الثقافة الأولية والثقافة العمرانية

الثقافة الأولية والثقافة العمرانية

    الثقافة الأولية ترتكز على إقامة النسل والسعي وراء الرزق، فينتج عنهما نظام اجتماعي بدائي محدود، بينما الثقافة العمرانية ترتكز على التنظيم الاقتصادي الاجتماعي، إضافة إلى إقامة النسل والسعي وراء الرزق، وبالتالي ينتج عنها حياة عقلية تعتمد المنطق والأخلاق وسلامة الذوق، فيعطي المجتمع المتمدن قيمته ومزاياه والمدنية الحديثة أبرز صفاتها وأثمن كنوزها.

    الزراعة عدة أنواع، والثقافة العمرانية التي تأسست عليها هي عدة مراتب، المرتبة الأولى هي زراعة المعزق، وتعتمد على قلب سطح الأرض بالمعزق، وانتاجها الزراعي محدود جداً، وفي أحسن حالاتها لا يمكن التعويل عليها بعمران وكثافة سكان مدنية، وقد تحصل بعض الأحيان كثافة سكانية، ولكنها تكون متقطعةً متفرقةً، لها مراكز تفصل بينها قطع واسعة من الأرض المقفرة، والمرتبة الثانية هي زراعة المحراث، وهاتان الزراعتان إفراديتان وعائليتان تهدفان إلى كفاية الفرد أو العائلة، وتستدعيان الاهتمام الدائم من الفرد أو العائلة، والمرتبة الثالثة هي زراعة البستان، وثقافة الإنتاج التجاري أي زراعة المحاصيل وإنشاء الصناعات وإعداد الحاجيات والكماليات.

    ومرت المرتبة الثانية في سورية، بعدة أطوار لتنتقل إلى المرتبة الثالثة، بداية الحراثة بالحرق، وتهدف إلى إنقاذ التربة من الحرجات الكبرى، ويُستعمل فيها رماد الأشجار المحروقة أو سماد الأبقار التي ترعى في المكان، والطور الثاني هو نظام الحقل الذي يقسم الأرض الصالحة للزراعة إلى ثلاثة حقول، الحقل الأول يبقى بوراً، ويزرع الثاني حبوباً صيفية، ويزرع الثالث حبوباً شتويّةً، والطور الثالث هو زراعة المرج، وتختلف إلى الأرض بضع سنوات من العشب وبضع سنوات من زراعة الحب، وتشتمل على أرقى أنواع الزراعة والعناية بالتربة، وتستطيع هذه الزراعة أن تلبي حاجات مجتمع كثيف السكان، والطور الرابع هو زراعة الدورة التامة، ويُصنّف فيها النبات إلى نوعين، الأول النبات الذي يزيد في ثروة التربة وقوتها، والثاني هو النبات الذي يفقرها ويستنفد قوتها، وتتوالى زراعة هذين النوعين في دورة تامة على الأرض، وتتطلب العناية بها زيادة في العمل والرأسمال والتحسين الزراعي للأرض.

    وبالتدقيق نجد أن زراعة المعزق هي ابتدائية جداً في العمران، ولا تدخل في نطاق الثقافة العمرانية، بل هي طور تمهيدي لها، ويدخل أهلها في المجتمع البدوي، ويمارسون الصيد أو الرعي، والسبب في بقاء هذه المرتبة خارج نطاق العمران هي الفرق الكبير بين نسبة العمل ومقدار الحاصل الغذائي، فالاقتصاد لا يعني سوى سد الحاجة بأقل مجهود وأسرع وأكبر نتيجة ممكنين، وهذا النوع من الزراعة لا يوفر مجهوداً يُذكر، فحاصله قليل وأهله مضطرون إلى الاهتمام دائماً بالضروري من أسباب العيش، بينما نرى أن للعقل منفذاً إلى الحياة الفكرية والعلمية في زراعة المحراث، ورغم أن نطاقها فردي أو عائلي، لكنها تعلو كثيراً عن زراعة المعزق، من حيث أنها أفضل لناحية الخزن، والخزن والهري فارق أساسي للزراعة بمعناها العمراني عن الزراعة الأولية، وتُساهم هذه الزراعة في سد الحاجة إلى درجة غنية بالغذاء والحاجيات البيتية، وتستدر خيرات الأرض إلى آخر مواردها، وتعتمد التسميد والري اللذان يجعلان الأرض خصبةً، ولكنها تحتاج جهد كل العائلة، فهي زراعة بيتية.

    إن زراعة المحراث وزراعة البستان حررتا العقل إلى درجة كبيرة، وأوجبتا ارتقاءً في توزيع العمل، ولكنهما لم يفسحا للعقل وللتنظيم العملي كل المجال الذي يسمح لهما بالتّقدم.

    إن ثقافة الإنتاج التجاري، وهي ثقافة قائمة على زراعة المحاصيل الكبيرة وإنشاء الصناعات الكبرى، وهذه هي مرتبة التمدن الحديث الّتي أخرجتها من المرتبة الثانية، التي حولت عملية المبادلة الأولية، إلى تجارة عالمية، وأكسبت الحاجة إلى الآلة المحققة الأغراض معنى اقتصادياً عالياً، ترقّت الزراعة كثيراً في هذه المرتبة، فازدادت العناية بالأسمدة حتى انتهت إلى الأسمدة الكيماوية، وامتد الرأسمال وحب التجارة والكسب إلى أراض جديدة، لاستخراج المحاصيل والمواد الأولية، وكان من وراء اتساع نطاق هذه الزراعة وتحسينها أنّ حاصلها أصبح كبيراً لدرجة أنه جعل قسماً كبيراً من أهل هذه الثقافة محرراً من الحاجة إلى الزرع، وأصبح في إمكانه الاهتمام بالشّؤون الثقافية الأخرى، فنشأ عن ذلك التخصص الراقي الذي هو أبرز ميزة في حياة المجتمع المتمدن الاجتماعية وأرقى مرتبة في مراتب الاقتصاد الاجتماعي وأفعل أسلوب للحصول على أكبر نتيجة من مبدأ التعاون.