أغلق «بوّاب الفرح» باب القصيدة. ترك الألحان وحيدة. حمل رومانسيته وهدوءه ورحل. هجر ثورته وصخبه واحتجاجه ومضى.
رائد الأغنية الوطنية والقومية الملتزمة الدكتور مخول قاصوف غادر آلامه، ترجّل عن صهوة أوجاعه، وهو الذي وزع الفرح موسيقى وشعراً وغناء.
حياة الاكتفاء والرفاهة التي عاشها صبياً وشاباً لم تبعده عن آلام الناس. تحسّس والده ميوله الموسيقية فأهداه غيتاراً وهو في الثانية عشرة من عمره. وفي عام 1963 شارك في تأسيس فرقة موسيقية غربيّة، لكن نسيمات صنوبرات الخنشارة حملت له على أجنحتها حب الوطن والقضية، تنسّم الفكر النهضوي القادم من عرزال باعث النهضة أنطون سعاده في ضهور الشوير، تشرّب مبادئ الحزب ليرتاح من عبء «النكسة» العربية التي حملت إلى جيله اليأس والفجيعة، فالتزم في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي.
توزع نشاطه بين الاهتمامات الحزبية والثقافية والفنية والطبية، فكان وكيلاً لعميد الثقافة والفنون الجميلة في الحزب، كما ساهم في تأسيس مستوصف رأس بيروت التابع لعمدة العمل والشؤون الاجتماعية، واتخذ لنفسه اسماً حركياً هو سهيل جراح. وبين مداواة الجراح ومواساة الآلام كان مخول مثالاً يُحتذى في الصبر والتحمّل والتحدي والمواجهة. وحث كلّ من حوله على التمرّس بالثقافة والفن، من خلال نشاطه الدؤوب في الندوة الثقافية، وفي الحملات الطبيّة الميدانيّة.
هو الرائد في المواجهة، كيف لا وهو الذي تلقى علومه الطبية في الجامعة اليسوعية، لكنّ الوعي الفكري النهضوي جعله يسبح عكس التيار اليميني الذي كان سائداً في أوساط الجامعة اليسوعية في ستينات القرن الماضي، فكتب ولحّن عام 1969 نشيده الجميل الذي لطالما صدحت به حناجر أشبالنا وزهراتنا في المخيمات الحزبية:
في خيامنا أطفال في خيامنا أحرار، امتصوا الموت شربوه بالموت نحيي الانتصار
جراحنا تهتف للنضال لتروي الأرض والأزهار، إنّ الحقد قتلناه لنحيي الحب يا ثـوار
حبنا جرح دائم يهوى النطق والإنشاد، دماؤنا ليست لنا، زوابع عنف وعناد
الشمس ونيرانها شلّعت بركانها، أنشدت لهيبها إلى الثورة يا أبطال
إن فجرتم التراب وأنزلتم العقاب، وهشمتــم وجوهنـا فنحن الموت لا نهــاب.
عام 1971 أسمع النشيد للمغنية اليسارية الفرنسية كاترين سوفاج أثناء زيارتها للجامعة اليسوعية.
وفي نهاية أحد الأعوام الدراسية في تلك الجامعة وافقت الإدارة على تقديمه حفلة خاصة على مسرحها، فعزف وأنشد «جنوبيون» و»عيوننا فيها حِمام» المهداة إلى أطفال فلسطين في أرجاء اليسوعية، كما قدم معزوفات وأغاني وطنية جعلت صحافة مطلع السبعينات تتناول هذا «الحدث الغريب والأول من نوعه في لبنان»، كما صنفه وكتب عنه الصحافي سمير نصري في جريدة «النهار».
هو الفنان المتعهّد خوف الناس يبدّده عازفاً على غيتاره، منشداً بصوته المنتشر نوراً فوق سنوات مظلمة وقرى وبلدات عانت من الموت والرعب والدمار على يد العدو الصهيوني، فتأبّط ابن النهضة القومية الاجتماعية آلته الموسيقية، وراح يتنقل بين القرى الجنوبية، عرفته ساحات الخيام وكفركِلا والمجيدية، كما عشق صوته أطفال بيوت صفائح التنك في المخيمات الفلسطينية:
ازرعوا أيديكم في الريح، واتركوها تستريح…
وافتحوا القلوب الكبيرة، خبروا حكاية صغيرة…
عن أطفال، عن ألعاب، عن جراح دفينة…
لم تشغله اهتماماته الفنية والعلمية والنهضوية عن متابعة الشأن العام، فانخرط في صفوف المواكبين للقضايا المطلبية، ورفع راية المقاومة عالياً نصرة لفلسطين ولأهلنا المُعانين في الجنوب اللبناني، كما شهدت الجامعة اللبنانية حضوره المتميّز عازفاً ومغنياً الثورة وفلسطين والوطن والعشق.
مخول قاصوف كان كوكباً في سماء لبنان خلال سنوات الحرب الأهلية، يعرف الجميع، ويحبّه الجميع، نجم السهرات الثورية والجلسات الفكرية والثقافية وحتى الفكاهية، في أيام عزّ ـ رغم الحرب ـ سهرات كانت تجمعه مع وجوه جميلة لن تغادرنا حتى لو ارتحلت أمثال كمال خيربيك وبشير عبيد.
ساحة ساقية الجنزير التي احتضنت عيادته، في ذلك الزمن الجميل، احتضنت آلامه على فراق الأحبة، واليوم نودّعه ببعض كلمات حب ووفاء، ولكن «كلو حكي»
بعدو الوجع بعيونا سهرانْ
بِبلاد كامِشْ لوعتا دمعْ الحَجرْ
و الحِزنْ خَبَّا بضيعتو ضوّ القمر
بعدو الوجعْ سهرانْ
حِبِرْ ووَرَقْ و قلام مكسوره
وشنطِةْ حِلِم ضَاعِتْ ع مهلا عالرصيفْ
كِلّو حكي.
وبالرغم من ذلك لن ينكسر قلمك، ولن تغادرنا إبداعاتك، بل ستبقى ذخيرة عشق للأجيال القادمة.
بقلم : زهرة حمود