق للأمم المتحدة، الدكتور بطرس غالي، بقوله ان “حق النقض لم يعد منسجماً مع فكرة ديمقراطية العلاقات الدولية”. ولكن ليس باليد حيلة طالما ان تعديل هيكلية مجلس الامن عبر انضمام كل من المانيا واليابان والهند يحتاج الى تعديل الميثاق، وهذا ما يتطلّب موافقة الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية حالياً، وموافقة ثلثي اعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة على التعديل، وهذه تمثل بدورها صعوبة اضافية.
وبناء على ما تقدّم، فإن العجز عن دمقرطة مجلس الامن يعني ان المستقبل هو مستقبل نظام عالمي متعدد القطبية وأكثر فوضوية. وهذا ما دفع بكل من ايران والهند والسعودية وباكستان الى اعادة صياغة موقعها في النظامين الاقتصادي والسياسي العالمي، وذلك من خلال تعزيز علاقاتهم مع كل من روسيا والصين.
خاتمة:
العقوبات بحقيقتها شكل من أشكال الارهاب الاقتصادي ومحاولة من محاولات العزل السياسي والاقتصادي وهي أحادية قسرية لاشرعية ولا قانونية لأنها تعارض ميثاق الأمم المتحدة (البند السابع المادة 39 والمادة 41).
الغرب يريد للمنطقة العربية الغنية بالنفط والثروات الطبيعية ان تبقى سوقاً استهلاكياً كبيراً للمنتجات الغربية، وان يستبد كيان الاحتلال الاسرائيلي المنطقة، ومن هنا المطلوب غربيّاً استمرار الحرب في سورية والحصار الاقتصادي عليها، ومنع الدول التي ترغب في اعادة الاعمار من ذلك، واستمرار وجود القوات الاميركية في الجزيرة السورية، ودعم ميليشيا قسد ودعم الكيان الصهيوني.
أكّد سفير سورية لدى الأمم المتحدة الدكتور بشار الجعفري بأن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية تجاهل في 64 تقرير مئات الاحاطات من الاجراءات القسرية التي تؤثر على حياة السوريين. فلا يهمهم الشعب السوري وما يعانيه إنما تنفيذ مصالحهم ورغباتهم في سورية متذرعين بحماية الشعب السوري الذي هو المتضرر الأكبر من عقوباتهم وحصارهم.
وأعتبرت الأمم التحدة هذه التدابير الاقتصادية الأحادية بوصفها وسيلة للقسر السياسي والاقتصادي ضد البلدان النامية والتي تستخدمها الدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن كوسيلة سياسية، خرقاً سافراً لمبادىء القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. جاء ذلك في قرار للجمعية العمومية (رقم 68/200 بتاريخ 20 كانون الثاني 2013)، وقد صوتت الولايات المتحدة و”اسرائيل” وحدهما ضده، في حين امتنعت معظم الدول الأوروبية عن التصويت.
إن العقوبات والحصار الاقتصادي المفروضين على الشعب السوري اجراءات أحادية من طرف واحد وليست مقررة من قبل مجلس الامن والأمم المتحدة؛ أي انهما مخالفان للشرعية الدولية والمواثيق الأممية الموقع عليها والمعترف بها دولياً، اي مفروضة من قبل دول او مجموعة من دول دون اطار أممي.
ويبقى السؤال حول كيفية الخروج من شرنقة العقوبات والصمود، وبالتالي، المواجهة. إن مكانة سورية والفرص الكامنة والكبيرة ستكون محفزاً لإنشاء شراكة استراتيجية مع الدول الصديقة (الصين، وروسيا)، بحيث يتم العمل على استقطاب المشاريع الاستثمارية ذات التنمية المستدامة واعداد الارضية اللازمة لتسهيل دخول رأس المال الاجنبي من خلال بناء شراكات تجارية. وتعدّ الدول الصديقة من أهم المشاركين للإستثمار في سورية، حيث تتناسب متطلبات مهمة إعمار سورية مع قدرات هذه الدول وخبرتها في هذا المجال.
أما المدخل الأسرع كي تتجاوز سورية محنتها هو بعودتها الى الحضن العربي. وفي هذا الاطار فإننا نثمّن الدور الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في تخفيف حدّة التوتر في كل من لبنان وسورية والعراق، وايضاً في انهاء الحرب في اليمن. ان البيت العربي هو المكان الأرحب الذي من خلاله وحده تتمكّن الدول العربية من تحقيق استقرارها وتجاوز محنتها وانهاء حروبها وحل ازماتها.
وهذا يعني:
- إقامة منظومة امنية عربية. اما الهدف الاساسي من اقامة هذه المنظومة فهو تأمين امن الوطن العربي وتأمين امن اقطاره من داخل النظام العربي بدلاً من استيراد بعض الاقطار العربية لأمنها من الخارج لقاء تكلفة اقتصادية وسياسية باهظة.
- انشاء سوق عربية مشتركة تستند على المصالح الاقتصادية.
- إيلاء دور اكثر تحديداً وفعالية لمجلس محافظي البنوك المركزية في تنسيق السياسات النقدية والتعاون النقدي والمصرفي.
- العمل على تحقيق تنمية عربية نشطة وعادلة وتتميّز بدرجة عالية من الاستقلالية، وتهدف الى رفع مستوى غالبية الناس.
ختاماً، إنه لمن الغرابة ان يظل التفكك لا التكامل هو السمة الغالبة على الاقتصاد العربي، في منطقة تمتلك كل مقومات التكامل.
عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية البروفسور كميل حبيب