مخول قاصوف فاتح عهد العصيان

كبيرٌ ظلمت الحياة والتّحوّلات إبداعه، مع أّنه استحقّ العرفان والتّكريم؛ لم يكن فناناً عاديّاً أو عابراً، نهل الموسيقى الغربيّة، وأتقنها، ثمّ شرّقها، جاعلاً منها أنموذجاً فريداً مدرحيّاً، لا يغرق في المادّيّة الغربيّة، ولا في الرّوحانيّة الشّرقيّة؛ كما أنّه أنموذج جديد لإنسانٍ جديد، يرفض قيود التّقليد السّائدة في الفنّ وفي النّظرة إليه وإلى الوجود.

كبيرٌ لم نعرفه بحقّ، لكنّه جدير بالمعرفة، لكونه حمل في رؤيته الهمّ القوميّ الاجتماعيّ بكلّ كيانه، فعمل على نشر مفهومه الرّياديّ إلى الإبداع من خلال موقعه الحزبيّ الذي شغله مرحلةً غير قصيرة، لكن تحت اسمه الحركيّ “سهيل جرّاح”، إيماناً منه بأنّ نهضتنا تتّخذ قيمتها من فعلها في الثّقافة أوّلاً، كما فعلت دوماً.

إنّه المبدع النّهضويّ مخّول قاصوف الذي يعرّفنا به قلم نصري الصّايغ –مع حفظ الألقاب- حينما نقرأ: “طالباً كانَ في كليةِ الطبِّ في الجامعةِ اليسوعية، عندما أعلنَ «العصيانَ» الفنيَّ والسياسي. خلعَ الموسيقى من طوباويَّتِها وأعطاها جسداً آخرَ جديداً، بنصٍّ شعريٍّ ملتزم، وتغيبُ عنه المباشَرةُ والخطابيةُ، ويميدُ معنًى وثورةً وغضباً. قيلَ عنهُ في صحافةِ ذلك الزمنِ، إنهُ وضَعَ المدماكَ الأوّلَ للأغنيةِ السياسيةِ الوطنية. وهي في العمقِ، لم تكنْ كذلكَ إلا من جهةِ التصنيفِ، فيما هي في الأساسِ، تنخرطُ في حملةِ عصيانٍ كاملٍ، على اللحنِ السائدِ والكلمةِ السائدةِ والجمهورِ السائد.”

عازفُ الغيتارِ والملحّنُ والشّاعرُ الرؤيويُّ، عَشِقَ الموسيقى فأبدعَ فيها، وتمرّدَ فيها. أطلقَ الأغنيةَ السّياسيّةَ النّقديّةَ مع رائعتِهِ “في خيامِنا أطفال” وبعدها توالَت سُبْحَتُهُ في مجموعات (انتو كلّ الحكاية) و(بواب الفرح) و(مثقّفون نون)، ومن ثمّ توالت سُبْحَةُ غيرِهِ منَ الأعمالِ الغنائيّةِ التي عُرِفَتْ بالملتزمةِ، ونُعَرِّفُها بالنَّهْضَوِيَّةِ المتمرِّدَة. فكان بحقٍّ فاتح عهد العصيان في الفنّ والرّؤية.

إلى جانب ذلك، وضعَ مجموعتينِ شِعريّتَينِ حداثيّتَين هما: (حروفٌ على ورقِ النورس) و(مغارةُ الحلُم)، أبرزَ فيهما رؤيتَهُ الرّياديّةَ المنبثقةَ من واقعِ الأزماتِ التي يعيشُها مجتمعُه، والتي سَعَتْ إلى أنْ تكونَ منارةً للأمّةِ وأبنائِها.

قدّم فنّاً مدرحيّاً متكاملاً لا تنفصل فيه الكلمة عن النّغمة، فكان شعره ولحنه بنيةً واحداً أو كياناً واحداً؛ غيرَ أنَّهُ معَ ذلكَ غنّى لغيره من كبارِ الشعراءِ المعاصرينَ في بلادِنا ككمال خير بك وطلال حيدر..

لذلك كان يجدر بمجتمعنا إعادةِ الاعتبارِ لريادتِه في المجالِ الفنّي، وتقدير أعماله، وهو المبدعُ الذي رسمَ خطّاً فنّياً جديداً، غريباً، ومتميّزاً، والذي يتجاهل الإعلام اسمه، وتجهله الأجيالُ الصّاعدةُ. صاحبِ هذه المسيرةِ الغنيّةِ والرياديّةِ يستحقّ الإضاءة على قيمتِهِ وموقعِهِ وقامتِهِ؛ وذلك انطلاقاً من اقتدائِنا بقولِ سعاده: “الموسيقى والغناءُ من العواملِ الكبيرةِ في تطوّرِ الأممِ الاجتماعيّةِ والرّوحيّةِ”. فأمثالُ الرّاحلِ مخّول قاصوف همْ مَن يمثّلونَ الوجهَ المشرقَ من هذه الأمّةِ، وهم العلامةُ الدّالّةُ على ما في مجتمعِنا من مناراتٍ للتّطوّرِ والتّقدّمِ.

مخّول قاصوف، أيّها الكبير الذي أعدّ فخراً وحملاً عظيماً أن أتولّى الموقع نفسه الذي شغلته وبرعتَ فيه، إليك أقول:

لقد حقّقتَ بالفعل ما غنّيتَه من كلمات كمال خير بك: “ضليت من الشعرا وضلّيت من الكبار”.

د. لؤي زيتوني
وكيل عميد الثقافة والفنون الجميلة

One thought on “مخول قاصوف فاتح عهد العصيان

Comments are closed.