الصين تنجح في إعادة جسر العلاقة بين ايران والسعودية 

الصين تنجح في إعادة جسر العلاقة بين ايران والسعودية 

بعد ثماني سنوات من التوتر وقطع العلاقات بين السعودية وايران بسبب اقتحام الإيرانيين سفارة المملكة في طهران عام 2016 احتجاجًا على إعدام رجل الدين السعودي الشيعي البارز نمر النمر، نجحت الصين في إعادة جسر العلاقة بين البلدين وإبرام توقيع اتفاقية استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما في بكين، حيث صدر بيان ثلاثي وقعه أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، ومستشار الأمن الوطني السعودي الوزير مساعد بن محمد العيبان، وعضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي ورئيس اللجنة المركزية للخارجية الصينية وانغ يي، اتفقت بموجبه الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية على استئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارات والقنصليات في غضون شهريْن مقبليْن، وسيجتمع وزيرا خارجية البلدين لتنفيذ هذا القرار واتخاذ الترتيبات اللازمة لتبادل السفراء.

شكلت هذه الاتفاقية مثالًا نادرًا للوساطة الصينية الناجحة في استراتيجيتها الجديدة لتطويق الأزمات الدولية وحل نزاعات الشرق الأوسط، وهدية محتملة لبكين من قبل أهم دولتين فاعلتين في الشرق الأوسط وشريكين استراتيجيين للصين في مشروعها القاري طريق الحرير والحزام الاقتصادي .

ما هي الأسباب التي دفعت الصين لتغيير استراتيجيتها من الاعتكاف عن التدخل في النزاعات بين الدول وحصر علاقاتها بالشق التنموي الاقتصادي، الى الانخراط في استراتيجية تطويق الأزمات الدولية؟وماذا يمثل الشرق الأوسط بالنسبة لها لاقتحامها حل النزاعات شبه المستعصية فيه؟

وما هي الأسباب التي دفعت ايران والسعودية الى الانخراط الان في التفاوض لانجاز هذا الاتفاق الذي يعتبر الأهم منذ عقود؟ ولماذا خصصت هاتان الدولتان الصين لتكون راعية هذا الاتفاق؟

لما كان الموقع الجيوسياسي لهلالنا الخصيب والشرق الأوسط يعتبر الأهم في العالم لأنه بوابة آسيا على المتوسط ونقطة تلاقيها مع قارتي اوروبا وافريقيا، وعقدة طرق لخطوط التجارة العالمية، والممر الأقصر لخطوط الطاقة بين منطقة وسط اسيا ومنطقة الخليج العربي كأكبر مصدر للطاقة في العالم، والاتحاد الأوروبي كثاني أكبر سوق استهلاكي لها. وبعد إطلاق الرئيس الصيني شي جي بينغ مشروعه طريق الحرير والحزام الاقتصادي، الذي يعتبر أكبر مشروع تنموي اقتصادي وخطوط تجارة عالمية في التاريخ يربط الصين، التي باتت مصنع العالم، بالأسواق التجارية العالمية، وبعد شمول الشرق الأوسط باستراتيجية الحزام والطرق كبوابة له على المتوسط وباقي العالم، وكأهم مصدر للطاقة للصين، وبعد إنجاز الصين اتفاقيات استثمارية مع كل من ايران بقيمة 400 مليار دولار، ومع العراق بقيمة 500 مليار دولار، ومع السعودية ودول الخليج بقيمة تتجاور 300 مليار دولار، وتقديمها مشاريع لسوريا ولبنان بعشرات المليارات.

ولما كانت هذه المشاريع قد تعرقلت بسبب النزاعات والحروب التي أطلقتها امريكا واسرائيل عبر ما سمي بالربيع العربي وإذكاء الصراعات المذهبية في المنطقة تحت عنوان التصدي للهلال الشيعي المزعوم، لتفتيت المنطقة الى دول إثنية عرقية بغية قيام الشرق الاوسط الجديد الذي يخدم دولة الكيان الغاصب ويؤخر إنجاز وصول طريق الحرير الى الساحل السوري.

وبعد اشتعال الحرب الكونية في اوكرانيا بين روسيا الاتحادية من جهة والغرب الانجلوساكسوني من جهة اخرى، والتي بات واضحًا ان اميركا ماضية في تأجيجها لقناعتها، التي اثبت فشهلها، باستنزاف روسيا بغية اسقاطها وتفتيتها والسطو على مواردها كمقدمة لمعركتها الأساسية مع الصين.

ولما كانت أميركا قد حددت أولوية استراتيجيتها التصدي للصعود الاقتصادي الصيني المزاحم لها على عرش الكون، وفتحت المعركة معها حول الرقائق الالكترونية، التي تعتبر بترول القرن الجديد، في تايوان بتشجيعها استقلالها عن الصين متجاهلة اعترافها بالصين الواحدة. وبدأت بتشكيل الأحلاف لها في محيط بحر الصين ومحيط الباسيفيك، حيث أقامت حلف اوكوس وحلف الكواد، وأثارت النزاع الياباني الصيني على جزر سينكاكو، وحركت غواصاتها النووية الى بحر الصين لاحتوائها. 

ولما كانت الصين قد تيقنت أنّ الصدام مع أميركا بات شبه حتمي، واستكملت بنيتها العسكرية خاصة قوتها البحرية وصواريخها وطائراتها فرط الصوتية بالتنسيق مع روسيا، والتي باتت اميركا متخلفة عنهما بخمس سنوات، وبعد ان حدد الكتاب الأبيض الصيني مهمة الجيش الشعبي الصيني حماية استثمارت الصين ومصالحها في البحار العالمية وفى دول العالم، وبعد التأكد من ضعف الاقتصاد الاميركي بعد جائحة كورونا والتضخم والبطالة وتراجع النمو فيها والذي انعكس على قوة اميركا ودورها العالمي، طورت الصين استراتيجيتها الخارجية باتجاه الانخراط في استراتيجية تطويق الأزمات الدولية والتصدي لحلها، خاصة في المناطق التي تعتبر مهمة جدًا في استراتيجية الصين، فقدمت منذ أسابيع مبادرة لحل الحرب الأوكرانية وتبعتها بانجاز المصالحة السعودية الايرانية واستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما بضمانة صينية.

يعتبر هذا الانجاز مثالًا نادرًا في تاريخ الصين للانخراط في الوساطة لحل أزمات إقليمية ودولية ملحة. وهو أهم إعصار سياسي حدث في الشرق الاوسط منذ عقود، وضربة كبيرة لأميركا وخرقًا استراتيجيًا كبيرًا حققته الصين في أحد أهم مناطق نفوذ أميركا وأبرز حدائقها الخلفية طاقويًا، اذ باتت الصين هي القوة العظمة القادرة على اطفاء النزاعات والحرائق التي اشعلتها اميركا، والراعية للقوى الصاعدة في الشرق الاوسط.

أما الاسباب التي دفعت ايران الى الانخراط الآن في التفاوض لانجاز هذا الاتفاق هي:

أولًا: رغم أهمية العلاقات الايرانية الروسية التركية لإنجاز الحل في سوريا عبر استانا، الا أنّ ايران تعتبر تركيا منافس استراتيجي لها على منطقة عرب اسيا.  ووفق قراءتها للرغبة الجامحة عند اردوغان للانفتاح على العالم العربي بدءًا من المصالحة مع سوريا برعاية روسيا، وبعد مصالحة اردوغان مع مصر والسعودية  ودول الخليج، ورغبة الامارات ودول الخليج بمواكبة المصالحة التركية السورية، استلحقت ايران نفسها بالانضمام الى هذه المصالحة بعد جولة وزير خارجية ايران على دول المنطقة وروسيا التي باتت الراعية للانفتاح التركي على سوريا.  وبعد الجولة المكوكية لوزيرة خارجية طهران بين سوريا وتركيا وتيقن ان هذه المصالحة تسير نحو النجاح. ولأنها والسعودية تمثل جانبين من الانقسام العنيف في كثير من الأحيان بين المسلمين الشيعة والسنة الذي تذكيه اميركا واسرائيل، ومصلحة ايران منذ بدء الثورة بوقف هذه العداوة التي يتردد صداها في جميع أنحاء الشرق الأوسط والتي لا يستفيد منه الا اميركا ودولة الكيان الزائل، وكي لا يأتي الانفتاح التركي على سوريا والعالم العربي على حساب تضحياتها ومصالحها، زار رئيس جمهورية ايران السيد ابراهيم رئيسي الصين ووقع معها 20 اتفاقية استراتيجية جديدة، وكانت المصالحة الايرانية السعودية هي احد بنود الحوار بين الرئيسين رئيسي وشي، حيث اشاد الرئيس شي بالنتائج الايجابية للحورات الامنية التي حدثت بين الدولتين في بغداد ومسقط ووعد باستضافة حوارات مكوكية لانجاز المصالحة نظرًا لدفء العلاقات الصينية تجاه إيران والسعودية .

ثانيًا: رغم اعلان ايران حيادها في الحرب الاوكرانية ورغبتها في ايجاد حل سلمي للحرب، الا ان  مسيرات شاهد 136 الايرانية التي اشترتها روسيا من ايران كان لها الاثر المهم في ترجيح كفة الحرب لمصلحة روسيا، ورغم نفي ايران تزويد روسيا بهذه المسيرات الا انها زادت من التوتر الاوروبي الايراني الذي انعكس سلبًا على انجاز الاتفاق النووي الذي يغط في سبات عميق ما جعل ايران ترفع مستوى التخصيب الى حدود ال85% مما يجعلها قادرة على إنجاز قنبلتها النووية خلال اسابيع وفق التقديرات الامريكية، هذا ان لم تكن قد انجزتها. وهناك معلومات سرت بعد زيارة رئيس الاركان الامريكي لدولة العدو وشمال شرق سوريا ان هناك تحضير لضربة عسكرية لايران تخرج نتنياهو ودولة العدو من ازماتها والحرب الاهلية المتوقعة فيها، هذا ايضا سرع رغبة ايران في انجاز اعادة العلاقة مع السعودية للتفرغ ومحور المقاومة الذي بات في جهوزية كاملة لاي حماقة قد ترتكبها دولة العدو وفق كلام سماحة سيد المقاومة التي يراها اتية وستكون بداية نهاية الكيان الزائل.

ثالثًا: قلق ايران التي تعيش تحت العقوبات الاميركية منذ الثورة الاسلامية، من الأزمات الاقتصادية التي تعيشها ودول غرب اسيا نتيجة العقوبات والحروب وتاجيج الصراع المذهبي فيها، ورغبتها في اقفال هذا النزيف وعودة العلاقات مع السعودية ودول الخليج، لأن “عودة العلاقات مع السعودية إلى طبيعتها يوفر إمكانات هائلة للبلدين والمنطقة والعالم”، وفق عبد اللهيان الذي أضاف أن “سياسة الجوار، باعتبارها المحور الرئيسي للسياسة الخارجية لإدارة (رئيس البلاد إبراهيم) رئيسي، تتحرك في الاتجاه الصحيح، ويقف الجهاز الدبلوماسي بنشاط وراء التحضير لمزيد من الخطوات الإقليمية”.

اما الاسباب التي دفعت السعودية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية والمصالحة مع ايران هي، قناعة السعودية بدور ايران القوي في مساعدتها بإيجاد حل للحرب السعودية اليمنية التي استنزفت خزائن السعودية، ورغبتها باقفال ملف هذه الحرب، خاصة بعد الخلاف السعودي الاماراتي في اليمن وتحول أبو ظبي إلى منافسة الرياض بدلًا من الحليف أو التابع لها، وأدى الصراع بين الطرفين لاغراقهما في صراعات قوضت حكومتهما في جنوب اليمن، وأنتجت سلسلة من الصراعات بين الدولتين حالت في النهاية بأن يوجه التحالف ضربة قوية للحوثي، بل تحولت مناطق سيطرة الحكومة التابعة لهما إلى مناطق صراعات مستمرة بين السعودية والإمارات.

خيبة أمل السعودية من الولايات المتحدة الاميركية خاصة في فترة حكم الرئيس بايدن الذي تربطه علاقة سيئة مع ولي العهد السعودي، اذ أن السعودية قدمت تنازلات مهمة، للإدارة الأميركية، في الملف اليمني، مقابل زيارة بايدن، الذي جعل من أولوياته الخارجية إنهاء الحرب في اليمن رغم التباينات الشديدة بين البلدين في عدة ملفات مثل حقوق الإنسان والملف اليمني. لكن اميركا لم تنهِ حرب اليمن، وبعد الهجمات الحوثية بالصورايخ والطيران المسير الذي استهدف المملكة، بدل دعم السعودية بأسلحة جديدة، سحبت عدد من منظومات الدفاع الجوي من السعودية والمنطقة. زاد توجس السعودية من اميركا بعد أن أعلنت منذ سنوات طويلة توجهًا استراتيجًيا يقضي بالانسحاب من منطقة الشرق الأوسط الى الشرق الأقصى لمواجهة الصين، والقلق من ان يحدث في الشرق الاوسط ما حدث بأفغانستان حيث انسحبت أميركا دون التطلع لحلفائها، مما جعل ولي العهد يستعجل استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران انطلاقًا من رؤية جديدة للمملكة قائمة على تفضيل الحلول السياسية والحوار، وحرصها على تكريس ذلك في المنطقة. وفق تصريح وزير الخارجية السعودي الذي تابع: “يجمع دول المنطقة مصير واحد، وقواسم مشتركة، تجعل من الضرورة أن نتشارك سويًا لبناء نموذج للازدهار والاستقرار لتنعم به شعوبنا”.

قناعة السعودية بتراجع قوة أميركا وهيمنتها على  العالم واقتناعها بسقوط نظام الأحادية القطبية ومصلحتها ببدء تشكل نظام متعدد الأقطاب سيكون العالم الإسلامي أحد أقطابه وفق استراتيجية روسيا والصين أذ صرح الرئيس الصيني ان السعودية قوة مهمة في عالم متعدد الأقطاب، مما حتم عليها السير بعودة العلاقات مع طهران عبر البوابة الصينية لحجز مكان لها في التشكل العالمي الجديد كونها الدولة الخادمة والراعية لمكة المكرمة.

أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان “رؤية 2030” وهي رؤية اقتصادية تنموية طموحة لبناء اقتصاد المملكة، بعيدًا عن عائدات النفط، تستهدف تنويع الاستثمارات، وجذب الشركات الدولية إلى المملكة، وتحسين فرص العمل للسعوديين، وتحقيق قفزات اقتصادية واسعة للمملكة، ولأن الصين باتت الشريك الأكبر للسعودية والمستثمر الأساسي في مشروع نيوم، لن يكون ممكنًا تحقيق رؤية 2030 إلا في ظل سلام دائم في المنطقة.

ختامًا: ان رعاية الشريك الصيني إنجاز عودة العلاقات الدبوماسية بين السعودية وايران يعتبر انجازًا كبيرًا للصين وضربة قاصمة للدور والنفوذ الأميركي في المنطقة. لكن الأهم الآن هو النجاح في فترة الاختبار بحل مشكلة حرب اليمن وفق الأسس التي اتفق عليها ومتابعة تنفيذها وأهمها التوصل الى حل سياسي بين جميع الأطراف اليمنية خلال أسابيع قليلة لا تتعدى مهلة الشهرين التي أتفق الجانبان الإيراني والسعودي عليها بوصفها ستكون مهلة اختبار، ستنعكس ايجابًا على العديد من الساحات خاصة سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة. لكن يبقى التحدي الأكبر لولي العهد السعودي هو قدرته على الموازنة بين محاولة تخفيف التوتر مع الإيرانيين كقوة عسكرية صاعدة في المنطقة، والتوجه شرقًا، وأيضًا السعي لضمان علاقة أخرى مع الولايات المتحدة وإسرائيل تعتقد الرياض انها ستفيدها أمنيًا وعسكريًا في مواجهة طهران، وهل ستقبل ايران بقاء هذه العلاقة؟

هذه الموازنة تمثل حبلًا مشدودًا للغاية وشديد الحساسية بدأ ولي العهد السعودي السير عليه فهل سينجح؟ أم سيحسم خياراته بالتموقع مع احد المعسكرين.