قمة المنتصر

لم يكن الرئيس بشار الأسد نجم القمة العربية وحسب، بل نبضها القومي الوهّاج الذي خبا مع غياب سوريا عن القمم المماثلة وشغور مقعدها ما أفضى الى تعميم الفراغ في أروقة الجامعة والخواء في قراراتها.
إنّ حضور الرئيس الأسد المنتصر على الإرهاب بين الأشقاء العرب بعد عقد ونيف من حرب تدميريّة في صلب أهدافها المضمرة تغيير سوريا دورًا وموقعًا وهويةً، مع ما حملته تلك الحرب من دماء ودموع وتضحيات للجيش العربي السوري والشعب السوري المتمسك بالدولة الوطنية السورية، هذا الحضور الفذ كرّس الحقائق التاريخية الثابتة على أنّ سوريا التي كانت وستبقى أصل نقطة البيكار في المنطقة تعي تمامًا أنّها جزء من الأمّة أعطاه الرئيس بشار الأسد وقبله الرئيس حافظ الأسد الموقع الصحيح والدور الصحيح، وأنّ هذا القطر الصامد تشكًل تضحياته فعلًا قوميًا بكل أبعاده ومضامينه وانتصار سوريا ليس انتصارًا لذاتها فقط إنّما لأمّتها أيضًا.
وعليه، انطلاقًا من وعي قومي قائم على التبصّر والتفكّر، حدّد الرئيس بشار الأسد في كلمته التاريخيّة قوى الهيمنة الطامعة بمنطقتنا العربية لبناء مشروعها الذي يتناقض في جوهره وظاهره تناقضًا كليًا مع مشروعنا القومي ووجودنا الثقافي والحضاري، وسمى الرئيس الأسد المخاطر بمسمياتها وعناوينها عندما قال:
“العناوين كثيرة لا تكفيها قمم. (لا تبدأ عند جرائم الكيان الصهيوني المنبوذ عربيًا بحق الشعب الفلسطيني المقاوم ولا تنتهي عند خطر الفكر العثماني التوسعي المطعم بنكهة إخوانية)”.
لقد أعاد الرئيس بشار الأسد تصحيح البوصلة ورسم المسارات التي يجب أن تحكم علاقات العرب بمحيطهم، وأسقط من يد الصهاينة والغرب الجماعي خطط إضعاف العرب وتفريق صفوفهم وخلق أعداء وهميين لحرف الأبصار والبصائر عن العدو الحقيقي للعرب المتجسد في الشمال بالعثملي وفي الجنوب بالصهيوني المتربص شرًا بأرضنا ومقدساتنا وثرواتنا. وبناء عليه قدّم الرئيس الأسد الصيغة الملائمة وفي صلبها البعد القومي الجامع ومنطلق النقاش العملي لدرء مخاطر التقسيم والإضعاف والقهر عن الأقطار العربية والاتجاه فعلًا لا قولًا من أجل وحدة فعلهم وتضامنهم وتشاركهم لحماية وجودهم من المشاريع والمخططات التي تهدف الى استتباعهم والهيمنة عليهم وسحق وحدتهم القومية، وبالتوازي كان تأكيد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على أنّ فلسطين قضية العرب المركزية محفزًا لإعادة نسج شبكة علاقات عربية بشكل يحول دون نفاذ أي عدو عبر خيوطها، وجاء توكيد حق لبنان بالمقاومة لتحرير ما تبقى من أرضه المحتلة في شبعا وتلال كفرشوبا ليشكل انتصارًا لمشروع المقاومة كسبيل أوحد في تحرير الأرض، وهذا البند بذاته قلادة القمة الذهبية، وإقرار عربي بأنّ حزب الله حركة مقاومة أسقطت كل التوصيفات الأخرى التي تقاطعت مع أجندات خارجية للنيل من هيبة ووقار هذه المقاومة الشريفة المظفرة وصفعة لأميركا والغرب الجماعي لم تكن بالحسبان.
لذا آن الأوان، وبعد سلسلة التفاهمات وطي صفحة الماضي، لمؤازرة سوريا في جهدها الوحدوي في مجال تعزيز المؤسسات العربية المشتركة وتفعيل دورها في مجال التعاون الاقتصادي الثنائي والجماعي في مجال تكثيف اللقاءات والاتصالات، واستخدام صيغها المعاصرة من تشاور الى تنسيق الى تعاون الى عمل عربي متكامل وهذا ما لحظته كلمة الرئيس الأسد الذي يُقرأ بين سطور كلمته قناعاته القومية من أنّ ثبات العرب على حقوقهم وتضامنهم فيما بينهم والتمسك بهذه الحقوق وتعزيز وحدة موقفهم وفعلهم من العوامل الأساسية لاستعادة الحقوق المغتصبة.
على الصعيد اللبناني صدمة وحال من الهذيان عاشها ويعيشها فريق من اللبنانيين أصابه الذهول والدهشة والضياع حيال التحولات الهائلة في الإقليم، ورسملة وبناء المواقف لمعظم هذه القوى على عزل سوريا للاستقواء بالخارج المناهض لها عربيًا وتوظيف ذلك في الداخل اللبناني، فكيف الحال بعدما أزيلت تلك العوامل من خلال التشبيك والتمفصل بين القوى العربية الرئيسية وزوال الجفاء والعداوة ما يؤسس بلا أدنى شك الى إعادة الرونق للرؤيا القومية بعدما تهاوى وتداعى مشروع الفتنة المذهبية وتآكل دور المنتفعين وتبعثرت نظرية الابراهيمية .
أمّا في الشأن الرئاسي اللبناني، فإنّ تفاهمًا مبدئيًا بين المملكة العربية السعودية وسوريا أنضجته زيارات مسؤولين أمنيين سوريين الى الرياض في سياق حلحة العقد العربية وإيجاد المعالجات الملائمة لملفات تتقاطع سوريًا وسعوديًا ومنها لبنان بالدرجة الأولى، حيث سيشهد قادم الايام حماوة إزاء الملف الرئاسي والشروع في ورشة انتظام المؤسسات الدستورية اللبنانية على أن يكون الخامس عشر من حزيران المقبل موعدًا حاسمًا ونهائيًا في هذا الشأن. والموقفان السعودي والسوري منسجمان من خلال س-س مُطوَّرة عن سابقتها تبلورت ملامحها حسب ما ذكرت جهة سياسية رفيعة مؤكدة أنّ الاستحقاق سينجز، وما لجم الدولار عند سقف محدد سوى مؤشر إيجابي سيليه خطوات ملازمة، وحضور سوريا القمة العربية دفع الكثيرين للبحث عن آلية نزول عن الشجرة لملاقاة المتغيرات وقراءة التحولات وتبديل المواقف الحادة وفك الاستعصاءات وفتح الثغر في الحائط المسدود بمواقف مرنة، وخلاف ذلك يعني نسيان لبنان وتأخر الحل فيه وتركه لقدره في جوف الارتطام الكبير وحرمانه المساعدات العربية وفرصة ولوج برنامج إعادة إعمار سوريا القادم سريعًا .

الباحث في الشؤون السياسية مفيد سرحال